المؤمن الحقّ
يحدّثنا الفصل الإنجيلي اليوم عن طرد لروح شرير من فتى معذّب مصروع. هذا الغلام، الذي شفاه السيد من تشنّج في أعضائه، وزبد في فمه، وصرعة عامّة في كيانه، صورة لكلّ واحد منّا إذا ما تركْنا الخطيئة تتملّك في أعضائنا. كل خطيئة صرعة، كل خطيئة تشنّج، وحتّى ندفعها عنّا لا بدّ لنا من زخم يأتينا من الداخل ويتدفّق علينا من قلب الله.
نقول مع أبي الصبي: «إني أُومن يا سيد، فأَغِثْ عدم إيماني». صلاة تنبع من يقيننا بأن الله يتمّم كلّ شيء صالح فينا، وصراعنا هو بِالضبط في أنّنا متردّدون بين قوّة الله وقوّتنا.
الإنسان دائمًا يعتزّ بنفسه، بعائلته، بإيمانه بصحته، بجماله، بعلمه… بكلّ الأشياء التي تُغري فيركن الإنسان إليها. ولو قال أنا مؤمن، ولو صلّى، يظلّ متكلاً على هذه الأشياء. يؤكّد لنا السيّد هنا أن المؤمن الحق هو من صام عن كلّ شيء، هو من ردّد في نفسه أن الله هو الموجود والفعّال والمغذّي. لذلك قال لتلاميذه: «هذا الجنس لا يخرج الاَّ بالصلاة والصوم».
جواب السيد انه لا بدّ أن نتروّض على الإيمان بالصلاة، وان نجعل الصلاة تستمرّ بالإيمان. هناك تفاعل بين الصلاة والإيمان. إيماننا بالمسيح يجعل الصلاة ممكنة، والصلاة تجعل الإيمان حيًا. فإذا تفاعل الإيمان والصلاة استطعنا أن نُحجم عن الشهوات الضارّة، وكذلك اذا أَحجمنا عن الشهوات الضارّة، تزداد محبتنا لله وللقريب وينفتح قلبنا لله، فيأتي الينا ويطرد عنّا كلّ ضيم، ويُخرج من قلبنا كلّ شهوة تدغدغ نفسنا، ويتربّع في قلبنا سيدًا وحيدًا ومعزّيًا ورفيقًا.
متى أَدركنا كلّ ذلك، نُدرك أيضًا ان الصلاة تعبير عن فقرنا. انها اعتراف بأنّنا محتاجون إلى رحمة الله، وأن يأتينا هو بكلّ برّ. الإقرار بأنّنا لا شيء، وبأنّ الربّ يسوع هو كلّ شيء، هذا المعنى الحقيقي والدافع الحق للصلاة. عندما يقف المرء أمام ربّه داعيًا، ملتمسًا، مستغفرًا، راجيًا، يكون مفرّغًا ذاته من ذاته، من شهواته، قائلاً لله: تعال أنت واحتلّ هذا المكان، خذ النفس واجعلها لك بحيث لا أحيا أنا بل تحيا أنت فيّ.
هكذا، اذا تدرّبتُ على صلاة موصولة، أستطيع أن أَردّ التجارب التي تأتيني، التي تحدّث عنها يوحنا الرسول في رسالته الأولى عندما قال ان كلّ ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العين وتعظُّم المعيشة ليست من الآب بل من العالم (١يوحنا ٢: ١٦). محبّة المال، ثم محبّة الجسد، محبّة المجد، هذه كلها نحتاج إلى ان نتروّض لمكافحتها يومًا بعد يوم، أن نصوم عنها حتى تصبح هذه الرياضة الروحية عادة فينا.
الصوم يعني في أعماقه إمساكًا عن الشهوات التي تُكبّلنا. لكن هذا الصوم لا يمكن ان نحقّقه، وهذا الإحجام عن الشرور لا نستطيع ان نقوم به ما لم نُصلّ، أي ما لم نكن متّحدين بالمسيح يسوع اتحادًا قلبيًا طوعيًا، بحيث نؤمن أن الصلاة فعّالة، مطهّرة، رافعة إيّانا إلى عرش الله وملكوت المحبة.
الإيمان والصلاة والصوم متماسكة تمامًا بحيث لا نستطيع أن ندّعي الإيمان بلا صلاة، أو أن ندّعي الصلاة الحقّ بدون جهاد متّصل، ليكون الله وحده سيّدًا في حياتنا. جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما(جبل لبنان)