لماذا خلقنا الله؟
يقول الله على لسان نبييه داود المرنم "أيها الرب، كنت لنا ملجأ جيلاً فجيلاً. من قبل أن ولدت الجبال، وكونت الأرض والدنيا من الأزل وللأبد أنت الرب" [1].
ويقول ولده سليمان الحكيم في كتاب الأمثال "قبل أن غرست الجبال وقبل التلال ولدت، إذ لم يكن قد صنع الأرض والحقول وأول عناصر العالم"[2].
يظهر من الآيتين الآنفتي الذكر أن الخطة الأبدية لخلق الكون (الحالي والمستقبل)، والإنسان والتاريخ الماضي والحاضر والمستقبل، كانت موجودة في فكر الله. بالرغم من وجود بداية زمنية لخلق آدم والمخلوقات الأخرى، إلا أن خلقها في فكر الله ليس له بداية. لكي لا نعتقد بأن هناك أي تغيير يطرأ لفكر الله عندما بدأ بخلق الكون، بل أن كل شيء خلق ويخلق في المستقبل والسماء والأرض الجديدة، موجود في فكر الله غير المتغيير. كما أن الوليد المحبول به في رحم أمه، لا يعرف الأم التي تحمله ولا يشعر بوالده الذي كان سبب الحبل به، هكذا أيضاً آدم عندما كان في فكر الله الخالق كان لا يدركه، إلى أن ولد فعرف نفسه أنه مخلوق ولم يبقى عند هذه المعرفة إلا ست ساعات وطرأ عليه تغيير، حيث تغير من المعرفة إلى عدم المعرفة، ومن الخير إلى الشر. لذلك كانت صورة آدم في فكر الله قبل أن يخلق الكون كما يقول المزمور أعلاه. لذلك فأن آدم أقدم من الجبال والمخلوقات الأخرى من حيث وجوده في فكر الله، لكن الجبال والمخلوقات الأخرى قبله من حيث الولادة [3].
لا يهتم العهد القديم بالخلق بغية إرضاء حب إستطلاع الإنسان لحل مشكلة أصل العالم، فهو يرى فيه قبل كل شيء نقطة إنطلاق لقصد الله ولتاريخ الخلاص، وأول أعمال الله العظيمة التي تمتد سلسلتها في تاريخ إسرائيل. وهناك علاقة بين القوة الخالقة والهيمنة على التاريخ فبصفته خالق العالم وسيده، يستطيع الله أن يختار نبوخذنصر (إرميا 27 : 4 – 7) أو كورش (إشعيا 45 : 12 – 13) لتحقيق مقاصده في هذا العالم.
لا تتم الأحداث إلا بأمره تعالى، فهو، بكل معنى الكلمة، يخلقها (إشعيا 48 : 6 – 7). وهذا ينطبق بصورة خاصة على الأحداث البارزة التي حددت مجرى مصير إسرائيل، مثل إختيار شعب الله الذي خلقه الرب وهديه (إشعيا 43 : 1 – 7 )، والخلاص الذي قدمه له في الخروج من أرض مصر (راجع 43: 16 – 19). ولهذا يضم أصحاب المزامير هذه الأحداث، في تأملاتهم في التاريخ المقدس، إلى عجائب الخلق، ليرسموا بها صورة كاملة لمعجزات الله (مزمور 135: 5 – 12 ، 136 : 4 – 26). وإذ يدخل فعل الخلق في مثل هذا الإطار، فهو ينتقى تماماً من التنصورات الآسطورية التي كانت تشوهه في الشرق القديم. ومنذئذ، يستطيع المؤلفون الملهمون، لكي يكسوه ثوباً شعرياً، أن يستعينوا بدون خزف، بصور الأساطير القديمة التي قد فقدت قدرتها على الأذى.
فيصبح الخالق بطلاً في معركة رهيبة ضد الوحوش التي تمثل الخواء: "رهب أو لاوياثان" فقد سحق الله (مزمور 89 : 11) هذه الوحوش، وطعنها (إشعيا 51 : 9 ، أيوب 26 : 13) وهمشها (مزمور 74 : 13) لم يدمرها نهائياً بل تركها غافية (أيوب 3 : 8) ، مقيدة (أيوب 7 : 12 ، 9 : 13). مبعدة في البحار (مزمور 104 : 26)، وكان الخلق لله بمثابة النصر الأول. وفي التاريخ، تمتد سلسلة المعارك التي قد تصفها الصور نفسها: ألا يتضمن الخروج نصراً جديداً على وحش الغمر العظيم (إشعيا 51 : 10)؟ وهكذا نجد دائماً، عن طريق الرموز، تمثل الأحداث التاريخية العجيبة ذاتها لعمل الله الأصلي الأعظم.
قد يكون معنى "الخلق" كل المخلوقات (رومية 8 : 19)، أو فعل الخلق ذاته (مرقس 10 : 6) ومعنى الخلق هو إبداع الأشياء التي لم يكن لها وجود. والفاعل في الفعل "خلق" هو الله دائماً. فالله خلق السموات والأرض. (تك 1 : 1) والحياة المائية والهوائية (عدد 21) والإنسان (عدد 27)، والكواكب (إشعيا 40 : 26). والريح (عاموس 4 : 13) وهو الذي خلق القلب النقي الطاهر (مزمور 51 : 10). والرب أمر فخلقت السموات بكل أجنادها وملائكتها، والشمس والقمر والنجوم والمياه التي فوق السموات (مزمور 148 : 5) لقد تكلم فصنع كل شيء، وهو القدير العزيز الحكيم. عليه تتوقف حياة كل المخلوقات، وبيده يرعاها ويصونها، وإختفاء وجهه عنها يهلكها، ونسمته المبدعة تجدد الحياة على الأرض (مزمور 104 : 27 – 30). وقد خلق الله العالمين "بالكلمة" الذي هو "الأبن" (يوحنا 1 : 3 وأفسس 3 : 9 وكولوسي 1 : 16 وعبرانيين 1 : 2). وتنقسم قصة الخليقة إلى جزئين، يكمل أحدهم الآخر. ففي الجزء الأول (تك 1 : 1 – 2 :3) يستعمل اسم الجلالة "الله". وفي الثاني (تك 2 : 4 – 25) "الرب الإله" يشير الجزء الأول إلى خليقة كل الكون، أما الثاني فإلى خليقة الإنسان، وهو فاتحة قصة سقوط الإنسان وفدائه. وفي سائر الأحوال، الله هو المسيطر على شؤون العالم والبشر، وكل الأشياء مرتبة بحكمة، وتهدف إلى قصد حكيم في الكون ونحو الإنسان.
أما الأيام الستة فتشير إلى ستة أعمال في مدد إلهية تنتهي بالراحة الإلهية (تك 2 : 2 - 3) وكان العمل الأول خلق النور المنتشر، والعمل الثاني تنظيم للسموات، وفصلها عن سطح الأرض بواسطة الجلد. والعمل الثالث فصل المياه عن اليابسة وخلق النبات. والعمل الرابع إظهار نور الشمس والكواكب عن طريق تكسير الأبخرة. والعمل الخامس خلق الحياة الحيوانية الدنيا في الماء والهواء. والعمل السادس خلق الحيوانات البرية والإنسان الذي خلق على صورة الله. وفي اليوم السابع استراح الله من عمله وبدأ يمارس وظيفة "الحارس" المدبر فبارك ما خلقه، وعين للإنسان يوم راحة في الاسبوع لخير النفس والجسد.
ويعتقد بعض المفسرين أن لفظة "يوم" لا تعتبر بالضرورة مدة أربع وعشرين ساعة، ويقولون أنها بالأرجح تشير إلى مدة جيولوجية طويلة الأمد. ولتأييد رأيهم يقولون أنه كثيراً ما استعملت لفظة "يوم" في الكتاب المقدس للدلالة على مدة أكثر من يوم شمسي، كيوم الأشرار، ويوم النقمة، ويوم الدينونة، ويوم الخلاص وألف سنة في عيني الرب كيوم واحد (مزمور 90 : 4 و 2 بطرس 3 : 8).
ومما هو جدير بالذكر في فهم قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين هو أن الله خلق الكون ولم يتركه لذاته ولشأنه كما يزعم بعض الفلاسفة. أن قوته لا زالت عاملة في الكون خالقة مسيرة وحافظة. ثم أن الكتاب المقدس يعلمنا شيئاً آخر من عمل الله في الخلق، فمكانة الله في الخلق وفق تعليم الكتاب المقدس تختلف عن فكرة أرسطوطاليس الذي يتحدث عن العلة الأولى، وكأن لا اتصال بين الله وبين الخليقة سوى عن طريق سلسلة من العلل والمعلولات. فإن الكون وما فيه من صنع الباري اليوم كما كان يوم أبدعه أولاً. فهو الكل وفي الكل كما يناقض تعليم أرسطوطاليس عن أزلية المادة إذ أن الكتاب المقدس يعلمنا بأن للمادة بداية. ثم أن الكتاب المقدس في تعليمه عن الخلق يناقض الحلوليين الذين لا يفرقون بين الخالق وخليقته بل يمزجون بينهما فالله ليس الخليقة وليست الخليقة الله. وقد خلق العالم بمحض حريته لا كما يقول الغنوسيون بأن الخلق عبارة عن إنبثاق من الله يشبه التوالد الذاتي، فصدر عنه كضرورة لا محيص منها. أنه مبدع الكائنات وهي في وجودها وسيرها وبقائها وانتظامها تعتمد عليه بما أنه الخالق والمسير والحافظ والمدبر لها ولكل ما يتصل بها.
ومع أن مهمة الكنيسة هي أن تعلمنا عن مكانة الله في الخلق والخليقة إلا أن ما تعلمنا إياه لا يتناقض مع العلم الصحيح الذي ثبتت صحته من غير شك.
ويظهر لنا الله في سفر التكوين "شخصاً" لا مجرد قوة كما يزعم البعض، ويتمثل لنا عاملاً في خلق العالم وكل ما فيه من لا شيء. واسمى أعمال الله في الخلق هو الإنسان ذروة الخليقة، والذي خلقه من فرط محبته له، وهو يعمل في الكون وفق نواميس وشرائع ثابتة، وإيماننا بالله يتسامى فوق كل الفروض والنظريات العلمية. وتؤيد لنا القصة أن الخليقة لم تكن وليدة الصدفة، بل من تدبير إله حكيم، مدبر عاقل، قادر على كل شيء يتكلم فيطيعه الخلق. وقد ثبت لدى العلماء أن بعض قصة الخليقة كما جاءت في سفر التكوين وردت أيضاً في الآثار الآشورية في لوحات من فخار. ولكن القصة الآشورية مضطربة ومفككة، حافلة بأساطير الأقدمين يصعب فهم معانيها في كثير من المواضع. أما قصة سفر التكوين فمسلسلة ومرتبة ترتيباً محكماً. فضلاً عن هذا فإن القصة الآشورية تذكر عديداً من الآلهة، أما قصة التكوين فتحدثنا عن إله واحد، هو خالق السموات والأرض، ورب العالمين.
[1] مزمور 90 .
[2] أمثال 8 : 25
[3] كتاب النحلة لمار شليمون أسقف البصرة وفرات ميشان