إن أراد أحد أن يأتي وراء المسيح الرب، عليه أن يأتي بكامل حريته واختياره الشخصي تحت مسئولية إرادته، كما أن عليه أن يصغي لكلامه الذي قاله، لأنه حدد الطريقة الوحيدة للمسيرة السليمة في تبعيته والتي لم ولن يوجد غيرها أبداً، لأنه لا يصح أن نخترع طريقة أُخرى نسير بها وراءه مهما ما كان شكلها رائع ومعناها الروحي عميق، ولا نضع شروطاً حسب دراستنا ومعرفتنا ولا بتأملاتنا الخاصة حسب ما يُمليه عليه فكرنا الذي نظن أنه مستنير وفاهم الأمور الصحيحة والسليمة في كمال معناها لأنه سهر عليها ودرسها بكل دقة وتدقيق، أو نقف أمام كلماته ونتساءل لماذا هذا التحديد؟، بل ينبغي أن نستمع إليه ونصغي لكلماته لنُطيع وننُفذ بتواضع ومحبة، لأنه حدد لنا المسيرة قائلاً: [إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ].
وبالرجوع لكلمة (أَرَادَ) فأننا نجد أن هذه الكلمة التي نطق بها شخص المسيح الرب في الإنجيل أتت في اليوناني بكلمة θέλει والكلمة هنا من الفعل θέλωوتعني (desire): إبْتَغَى؛ أَرَادَ؛ أرَادَه؛ إشْتاق؛ إشْتاق إلى؛ إشْتاق لِ؛ إشْتَهَى؛ تاق، وهي تُعبِّر عن رغبة داخلية حُرة مسئولة، ولذلك فأن العبارة (إِنْ أَرَادَ) هي عبارة شرطية، تأتي هنا لتوضيح وإظهار شرط التبعية حسب قصد الرب: إن أراد أحد يأتي ورائي (فأن عليه الآتي) ينكر نفسه.
لذلك فأن الذي يأكله الشوق في قلبه ويبتغي أن يتبع مسيح الحياة على مستوى الواقع العملي، عليه أن ينكر نفسه أولاً ليستطيع أن يحمل صليبه كل يوم ويتبع المسيح الرب إلى الجلجثة لكي يُصلب فعلياً فيموت معه واقعياً، ومن ثمَّ يتذوق قيامته لتصير خبرة حقيقية في حياته الشخصية، فيبلغ معه لحضن الآب، لأنه بدون [إنكار النفس] لن يستطيع أحد أن يحمل صليبه بقبول ورضا مع الشكر، وبدون حمل الصليب يستحيل – في المطلق – الموت مع المسيح، وبدون موت معهُ لا قيامة لأحد: لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ (رومية 6: 5)، وبدون القيامة يتعذر علينا أن نسكن حيث المسيح الرب جالس وكائن: "في حضن الآب".
لأن من يسكن في مجد الابن الوحيد لا بُدَّ من أن يحمل نفس ذات الطبيعة السماوية لأنه مولود من فوق [اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ – يوحنا 3: 6]، والمولد من فوق صارت لهُ طبيعة البرّ والنور، وبالتالي يستطيع أن يسكن في وطن النور، لأن الله قدوس، نور وساكن في النور، فكيف للظلمة أن تعيش في النور، لذلك فأنه بدون موت وقيامة مع المسيح فأننا لن نلبس المسيح، وأن لم نلبس المسيح ونصير خليقة جديدة طبعها طبع سماوي، كيف نتواجد في حضن الآب، لأن كيف نحتمل نور المجد السماوي ونحن عراه من المسيح الرب النور والقيامة والحياة، لذلك يقول الرسول: لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ (εἰς = into) قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ (والمعنى هنا القصد منه المشاركة أي اعتمدتم في المسيح فلبستم، أي الدخول في المسيح للبس المسيح)؛ وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ. (غلاطية 3: 27؛ كولوسي 3: 10)
وبناء على ذلك، فأن كنا عُراه من المسيح الرب فستكون حياتنا المسيحية مجرد شكل، وستصير عندنا مجرد أفكار ونظريات غير قابله للتطبيق على أرض الواقع، بل ستظل حبيسة الانفعالات النفسية المتقلبة، أو حبيسة العقل وكتب اللاهوت وأفكار الفلسفة وأبحاث من يدَّعوا انهم مستنيرين، أو الظاهر أنهم مُعلمي التقوى والفضيلة، لأنهم يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ (متى 23: 4)، لأن رسالة الخدمة الروحية وتقديم التعليم اللاهوتي نفسه (حسب مشيئة الله وإعلان تدبيره) تستحيل – بشكل مُطلق – بدون التبعية الفعلية للمسيح الرب حسب الشرط الذي وضعه وهو انكار النفس وحمل الصليب (كل يوم) وتذوق خبرة الموت مع المسيح فعلياً وواقعياً:
وعلينا أن نركز في كلمة فَلْيَتْبَعْنِي لأنها أتت في الإنجيل بكلمة (ἀκολουθείτω) وهي أتت بعدة معاني: follow – attend – accompany والكلمة تحمل في باطنها معنى الإيمان (follow: believe in) فالتبعية هنا أساسها الإيمان، ولذلك فالكلمة تحمل عدة معانٍ متنوعة كثيرة جداً تُفيد معنى التبعية نتيجة الإيمان وكيف تكون: اِسْتَمَعَ – رافَق – اِسْتَصْحَبَ – أقْبَل على – حافَظ ولَزِم، يلازم أو لازَم – اِتَّبَعَ – أَطَاعَ – إلْتَزَم – إمْتَثَل – اِنْتَهَجَ – تَقَيّد بِ – ثَبَت على – خَضَع لِ – سَلَكَ – طاوَعَ – لاحَق – واظَب وداوَم.
عموماً باختصار وتركيز فأن معنى فَلْيَتْبَعْنِي ἀκολουθείτω = مُتَابَعَة ؛ مُلاَحَقَة ؛ مُوَاصَلَة.
فطريق الحق للحياة مع المسيح وتبعيته بإخلاص، يبدأ بإنكار النفس والتخلي (من جهة الاتكال) عن معارفها الروحية واللاهوتية الفلسفية وحتى الانفعالية النفسية، ونسيان كل لذاتها ورغباتها وكل ما تشتهيه في هذا العالم الحاضر الشرير، وذلك بكونها أحبت المسيح الرب الذي دعاها بالمجد والفضيلة لتكون قدساً خاصاً به، لتدخل في شركة الطبيعة الإلهية هاربة من الفساد الذي في العلم بالشهوة. (2بطرس 1: 3 – 4)