رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الاتضاع ليس في أن تُفكِّر في نفسك قليلاً، بل أن تضع نفسك في موضع الأقل أو أقل من الأقل. فحينما قال المسيح مَثَل ”المتَّكأ الأخير“ (مت 14: 10)، أخذ البعض يقفون في آخر صف في الكنيسة، وصاروا يحسون أنهم بهذا قد بلغوا الاتضاع. فقال أحد الآباء الروحانيين: إن المقصود أن نقف في ما هو خلف المتَّكأ الأخير! قاصداً بهذا أن نلغي من فهمنا المعنى الحرفي للآية التي جعلت مثل هؤلاء ينتظرون أن يأتي مَن يدعوهم إلى المتَّكأ الأول: «يا صديق، تعالَ وارتفع إلى فوق» (لو 14: 10). لذلك قال القديس مار إسحق السرياني: ”الذي يتضع لكي يُكرمه الناس، الله يفضحه“. لهذا، فالسعي يجب أن لا يكون مباشرة لهدف الاتضاع، بل في أن نتعود على عدم الانتباه للنفس: ماذا نفعل؟ وكيف نُعامَل؟ وبدلاً من ذلك أن تكون حياة الإنسان هي: ”الشكر على كل حال، ومن أجل كل حال، وفي كل حال“. إنه نسيان الذات المبارك، وتذكُّر وشُكر الله على نِعَمه وإحساناته لنا كل يوم . إن خلاصنا الأبدي لم يكن ممكناً أن يتم بأقل من موت المسيح على الصليب من أجلنا. كان لابد أن يموت المسيح من أجلنا. لكن محبته كانت شديدة جداً من نحونا، حتى أنه احتمل الصليب ورَضِيَ بالموت من أجلنا، مستهيناً بالخزي. كل ذلك من أجل السرور الموضوع أمامه الذي هو خلاصنا (عب 12: 2). وكلما وضعنا هذه الصورة لاتضاع ووداعة المسيح من أجلنا، كلَّما تحوَّلت حياتنا من الداخل، ودون أن نحسَّ أو نلاحِظ، نقترب شيئاً فشيئاً من تواضع المسيح ووداعته. ? إن ما يفسد جهادنا الروحي، هو أننا نلجأ إلى الكلمات التي نظن أنها هي التي تُدخِلنا إلى الاتضاع. فقد طلب أحد الآباء في البرية من تلميذه أن يقوم بعملٍ ما، فطأطأ التلميذ رأسه وردَّ على مُعلِّمه: ”لستُ مستحقاً يا أبي أن أقوم بهذا العمل“. وبعد أيام كثيرة نَسِيَ فيها الاثنان هذا الموقف، لاحظ الأب أن هذا التلميذ قد أتى عملاً يستحق عليه المراجعة. فلما راجعه، تقول القصة في كتاب ”بستان الرهبان“ أن وجه التلميذ ”احمرَّ كالليث“، أي غضب من مراجعة الأب له. فذكَّره الأب بما قاله من أيامٍ كأنه اتضاع، والآن انكشف أنه كان بالكلام فقط. وهذا الأسلوب شائع في المجال الديني، أي استخدام ألفاظ التواضع، ظانّاً مَن يستخدمها أنها هي التي تُدخِلنا إلى التواضع. لكن العلاج كامنٌ في كلمات المسيح حينما قرن ”التواضع“ بـ ”الوداعة“. فالوداعة تتميَّز بالبساطة، وبتلقائية التصرُّف الطبيعي. فكلما انطبعت الوداعة على سلوكنا، كلما انساب التواضع في حياتنا دون أن ندري أو نحس، فلا نقع في الكبرياء. ? ومن بين مظاهر الكبرياء المغلَّف بالتواضع، حينما يحس الإنسان في نفسه بازدياد المعرفة الروحية أو بإتيان أعمال مجيدة؛ فإن ذلك ينعكس على الرغبة في التغلُّب على الآخرين في المجادلات. فإذا انعكست الوداعة على حياتنا، فستكون حاجزاً منيعاً ضد هذا الكبرياء المغلَّف بالتواضع. ? والوداعة تدخل ضمن ثمار الروح القدس، كما وردت في رسالة غلاطية 5: 23. فالحياة الممتلئة بالروح لابد أن تظهر فيها ثمرة ”الوداعة“ ومعها ”طول الأناة“ و”اللطف“، وهذه الثلاث ثمار هي التي تحمي التواضع من الانزلاق على أرضية التواضع الزلقة، التي قد تقود إلى الكبرياء المُهلك. ? وحينما نقبل كلمة الله في الإنجيل ونتأملها ونستوعبها، فإنها تدخل عميقاً في قلوبنا وعقلنا وفكرنا، حتى أنها تقودنا لنبدأ أن نعيش الإنجيل تلقائياً، دون أن نحس أننا عملنا برّاً؛ فنسمع صوت المسيح القائل: «متى فعلتم كل ما أُمرتم به، فقولوا إننا عبيد بطَّالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا» (لو 17: 10). وهذا هو لُبُّ التواضع. وهذا هو عيد ميلاد الاتضاع. |
|