أغلى كيس بلح فى العالم

[walaa farouk]

كتير جدا من الأطباء (بدون أى تعميم).. لو جيت تنده عليهم أو تكلمهم وانت ماتعرفهمش وقولت يا (أستاذ) أو يا (باشمهندس) يرد عليك بسرعة وأحيانا بغضب قائلا: اسمى (دكتور) فلان.. تستغرب وتبقى مش فاهم هى هاتفرق إيه يعنى.. ماكلنا بنى آدمين زى بعض.. الدكتور زى الأستاذ زى المهندس.. إيه المشكلة.. إيه اللى مخليه ياخد الموضوع بحساسية كده..
أقولك يا سيدى إيه اللى مخليه ياخد الموضوع بحساسية كده..
بالنسبة لكتير من الدكاترة (ودى مش قاعدة).. كلمة (دكتور) ليها بعد وجودى..
يعنى إيه بعد وجودى؟
تعالى نشوف الحكاية من أولها..
هذا الشخص الواقف أمامك، كانت أسرته بتوصله (غالبا) إنه هو الأمل.. وإنه هو المشروع الاستثمارى.. وإنه هو عبقرى عصرى ونابغة زمانه.. كان بيشوف فى عيون أبوه حلم النجاح والتفوق.. وكان بيشوف فى اهتمام والدته بيه خصوصية شديدة..
هذا الطفل المسكين اتعلم فى البيت إن النجاح معناه إنه يجيب عشرة من عشرة ويطلع الأول.. وفيما عدا ذلك فهو فشل.. واتعلم فى المدرسة إن الطالب الشاطر بيتقال عليه (دكتور) وهو لسه فى اعدادى.. واتعلم فى الشارع والمجتمع إن كلية (الطب) هى أعلى كليات (القمة).. والباقى أكيد كليات (القاع)..
الراجل ده تم تجريف معظم (إن لم يكن كل) مواهبه الفنية والأدبية والرياضية وغيرها باسم (التفوق الدراسي).. وتم دفن أحاسيسه ومشاعره عن عمد فى دراسة صماء وامتحانات جوفاء مافيهاش غير التوتر والأرق اللى يخلى أى حد يكره نفسه ويكره حياته ويكره الدنيا كلها.. وضاع من سنين عمره أجملها وأحلاها، لهثا وراء الدرجات والنتيجة والبكالوريوس.. كل ده فى سبيل يافطة صغيرة مكتوب عليها (دكتور)..
الشخص ده مهما وصل لمناصب ومهما جمع فلوس فهو موقفه عامل بالظبط زى موقف عادل إمام فى فيلم (كراكون فى الشارع) وهو ماسك كيس (البلح) اللى أخده من الراجل النصاب اللى دفعله تحويشة عمره فى شقة مالهاش وجود، وبيقول ليسرا (ده أغلى كيس بلح فى العالم)..
الشخص ده بيكون جواه سؤال وجودى عميق جدا بيسأله لنفسه وهو فى بداية حياته (عند حوالى سن الأربعين كده): هو الموضوع كان يستاهل كل ده؟
الشخص ده مش بيتبقى معاه من كل الرحلة البائسة دى غير كلمة (دكتور) اللى لو اكتشف من جواه إنها كانت أكبر خدعة اتخدعها فى حياته، ممكن يتجنن أو يقتل أو ينتحر.. علشان كده الكلمة دى بالنسبة له تمثل وجوده.. وهويته.. اللى لو اتهزوا أو اتشكك فيهم بأى درجة.. يتحرك جوه عقله الباطن خوف شديد ورعب هائل من خطر السحق والعدم وفقدان الهوية.. علشان كده بيدافع عنها بكل قوته وعنفوانه وغضبه.. وأنا هنا باتكلم عن المعنى النفسي البحت مش المعنى المادى أو الاجتماعى.. وباتكلم عن نموذج بعينه مش عن كل الدكاترة طبعا..
عاوز أقول للشخص ده بكل هدوء (الشخص المهتم أوى بلقب "دكتور"):
ياريت تكتشف إنك اختزلت نفسك فى مهنتك زى ما اختزلوك زمان فى درجاتك..
وإنك عرفت نفسك بلقبك زى ما عرفوك زمان بمجموعك..
وإنك قيمت نفسك بيافطتك زى ما قيموك زمان باسم كليتك..
وعاوز أقول لكل حد بيقرا الكلام ده دلوقت، لأن الموضوع ده بيتكرر فى مهن ووظائف كتير غير الطب:
ماينفعش وظيفتك أو مهنتك تكون هى معنى وجودك..
ولا لقبك يكون هو هويتك..
ولا يافطتك تكون هى قيمتك..
مش هانسى أبدا أستاذى الانجليزى اللى كان أحد علماء التحليل النفسي فى العالم، وهو بيقوللى: اندهلى باسمى.. مش أنا باندهلك باسمك! وعرفت بعدها إن الطبيعى هناك إن الناس تنده بعض بأسماءها الأولى بدون ألقاب- إلا فى المواقف الرسمية..
مش هانسى كمان أول مرة حضرت فيها حفل زفاف لأحد زملائى فى القسم.. وكنا كلنا لابسين بدل وكرافتات وفى منتهى الأناقة، وكان أستاذى الحبيب د.رفعت لابس قميص وبنطلون عاديين جدا.. ولما سألت أحد زملائى الأكبر وقولتله: ياه.. شوف التواضع.. قاللى: ده مش موضوع تواضع.. هو عارف إن قيمته مش فى لبسه أو مظهره.. قيمته فى حقيقة نفسه.. ونوعية وجوده..
عاوز أؤكد إن كلامى لا يعنى التقليل أو التهوين من الألقاب إطلاقا.. لكنى باتكلم عن (الحرص الشديد) على الألقاب..

#