رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إحنا فقرا قوى! إحنا فقرا قوى! فاطمة ناعوت «لِك نِفْس تحبّ وتعشق؟! يا بجاحتك يا أخى!».. هذه واحدة من أشهر العبارات التهكمية فى الدراما المصرية. وضعها «نجيب محفوظ» على لسان الأم الأرمل المُعدمة التى تركها زوجُها ورحل تاركًا لها أربعةً من الأبناء. كبيرُهم عاطلٌ يتعيّش من حماية الراقصات، وصغيرُهم ضابطٌ انتهازى أنانى لا يهتم إلا بصالحه ولو على حساب أشقائه. وفيما بينهما فتاةٌ فاتها قطارُ الزواج واضطرّت للتفريط فى عِفّتها تحت ضغط الحاجة والعوز لتُلبّى حاجات أشقائها وأمّها الأرمل، وشابٌّ جادٌّ مكافح متعلّم، هو الرجاءُ الأوحد لتلك الأسرة المنكوبة. جاء ذلك فى رواية «بداية ونهاية» ١٩٤٩، التى جُسِّدت فيلمًا فى مطلع الستينيات الماضية، من إخراج عظيم الكاميرا الواقعية: «صلاح أبوسيف». قالت الأمُّ المطحونة تلك الكلمات الموجعة لابنها الأصغر حين علمت أنه يحبُّ فتاة ويواعدها، فصدمها أن تواتى ذلك الابنَ «البجاحةُ» التى جعلت قلبَه يخفق بالحب والغرام بينما لا يجدون خبزًا حافيًا لقوت يومهم، أو خِرقة بالية تستر أبدانهم المهزولة بالجوع. فهل من مكان للحب؟!، وهل من وقت للعشق؟!. ورغم أن أحداث الدراما قد كوّنت فى مخيلتنا صورة كاملة عن فقر تلك الأسرة المخيف، وعَوَزهم الذى دفعهم لبيع أثاث البيت، ودفع الابنة إلى امتهان البغاء سرًّا مقابل قروش زهيدة تفى بضرورات الحياة، إلا أن العبارة القاسية صدمتنا جميعًا حين سمعناها من الأمّ الكادحة. فاجأتنا. كأننا «لم» نكن نعرف. رغم أننا نعرف. فلماذا صدمتنا كلماتُ الأم؟!، هذا ما يحدث دائمًا. كفيفُ البصرّ يعلم أنه أعمى، ولكنه يُصدَم إن أخبره أحدٌ بأنه أعمى. كذلك صدمتنا كلمةُ الرئيس حين هتف فى لقائه الجماهيرى الأخير قائلا: «محدش قالكوا إننا فقرا قوى؟!»، لماذا صُدمنا؟، ألم يكن يعرف ثلاثون مليون مصرى يعيشون تحت خط الفقر أننا فقراء؟، ألم يكن يعرف بقية السبعين مليون مصرى المتأرجحين حول خط الفقر لا يبرحونه أننا فقراء قوى؟!، ألم تكن تعرف الشريحةُ الضئيلةُ من أغنياء مصر ومتوسطى الدخل ممن استطاعوا برحمة الله النزوح قليلا عن خط الفقر، أننا فقراء جدًّا؟!، جميعُنا نعرف فقرنا ونعيش فقرنا ونعانى الأمرّين كالبهلوانات حتى يمرُّ الشهرُ دون ديون جديدة تُثقِل كاهلنا وتُطوّق أعناقنا بالحاجة والذل. فلماذا صدمتنا كلمةُ الرئيس الموجعة؟. فى تقديرى لسبيين. الأول: لأن قائلها لنا هو «ربُّ البيت». الشخص الذى يُعوِّل عليه أبناءُ البيت أن يحلّ أزماتهم. وهو بالمصادفة، حال الكلام عن السيسى، ذاتُ الشخص الذى أنقذنا من فاشية الإخوان وردّ لنا مصرَ المخطوفة وأعطانا الأمل فى غد «قريب» ستكون فيه مصرُ «أم الدنيا» وفق تعبيره. فلماذا تأخر هذا «الغدُ» ولم يأت؟ وهل يأتى؟ تلك أسئلة جالت فى عقل كل مصرى استمع إلى تلك الجملة الموجعة: «محدش قالكوا إننا فقرا قوى؟» فى فيلم بداية ونهاية، لو كانت تلك الجملة «أنتم فقراء» قد وردت على لسان أحد الأشقاء لشقيقه، أو على لسان أحد الجيران لأى ابن من أبناء الأسرة الفقيرة، ما كان لها نفسُ الأثر الموجع، مثلما وردت على لسان الأم. وتلك عبقرية «نجيب محفوظ»: أن وضع المأساةَ على لسان ربّة الأسرة، لتُفقد الأبناءَ أى أمل فى غدٍ أجمل، ما دامت الأمُّ (ربّ الأسرة) قد وضعت كلمةَ النهاية الفاصلة لتوصيف المأساة التى تحياها الأسرة المعدمة. وكأن عقول الأبناء قد أكملت الجملة تلقائيا لتغدو: «احنا فقراء وسنظل فقراء للأبد. اقتلوا الرجاءَ فى قلوبكم.!» فنحن، المصريين، لم نتمرّن على ثقافة «العمل الجماعى» و«المسؤولية الجماعية». عشنا منذ عقود طوال، إن لم أقل منذ قرون، على ثقافة دولة «الرجل الواحد». لهذا نحتاج أن نعرف أننا فى لحظة «حرب» شرسة ضد عدوّين خسيسين: الإرهاب وعجز الموازنة. ولن تمرّ تلك اللحظة بسلام دون مضاعفة العمل، ومضاعفة الصبر والجَلد. السبب الثانى لصدمتنا من كلمة الرئيس هو شعورنا بأن هناك: عدد ٢ مصر، وليس مصر واحدة، كما قالت البنت الفقيرة فى فيلم «يوم للستات» بطولة إلهام شاهين وإنتاجها. مصرُ الفقيرةُ للكادحين الذين يبحثون عن طعامهم داخل صناديق القمامة ويعدّون قروشهم النحيلة فلا تكفى كسرات خبز وبعض أسمال تستر عُريَهم. ومصرُ الباذخةُ التى أصحابُها يأكلون الكافيار ويسكنون القصور ويركبون السيارات الفارهة والبيتش باجى على شواطئهم الخاصة. وقد يغفرُ الفقيرُ ثراءَ ثرى ورث ثراءَه عن آبائه أو حصّله بجهده وعمله، لكنه لا يُسامح أن يرى ذلك الثراء الفاحش فى يد من اختاره نائبًا عنه ليكون صوتَ الفقير والمريضَ والمظلوم. قهرتنا كلمةُ الرئيس حين تزامنت مع شراء أعضاء البرلمان سيارات مصفّحة باثنين وعشرين مليون جنيه، بينما نحن «فقرا قوى!».. السؤال هو: من أين للفقراء هذا؟، والسؤال الثانى: ممَ يخاف النواب ليختبئوا داخل سيارات مصفحة؟.. مصر غنيّةٌ بمواردها وشعبها وتراثها، لكن الخللَ وسوء الإدارة يسكنها. |
|