03 - 07 - 2012, 05:27 PM
|
|
|
..::| الاشراف العام |::..
|
|
|
|
|
|
قال بالليديوس: كان موسى أسود اللون([1])، وكان خادمًا عند أحد ذوي السلطان، ثم غضب عليه سيده بسبب سلوكه وسرقته فطرده، وقيل إنّ هذا حدث بعد أن ارتكب جريمة. وإنني لمضطرٌ أن أروي بعضًا من شروره لكي يظهر عظم إيمانه وتوبته:
قيل إنه صار رئيسًا لعصابة لصوص، ومما يُروى عن شروره أنه حقد ذات مرةٍ على راعي غنم لأنه في إحدى الليالي وقف هذا الراعي بينه وبين غنمه ومعه كلابه. فأراد أن يقتل الراعي وبحث عن حظيرة غنمه فعلم أنـها كانت عبر نـهر النيل. وكان النهر في ذلك الوقت في أقصى علو فيضانه، وكان عليه أن يعبر النهر مسافة ميل كامل، فوضع سيفه بين أسنانه ورداءه على رأسه وعبر النهر عائمًا حتى الضفة الأخرى. وأثناء ذلك أستطاع الراعي أن يختفي منه بين الرمال. ثم اختار موسى أربعة كباش من القطيع وذبحها وربطها كلها بحبل واحدٍ ورجع بـها عائمًا …! ثم سلخ جلد الكباش وأكل أفضل أجزاء لحمها وباع الجلد ليشتري خمرًا، وشرب منه كمية كبيرة وسار مسافة خمسين ميلاً راجعًا إلى مكان عصابته، وفي اليوم التالي استردّ وعيه في وقـتٍ متأخــر([2]).
وقيل إنّ موسى قبل توبته قتل حوالى مائة نفس، وكانت حياته كلها سلبًا ونـهبًا للقوافل المارّة على الطرق الكبيرة، وكان له بين زملائه صيتٌ في الوقاحة والجرأة في السرقة والقتل حتى إنّ زملاءه - الذين قيل إنـهم كانوا سبعين لصًا - اتخذوه رئيسًا لهم بالتزكية. وكان قويًا في جسده يُفرِط في الأكل والشرب والسكر.
ثم سمع موسى عن رهبان برية شيهيت وطهارة سيرتـهم، فتطلّع إلى الشمس التي لا يعرف غيرها إلهًا وقال لها: “أيتها الشمس، إن كنتِ أنتِ الإله فعرِّفيني”، وكأنه كان يقول في نفسه: “أيها الإله الذي لا أعرفه عرِّفني ذاتك”. فلم يتركه الله دون إجابة([3]).
سأل إخوة شيخًا: “قيل عن أنبا موسى الأسود إنه بينما كان متقلِّبًا مع أصحابه قطّاع الطرق في أفعالهم القبيحة أدركته فكرةٌ صالحة فذهب إلى البرية، فإذا كان هذا من عمل نعمة الله فلماذا لم يتم قبل ذلك الوقت”؟ فقال الشيخ: “كل فضيلة هي من نعمة الله كما قال الرب: ~بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا} (يو15: 5)، إلاّ أنّ فعل النعمة يكمل باختيار إرادة الإنسان، وهي لا توقظ الإنسان إلاّ عندما يعلم الله أنّ فكره قد مال إلى الخير، وذلك حفظًا لحرية إرادته، وحينئذٍ توقظه النعمة، فإذا اختار الخير يكمل فيه عمل النعمة كما حدث لإبراهيــــم”([4]).
تذكّر موسى رهبان برية شيهيت، فذهب إليهم حاملاً سيفه ليستكشف أحوالهم. وكان أول مَنْ قابلهم هو القديس إيسيذورس الذي ذُهِل من منظره المرعب، فسأله قائلاً: “ماذا تريد يا أخي هنا”؟ فأجابه: “سمعتُ أنك عبد الله الصالح، لذلك هربتُ وأتيتُ إليك لكي يخلِّصني الإله الذي خلَّصك”. وظلَّ يطلب منه بإلحاح وخشوع قائلاً: “أريد أن أكون معك ولو أنني صنعتُ خطايا كثيرة وشرورًا عظيمة”!
ثم سأله الشيخ قائلاً: “مَنْ هو الذي جاء بك إلى هذا الموضع”؟ فأجاب موسى: “أخبرني أحد المزارعين عن قداستك وقال لي: ‘امضِ إلى أنبا إيسيذورس فهو يساعدك على خلاص نفسك’، فقمتُ وأتيتُ، وهوذا أنا أمامك طالبًا منك أن ترشدني إلى خلاص نفسي فلا تردَّني، ولكن أخبرني وعرِّفني عن الله”.
فسأله الأب: “وماذا كان معبودك في العالم إذن”؟ أجابه: “إنني لستُ أعرف الله، بل كنتُ زائغًا في شروري، وحالما تأثرتُ من سماعي عن رهبان الأسقيط تحركتُ لعبادة إلهي، ولم أكن أعرف سوى الشمس إلهًا، لأنني لما تطلّعتُ إليها وجدتُ أنـها هي التي تنير المسكونة بضيائـها والظلام يحلّ بغيابـها، وكذلك القمر والنجوم التي فيها أسرار عجيبة، وكذلك البحر وقوته! ولكن كل هذه لم تُشبع نفسي وعرفتُ أنّ هناك إلهًا آخر لا أعرفه أعظم من كل هذه، وقلتُ له: “أيها الرب الإله الساكن في السماء مُهدي الخليقة كلها، اهدني إليك الآن وعرِّفني ما يرضيك”. ولما سمعتُ أنّ رهبان شيهيت يعرفون الله أتيتُ إليك لتخبرني وتسأل الله عني حتى لا يغضب عليَّ لأجل شر أعمالي ولا يُهلكني لأجل قبائحي غير المعدودة”. وكان يقول هذا وهو يبكي بكاءً كثيرًا([5]).
فلما رأى أنبا إيسيذورس كل هذا منه علَّمه ووعظه كثيرًا بكلام الله وعن الدينونة والخلاص. فلما سمع موسى عن الموت والدينونة التي لا مفرّ منها وجهنم الأبدية وعذاباتـها المرعبة أخذ يفكر كثيرًا … وتركه الأب القديس في تأملاته ومضى.
عملت كلمة الله في قلب موسى كسيفٍ ذي حدّين، وجذب خلاص الرب يسوع قلبه، فقرر ترك زملائه الأشرار الذين كان رئيسًا عليهم. وظلّ الندم الحار يقلق نومه كشبحٍ مخيف، وهكذا كره حياته الشريرة وعزم على التخلُّص منها. لم يحتمل توبيخ ضميره على حياته الماضية فألقى بنفسه في طريق التوبة لدرجة أنه قيل إنه جعل حتى الشيطان الذي كان يرافقه منذ حداثته يعترف مقهورًا بالمسيح علنًا.
ركع موسى أمام قسّ الأسقيط واعترف علنًا بجرائم حياته في تواضع وانكسار ودموع غزيرة بطريقة تدعو إلى الشفقة. فسلّمه أنبا إيسيذورس إلى أبيه القديس أنبا مقار الكبير الذي وضعه تحت رعايته، ثم سلَّمه إلى أنبا إيسيذورس لكي يعمِّده ويكمِّل تعليمه([6]).
وبعد أيامٍ طلب موسى من القديس إيسيذورس في خشوع أن يصيِّره راهبًا، فأراد القديس أن يجرِّبه فقال له: “إننا في ضيقاتٍ كثيرة من جهة محاربات الشياطين ولا تستطيع أن تكون معنا، ونحن في ضيقات أيضًا من جهة سدّ احتياجاتنا وليس لنا راحةً في أي أمرٍ من الأمور، والأفضل لك يا ابني أن تذهب إلى مصر (أي إلى المدن والأرياف) لتعيش هناك”([7]).
وكان هذا الحديث مع موسى لأجل اختباره عما إذا كان لا زال له أي تعلُّق بسيرته الماضية، ولكن بعد أن تحقَّق الأب إيسيذورس من صدق توبته فرح به وأرسله ثانيةً إلى القديس مكاريوس الكبير. ثم ابتدأ موسى في الاعتراف علنًا في الكنيسة بجميع خطاياه وقبائحه الماضية، وكان أنبا مقار أثناء الاعتراف يرى في رؤيةٍ لوحًا عليه كتابةً سوداء، وكلما اعترف موسى بخطيةٍ مسحها ملاك الله حتى انتهى من الاعتراف فوجد اللوح قد صار كله أبيضَ.
ثم عزّاه الأب مكاريوس ووعظه بكلامٍ كثير من الكتب المقدسة وأعاده إلى القس إيسيذورس الذي ألبسه إسكيم الرهبنة وأوصاه قائلاً: “امكث يا ابني في هذه البرية ولا تغادرها، لأنه يوم أن تخرج منها تعود إليك كل الشرور، لذلك أقم زمانك كله فيها وأنا أؤمن أن الله سيصنع معك رحمةً ونعمةً وسيسحق الشيطان تحت أقدامك”.
ولما سار موسى تحت طاعة الإرشاد الحقيقي استقرت قدماه على صخرة التوبة. والحق يُقال إنّ هذين المرشدين العظيمين: أنبا مقار وأنبا إيسيذورس كان اهتمامهما به شديدًا عملاً بقول السيد المسيح: ~ما جئتُ لأدعو أبرارًا بل خطاةً إلى التوبة} (مت9: 13)([8]).
وقيل أيضًا: إنه لما بدأ موسى يداوم على الصلاة والصوم والتأمل إذ بالشيطان الذي كان يُغريه على الخطية منذ صباه يظهر له بصورةٍ مرعبة مطالبًا بفريسته القديمة، فحاربه بشدّة ولا سيما في شهواته الجسدانية حتى أوشك على اليأس والرجوع إلى حياته الشريرة. أخبر موسى أنبا إيسيذورس بذلك فقال له: “لا تحزن هكذا وأنت لا زلتَ في بدء الصعوبات ، إنّ رياح التجارب ستُقلق روحك لمدة طويلة فـلا تجــــزع”.
وضرب له مثلاً في خطورة اتباع هوى الجسد قائلاً: “إنّ الكلب الذي تعوّد أن يحوم حول ملحمة الجزّار لا تضيع منه هذه العادة في يوم واحد، ولكنه إذا وجد المحل مغلقًا زمانًا طويلاً أوأنه لا يوجد مَنْ يُلقي له بالعظام فإن الجوع يجعله يبحث عن مكانٍ آخر. فإذا ثابرتَ على الصوم والسهر واحتقار أباطيل هذا الدهر ستنتصر على شهوات الجسد، وسترى كيف أن هذا الجسد الثائر عليك سيهدأ ولا يعود يطلب شهواته القديمة، وأن الشيطان سيفارقك وهو يائس”.
فأطاع موسى، ومارس أنواعًا كثيرة من إماتة الجسد، وظلّ يأكل القليل من الخبز مرة واحدة في اليوم فقط، مثابرًا على الصلوات وعمل اليدين([9]).
قيل عن أنبا موسى إنه في بدء رهبنته مارس النسك بغيرةٍ شديدة، فكان لا يأكل سوى خبزٍ جافٍّ بالإضافة إلى حمله للأثقال ، كما كان يقول خمسين صلوة كل يوم، وهكذا كان يُميت جسده، إلاّ أنه كان يشعر كأنّ نارًا تشتعل في ميول وشهوات الجسد، وظلّت الأحلام تزعجه.
ثم ذهب إلى أبيه أنبا إيسيذورس مشتكيًا من هذا الصراع العنيف قائلاً: “ماذا أفعل يا أبي؟ إنّ الأحلام الشريرة تُظلم ذهني فتستيقظ فيَّ كل الميول النجسة ولا سيما بالليل حيث تصوِّر أمامي الحفلات الصاخبة التي كنتُ أُشاركُ فيها في العالم وكل مشـاعر الخطية”! فأجابه الأب: “هذا يحدث لك لأنك لا تـهرب من تصوراتك، فواظب على السـهر مع الصلاة الكثيرة والصوم، وكن متيقِّظًا وتحكَّم في حواسك، وثق أنك ستنتصر على الشيطان وتتغلَّب على جسدك الثائر”. فقويت عزيمة أنبا موسى وعمل بـهذه المشورة إذ ألزم نفسه ألاّ يرقد طوال الليل ولا حتى يثني ركبتيه([10]).
وقيل عنه أيضًا: إنه لما حاربه الزنى بشدّة لم يستطع البقاء في قلايته، فذهب إلى أنبا إيسيذورس وأخبره، فنصحه الشيخ أن يرجع إلى قلايته، فقال له: “لا يمكنني يا أبي”([11]). فأخذه إلى السطح وقال له: “أنظر إلى الغرب”، فنظـر وإذ بجيشٍ من الشياطين متحفِّزٌ للقتال. ثم قال له: “أنظر إلى الشرق”، فنظر ورأى جمهورًا لا يُحصى من الملائكة المنيرين بمجدٍ. فقال له أنبا إيسيذورس: “هؤلاء الذين في الغرب هم الذين يحاربوننا، أما الذين في الشرق فهم الذين يرسلهم الرب لمعونتنا، فإن كانت ملائكة الله تحارب عنا فلنتقوَّ »لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم (علينا)« (2مل6: 16)([12]). فلما رآهم أنبا موسى فرح وسبَّح الله ورجع متشجِّعًا إلى قلايته([13]).
سأل إخوة شيخًا: “لماذا لما أتى على أنبا موسى قتال الزنى لم يقدر أن يبقى في قلايته حتى ذهب إلى أنبا إيسيذورس الذي لما أراه الملائكة والشياطين تشجع للقتال وعاد إلى قلايته”؟ فأجاب الشيخ: “كل إنسان يحاربه شيطان الزنى بقدر قياس تدبيره، فالذي يحاربه الزنى زمانًا طويلاً في أفكاره وهو يجاهد ضدّه بالصلاة والنسك ويغلب الأفكار، فإن الشياطين تحاربه علنًا في حواسه ويصوِّرون له بشرًا وحيوانات تفسق أمامه بجميع القبائح، وأحيانًا تحيط به شياطين كثيرة ويغصبونه على أن يميل إلى وجع الزنى، فإذا اشتدّ هذا القتال على المتوحد في الهدوء فعليه أن يصبر، وبعد أن ينتصر في هذا القتال يضيء في ذهنه النور المقدس كما يقول الآباء وينال نعمة الطهارة. فلأن أنبا موسى كان يرى خيالات الشياطين القبيحة، لذلك كشف له أنبا إيسيذورس منظر الملائكة فنال عزاءً وشجاعةً كثيرة وعاد إلى قلايتـه بفــرح([14]).
وقال بالليديوس أيضًا: “ثم مكث أنبا موسى في قلايته ست سنوات وهو يقف في وسط قلايته كل ليلة مصلِّيًا دون أن يغلق عينيه ، ومع ذلك كان من الصعب عليه أن يضبط فكره. ثم بدأ في نوع آخر من الجهاد، إذ كان في كل ليلة يذهب إلى قلالي الشيوخ والأكثر نسكًا في الرهبان ويأخذ جرارهم ويجعلها دائمًا ممتلئـةً بالماء دون علمهم، لأن قلاليهم كانت بعيدة عن الماء، فبعضها كان على بُعد ميلين وأخرى على بُعد خمسة أميال …!
وفي إحدى الليالي كان الشيطان في انتظاره وقد عيل صبره، فبينما كان موسى منحنيًا على البئر ضربه الشيطان بين حقويه بـهراوةٍ (عصا غليظة) وتركه بين حي وميت حيث إنه لم يشعر بشيء ولا علم بما حدث . وفي اليوم التالي جاء أحد الإخوة ليستقي ماءً فوجده مُلقى على الأرض فأخبر الأب إيسيذورس قس الأسقيط ، فأخذه إلى الكنيسة حيث ظلّ مريضًا لمدة سنة حتى استردّ جسده بعض العافية بصعوبةٍ بالغة.
ثم قال له أنبا إيسيذورس: ‘كُفّ عن الصراع مع الشياطين لأنه توجد حدود للشجاعة حتى في الجهاد النسكي’. فقال موسى: ‘لن أكفّ قبل أن يكفُّوا عن تخيلاتـهم’. فقال له الشيخ: ‘باسم يسوع المسيح قد تلاشت أحلامك، والآن تقدّم إلى التناول بثقة’. كما قال له: ‘بدون قوة الروح القدس التي أعطانا الله إياها في المعمودية لتنفيذ وصاياه ، والتي تتجدّد فينا دائمًا بالتناول من الجسد والدم الأقدسين لن نتخلّص من الخطايا ولن نستطيع أن نقهر الشياطين، وبالتالي لن نسـتطيع أن ننمو في الفضيلة’([15]). ثم قال له: ‘لقد تثقّلتَ بـهذه الحروب يا موسى حتى لا تتباهى بأنك غلبتَ أوجاع الشهوات’.
ثم عاد موسى إلى قلايته، وظلّ مواظبًا على التناول والعمل بنصائح أبيه الروحي، وبعد شهرين سأله أبوه عن حاله فعلم منه أنه لمدة شهرين لم يقاسِ من الحروب، وحُسِب أهلاً أن يأخذ سلطانًا على الشياطين حتى إنّ الذباب صار أكثر إزعاجًا له منهم”([16]).
سأل إخوة شيخًا: “لماذا رغم أنّ الآباء يحثوننا دائمًا على الجهاد لأجل الفضائل والصراع ضد الأوجاع والشياطين، فإنّ أنبا إيسيذورس نصح أنبا موسى الأسود قائلاً: ‘كُفّ عن الصراع مع الشياطين لأنه توجد حدود للشـجاعة حتى في الجهاد النسكي’ ”؟ فأجاب الشيخ : “لأن موسى كان في البداية يجهل أصول الحياة النسـكية، ولأن صحته الجسدية كانت قوية فقد جاهد أكثر من اللازم وظنّ أنه كان يمكنه أن يسود ببطولته على الشياطين بأعماله الكثيرة وحدها وأنه يستطيع أن يبدِّدهم. لذلك لما رأى الشـياطين فيه هذا الشعور ظلّت تـهاجمه بقسوةٍ أكثر بحروب متتالية في السرِّ والعلن.
ولكن أنبا إيسيذورس أراد أن يرشده إلى الصواب وأن يجعله يكتسب الاتضاع، فقال له: ‘بدون قوة الروح القدس …’ (القول المذكور أعلاه)، فتعلَّم موسـى وصارت أفكاره متضعة، وتناول من الأسرار المقدسة، وهُزِمت الشياطين وقلّلت من حروبـها ضده ، ومنذ ذلك الوقت وجد راحةً وامتلأ معرفةً وسلامًا.
إنّ رهبانًا كثيرين قد تصوَّروا أن أوجاعهم تُشفى ونفوسهم تتعافى بواسطة أتعابـهم وجهاداتـهم وحدها ، لذلك هجرتـهم النعمة وسقطوا من الحق، لأنه كما أن المريض بالجسد لا يمكنه أن يُشفى بدون طبيب وعقاقير ويكون أكثر تحفُّظًا في أكله أو صومه أثناء فترة العلاج، هكذا أيضًا المريض بأوجاع الخطية فهو بدون المسيح طبيب النفوس وبدون المشاركة في جسده ودمه والقـوة الكامنة في وصاياه والاتضاع مثله، لا يمكنه أن يُشفى من أوجاعه ولا ينال شفاءً كاملاً. وعلى ذلك فكل مَنْ يحارب الأوجاع والشياطين بوصايا الرب يُشفى من مرض الأوجاع ويكتسب صحةً لنفسه ويُنقَذ من خبث الشياطين([17]).
قال أنبا موسى: “هاجمتني شهوة الزنى يومًا ما بينما كنتُ صائمًا، فدخلتُ إلى أعماق البرية ومكثتُ هناك 42 يومًا دون أن آكل خبزًا أو أشرب ماءً، ودون أن أضطجع أو أجلس، وتوسلتُ إلى الرب حتى حرِّرني من هذه التجارب، وبعد ذلك لم تـهاجمني إطلاقًا كل أيام حياتي”([18]).
ذكر أخٌ أنّ أبّا زكريا تلميذ أنبا موسى قال لمعلمه: “أخبرني بحياة الزهد التي مارسـتها في شبابك لكي أُمارسها أنا أيضًا”. فأجابه أنبا موسى: “كنتُ في شبابي ولا زلت آكل خبـزة واحدة في اليوم إذا صمتُ حتى المساء، وإذا أكلتُ كل يومين آكل خبزتين”. ففعل أبا زكريا مثله. وعندما مرض أبا زكريا وقرب وقت انتقاله قال له أبّا موسى: “أَلم يظهر لك شيء”؟ فأجاب: “نعـم”. فقال له أبّا موسى: “ماذا رأيت”؟ فأجابه: “أَيليق بي حقًا أن أتكلم”؟ فقال له: “لا”. ثم رقـد أبّا زكريا([19]).
ذهب مرةً أنبا موسى إلى البئر ليسـتقي ماءً، فرأى هناك أبّا زكريا يصلِّي وروح الله مستقرًّا عليه مثل حمامة([20]).
حدث مرةً أن أُعطيت وصيةً في الأسقيط بأن يُصـام لمدة أسبوع، ثم اتفق أن بعض الإخوة جاءوا من مصر لزيارة أنبا موسـى فهيَّأ لهم طبيخًا، فلما رأى جيرانه دخان النار قالوا للآباء الكهنة: “ها أبّا موسى قد كسر الوصية وطبخ في قلايته”. فقالوا لهم: “عندما يأتي في يوم السبت سنكلِّمه”. ولما حضر وكانوا هم يعرفون طريقة حياته قالوا له أمام الجميع: “يا أبّا موسى، وإن كنتَ قد خالفتَ وصية الناس إلاّ أنك حفظتَ وصية الله”([21]).
سأل إخوة شيخًا بخصوص أنّ القديس صنع طبيخًا وأكرم زائريه مخالفًا للصوم، ثم قال له الكهنة: “حللتَ وصية الناس وثبّتَّ وصية الله”. فقال الشيخ: “لعل إنسانًا كان محتاجًا إلى صلاة وصوم، فنادوا في الأسقيط من أجل صوم أسبوع. أما السبب في أنّ أنبا موسى حلّ هذه الوصية فهو أنه لما كان لصًا كان قد عمل شرورًا كثيرة مع الناس، فصار بعد توبته يهتم بقبول الغرباء ويخدمهم، وكان مجتهدًا أكثر من جميع الآباء في هذه الفضيلة لكي يُرضي بـها الله. ولما جاء هؤلاء الإخوة في ذلك الأسـبوع زاروا آباء آخرين ولم يصنعوا لهم طبيخًا بسبب الصـوم، ولما ذهبوا إلى أنبا موسى قبلهم بفرح ونيّحهم، فأكمل ناموسه في قبول الغرباء الذي به يُرضي الله، وفي نفس الوقت لم يأكل معهم ولم يحلّ قانون الصوم.
ولما تذمّر بعض الإخوة وقالوا للكهنة وعدوهم أن يلوموا القديس، ولكنهم لما رأوا عظم تدبيره وتعبه وشقاء جسده، وربما أخبرهم الإخوة الغرباء أنه لم يأكل معهم طبيخًا، تعجّبوا من حُسن إفرازه ومجّدوه جدًا . وهؤلاء الكهنة هم رئيس الدير وقسـوس الموضع الذين في أيامهم كان ينزل على القربان شبه نسر ولا يراه أحد غير الكهنة”([22]).
قال أنبا موسى لأنبا مقار في الأسـقيط: “إنني أحب أن أعيش في هدوء الصلاة ولكن الإخوة لا يدعونني أفعل ذلك”. فقال له أنبا مقار: “أرى أنك إنسان مرهف وعاجز عن أن تُخرج أي أخ خارجًا. إذًا، فإن كنتَ تريد أن تعيش في سلام فاذهب إلى البرية الداخلية عند الصخرة المعروفة باسم "بترا"([23])، وهناك تكون في سلام”. وهكذا وجد أنبا موسى هناك سلامًا([24]).
قيل عن أنبا موسى: إنه لما عزم أن يذهب ويسكن عند الصخرة "بترا" أنـهكه طول الطريق، فقال في نفسه: “كيف أجد ما أحتاجه من الماء هنا”؟ فسمع صوتًا يقول له: “اُدخل ولا تـهتم بشيء”، فدخل. ثم جاء إليه بعض الآباء لكي يروه ، وكان عنده قليل من الماء في جرّة، فاستعمله كله لكي يطبخ لهم عدسًا. فأقلقه نفاذ الماء ثم ظلّ يدخل قلايته ويخـرج وهو يصلِّي لله، فمرَّت سحابة على مكان الصخرة سقط منها مطر ملأ كل أوعيته.
بعد ذلك سأله الآباء: “أخبرنا لماذا كنتَ تدخل وتخرج”! فقال لهم الشـيخ: “كنتُ أتلاجج مع الله قائلاً: لقد أتيتَ بي إلى هنا والآن ليس لي ماء لعبيدك! لهذا كنتُ أدخل وأخرج طالبًا من الله حتى أرسل لنا بعضًا من الماء”([25]).
جاء أخ إلى الأسقيط ليزور أبّا موسى وطلب منه كلمة ، فقال له الشيخ: “اذهب وامكث في قلايتك والقلاية تعلِّمك كل شيء”([26]).
سأل إخوة شيخًا: “جميع الآباء يرشدون الإخوة الذين يسألونـهم ليتعلّموا منهم ويكشـفوا لهم أفكارهم والإخوة يطيعون وصاياهم، ولكن أحد الشيوخ (هو أنبا موسى الأسود) قال لأحد الإخوة: ‘امضِ وامكث في قلايتك وهي تعلِّمك كل شيء’، فكيف يكون ذلك”؟ فأجاب الشيخ: “هذا القول لا يتعارض مع أقوال الشيوخ، بل كما كان أنبا مقار يقول للمبتـدئ: ‘في الأيام الأولى التي تدخل فيها قلايتك اعمـل كما كنتَ تعمل في المجمع إلى وقتٍ ما، وبطول المدة تعطيك القلاية طقسًا يوافق حبسك، فما يناسبك أن تزيده فزده أو أن تُنقصه فانقصه’ ”([27]).
قال أنبا موسى:“الإنسان الذي يهرب ويعيش في الوحدة يشبه عنقود عنب ناضجًا بواسطة الشمس، أما الذي يمكث بين الناس ومجاذباتـهم فهو يشبه عنبًا غير ناضج”([28]).
حدث مرةً عندما عُقِد مجمعٌ في الأسقيط أنّ الآباء عاملوا أبّا موسى بازدراءٍ لكي يمتحنوه قائلين: “لماذا يدخل هذا الأسود بيننا؟ لماذا جاء ليُفسِد ترتيـب رهبنتنا؟ هل نحن في حاجةٍ إلى لصٍ بيننا”؟ ولما انصرف المجمع اعترفوا له بسـبب أقوالهم هذه، وتعجبوا جدًا من هدوئه الكامل وسألوه: “أَلم يُحزنك هذا الكلام إطلاقًا”؟ فقال لهم: “الحق إنني حزنتُ ولكنني ظللتُ صامتًا”([29]).
سأل إخوة شيخًا: “عندما ازدرى بعض الإخوة بأنبا موسى الأسود سـألوه قائلين: ‘أَما تسجّس قلبك يا أبانا’؟ فأجابـهم: ‘لقد تسجّس ولكنني لم أتكلـم’، فما معنى ذلك”؟ قال الشيخ: “إنّ كمال الرهبان يتكون من جزءين: عدم التسجُّس بحواس الجسد، وعدم التسجُّس بحواس النفس. عدم التسجُّس بالجسد هو عندما يُشتَم الإنسان ويكبح جماح نفسه لأجل الله ولا يتكلم حتى ولو اضطرب، أما عدم التسجُّس بالنفس فيكون عندما تُساء معاملة الإنسان ويُشتَم ومع ذلك لا يغضب في قلبه. وذلك مثل القديس يوحنا القصير، لأنه حدث مرةً عندما كان الإخوة جالسين معه مرَّ عليه رجلٌ وعيَّره ولكنه لم يغضب ولا تغيَّر منظره، فسأله الإخوة: ‘أَلم تضطرب في داخل قلبك يا أبانا عندما أُهِنتَ بـهذه الطريقة’؟ فأجابـهم: ‘لم أضطـرب في داخلي، فأنا هادئ في داخلي كما ترونني من الخارج تمامًا’. وهذا هو عدم التسجُّس الكامل.
وأنبا موسى لم يكن قد بلـغ حتى هذا الوقت إلى هذه الدرجة من الكمال، وقد اعترف بأنه رغم عدم اضطرابه من الخارج إلاّ أنه كان هناك نزاعٌ في قلبه واحتفظ بصمته ولم يغضب من الخارج، وحتى هذه كانت فضيلة روحية، ولو كان لم يغضب داخليًا أو خارجيًا لكان ذلك أكثر كمالاً.
والقديس نيلـوس السينائي عمل مقارنـة بين هذين المقدارين من الفضيلة في حالتي المباركين موسى النبي وأخيه هارون: حيث إنّ طقس تغطية الصدر والقلب بالصُدرة الكهنوتية الذي كان يُجريه هارون عند دخوله قدس الأقداس كان يمثل حالة الإنسان الذي رغم غضبه في قلبه فهو يُقمع هذا الغضب بالصراع والصلاة، أما حالة الإنسان الذي ليس في قلبه أي غضب إطلاقًا لأنه بلغ إلى الكمال بنصرته على الأوجاع والشياطين فيقارنـها القديس نيلوس بما قيل عن موسى النبي، وذلك بقوله: ‘قدّم موسى النبي الصدر كذبيحة لأن النفس تسكن في القلب والقلب في الصدر’.
وسليمان الحكيم يقول: »الحكماء يصرفون الغضب« (أم29: 8)، ويقول الكتاب بخصوص هارون: »اصنع ثيابًا مقدسة لهارون أخيك للمجد والبهاء، وتكلِّم جميع حكماء القلوب الذين ملأتُهم روح حكمة أن يصنعوا ثياب هارون لتقديسه ليكهن لي … صُدرة ورداء و … وتجعل في صُدرة القضاء الأوريم والتُميم (أي الأنوار والصحايح) لتكون على قلب هارون عند دخوله أمام الرب« (خر28: 2 - 4و 30). وهذا يعلِّمنا نحن الرهبان أنه من اللائق لنا أن نغطِّي على غضب القلب بأفكارٍ طيبة متضعة هادئة، وأن لا نسمح للغضب أن يصعد إلى الحنجرة حيث يفضح اللسان نتانة هذا الغضب.
كما أن الراهب عليه أن يسـتأصل الغضب من قلبـه، بل ويطلب المغفرة لمن يُغضبه كما فعل الطوباوي موسى النبي عندما احتقرته مريم أخته”([30]).
قال أنبا موسى: “الذي يحتمل كلمة ظلم أو معيرة من أجل المسيح باتضاع يكمِّل استشـهاده، ومَنْ يتمسكن من أجل الله يعوله الله، ومَنْ يُظهر ضعفه أمام الله أو يصير أحمقَ من أجله يحكِّمه الله”([31]).
وقيل عنه: إنه لما رُسِم قسًّا ألبسوه التونية البيضاء، فقال له رئيس الأساقفة (البابا ثيئوفيلس الـ 23): “ها قد صرتَ كلّك أبيضَ يا أبّا موسى”. فقال له الشيخ : “هذا حق من جهة الخارج، أيها السيد الأب، ولكن ماذا عن ذاك الذي في الداخل”؟
ولما أراد رئيس الأسـاقفة أن يمتحنه قال للكهنة: “عندما يدخل إلى الهيكل أطردوه ، ثم اتبعوه لتسمعوا ماذا يقول”. ثم جاء الشيخ فطردوه قائلين: “أخرج يا أسود”. فخرج وهو يقول لنفسه: “حسنًا فعلوا بك لأن جلدك أسود كالرماد، إنك لست إنسانًا، فلماذا تسمح لنفسك أن توجد مع الناس”؟!
وكان قد شـهد له أبوه الروحي أنبا إيسيذورس ورشّحه للكهنوت، وقيل إنه لما بدأ البطريرك يضع يده عليه لرسامته سمعوا صوتًا من أعلى قائلاً: “مستحق، مستحق، مستحق”([32]).
حدث مرةً أنّ أنبا موسى عادإلى قلايته ليلاً فوجد أربعة لصوص قد سرقوا ما فيها وأرادوا أن يمضوا فأمسكهم وربطهم بحبلٍ واحدٍ كحزمة حطب وحملهـم على كتفه وذهب بـهم إلى مجمع الشيوخ قائلاً: “طالما أنني يجب ألاّ أؤذي أحدًا فماذا تريدونني أن أفعل بـهؤلاء الذين سرقوا قلايتي”؟ وتعجب اللصوص جدًا من قوته الجسدية وسألوا الرهبان عنه فعلموا أنه هو موسى زعيم اللصوص، فارتعبوا وسجدوا معترفين بخطاياهم، ومجّدوا الله وازدروا بالعالم بسـبب تغيير حياة موسى قائلين: “إن كان هذا الذي كان لصًّا قويًا وعنيفًا، يخاف الله الآن، فلماذا نطرح نحن عنا خلاص نفوسنا”([33])؟!
سأل أخ أنبا موسى: “ماذا يفعل الإنسان في التجربة التي تأتي عليه والفكر الذي من العدو”؟ فأجابه الشيـخ: “عليه أن يبكي أمام نعمة الله لكي يُعينه، وبسرعة سيجد راحة إذا قدّم توسلاته بمعرفةٍ، لأنه مكتوب: »الرب معينٌ لي فلا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان«؟! (مز118: 6 ؛ عب13: 6)”([34]).
حدث أنّ بعض الزائرين جاءوا من مصر إلى أنبا موسى، فرأوا على المائدة ثعبانًا مشويًا. ولما حان وقت الغذاء قال لهم القديس: “لا تقربوا هذا يا إخوتي فإنه وحشٌ شرير”. فقالوا له: “لماذا فعلتَ هكذا يا أبانا”؟ فأجابـهم: “يا إخوتي، إن هذه النفس المسكينة اشتهت سمكًا ففعلتُ هذا لكي أكسر شهوتـها الرديئة”، فتعجّب الإخوة جدًا ومجّدوا الله الذي أعطى قديسيه هذه النعمة العظيمة([35]).
أخطأ أخٌ في الأسقيط، فعقدوا مجمعًا بسببه ودعوا أنبا موسى ولكنه رفض أن يذهب، فجاء إليه كاهن هذا الموضع وقال له: “تعال، فالجميع ينتظرونـك”. فقام وأخذ كيسًا مثقوبًا وملأه بالرمل وحمله على ظهره ودخل به المجمع، فلما رأوه قالوا له: “ما هذا أيها الأب”؟ أجاب: “هذه خطاياي تجري وراء ظهري دون أن أُبصرها وقد جئتُ اليوم لأدين خطايا غيري”! فلما سمعوا غفروا للأخ ولم يُحزنوه بشيء([36]).
سأل أخٌ أنبا موسى: “يوجد هنا إنسان يضرب خادمه بسبب خطأ ارتكبه، فماذا يفعـل الخادم”؟ أجاب الشـيخ: “إن كان الخادم صالحًا فعليه أن يقول: اغفـر لي، إنّي أخطأت”. فسأله الأخ: “ولا شيء غير هذا”؟ قال الشيخ: “لاشيء، لأنه منذ اللحظة التي فيها يُحمِّل نفسه بمسئولية هذا الأمر ويقول ‘أخطأت’، ففي الحال يرحمه الرب. والهدف من كل ذلك هو عدم دينونة الآخرين، وهذا هو كمال كل الفضائل، لأنه حقًا عندما قتل الرب أبكار أرض مصر لم يوجد بيت واحد خاليًا من ميت”. فسأله الأخ: “ما معنى هذا”؟ قال الشيخ: “إن كنا متيقظين لرؤية خطايانا فلن نرى خطايا الآخرين، تمامًا كما أنه من الحماقة أن يترك الإنسان الميت الذي في بيته ويذهب ليبكي على ميت جاره. فانظر إلى خطاياك واقطع اهتمامك بأي إنسـان ولا تشي بأحدٍ، ولا تفكّر بشرٍّ على أحدٍ، ولا تصطحب الذين يثلبون سُمعة الآخرين، ولا تسمع كلام وقيعة على أي إنسان.
أما بخصوص أن يموت الإنسان عن قريبه، فهذا معناه أن تحمل خطاياك ولا تُعير التفاتًا إلى أعمال الآخرين إن كانت صالحة أو رديئة، وأن لا تؤذي أحدًا، وإثم قريبك لا تذكره في قلبـك، ولا تحتقر مَنْ يفعل الشر، ولا تسلِّم مشيئتك لمن يعمل شـرًّا لقريبك أو تثق فيه، ولا تفرح بما يسبِّب شرًّا لقريبك. وهذا هو معنى أن يموت الإنسان عن قريبه.
لا تتكلم بشرٍّ على أحد، بل بالحري قُل: “الله يعرف كل إنسان”، ولا تُسرّ بالحديث الشرير، ولا تسلِّم إرادتك لمن يغتاب قريبك، وهذا هو معنى قول الرب: »لا تدينوا فلا تُدانوا«. ولا تجعل في قلبك عداوةً لأي إنسان، ولا تُبغض مَنْ يُعادي قريبه ولا تدِن عداوته، ولا تغضب على أخٍ يغضب على قريبه ، لأن هذا هو السلام الحقيقي: أن تشجِّع نفسك بـهذا الفكر: [الضيق يستمر لوقتٍ قصير، في حين أن السلام أبديّ بنعمة الله الكلمة]. آمين”([37]).
سأل أخٌ أنبا موسى: “إنني أرى شيئًا أمامي ولكنني غير قادر أن أُمسكه”، فقال له الشيخ: “إن لم تصر ميتًا مثل الذين في القبور فلن يمكنك أن تُمسكه، الذي هو الفكر”([38]).
قال أنبا بيمين: “سأل أخٌ أنبا موسى: ‘كيف يمكن للإنسان أن يعتبر نفسه كأنه ميت بالنسبة لقريبه’؟ فقال له الشيخ: ‘إن لم يضع الإنسان في قلبه أنه مات وله في القبر ثلاث سنوات فلن يمكنه أن يبلغ إلى هذا الأمر’ ”([39]).
كانت الشياطين تظهر كثيرًا لأنبا موسى وتقول له: “إنك غلبتنا ونحن غير قادرين عليك، ففي كل مرة نريد أن نحقِّرك لكي نُسقطك في اليأس ترتفع، وكل مرة نريد أن نرفعك تتضع حتى إنه لم يعد يتجاسر أحد منا أن يقترب إليك”([40]).
كان أحد الإخوة في الأسقيط ذاهبًا إلى الحصاد، ولكنه ذهب أولاً إلى أنبا موسـى الأسود وقال له: “أخبرني، يا أبي، هل أذهب إلى الحصاد”؟ فقال له الأب موسى: “إن قلتُ لك فهل ستعمل بما أقوله لك”؟ فقال له الأخ: “نعم، سأسـمع كلامك”. فقال له الشيخ: “إن استجبت لكلامي فقم اعتذر عن الذهاب إلى الحصـاد وتعالَ وأنا أقول لك ماذا تفعل”. فذهب الأخ واسـتأذن من رفقائه ورجع إلى الشيخ الذي قال له: “اذهب إلى قلايتك واحفظ أيام الخمسين، وكُلْ خبزًا يابسًا وملحًا مرة واحدة في اليوم، وبعد ذلك سأقول لك شيئًا آخر لتفعله”.
ففعل الأخ كما أوصاه الشـيخ ثم جاء إليه، ولما رأى الشيخ أنه كان يعمل بيديه علَّمه الطريقة الصحيحة للحياة في القلاية، ثم ذهب الأخ إلى قلايته وسقط على وجهه على الأرض وبكى أمام الله لمدة ثلاثة أيام. وبعد هذه الأمور، لما كانت أفكاره تقول له: ‘إنك الآن قد ارتفعتَ جدًا وأصبحتَ رجلاً عظيمًا’، كان يقاومها ويضع أمام عينيه ضعفاته السابقة ويقول: “هكذا كانت عثراتـك”. ولما كانت تقول له: ‘لقد فعلتَ أمورًا كثيرة بجهالة’، كان يقول: “ومع ذلك فأنا أقدِّم خدمات قليلة لله وهو يُظهر لي رحمته”.
ولما قُهِرت الشياطين من مثل هذه الوسائل، ظهرت له في هيئة مخلوقات جسدانية وقالت له: “لقد هزمتنا”. فقال لهم: “لماذا”؟ فقالوا له: “إذا حقّرناك ارتفعتَ وسموتَ، وإذا رفعناك هزمتنا بتواضعك”([41]).
كان في الأسقيط شيخ أُصيب بمرضٍ شديد، وكان الإخوة يخدمونه ولكنه لم يجد راحة في خدمتهم، فقال الشيخ: “سأذهب إلى مصر (القاهرة الآن) حتى لا أخطئ إلى الإخوة”، فقال له أنبا موسـى: “لا تذهب لأنك ستسقط في الزنى”. فقال الشيخ وهو متكدِّر: “ها جسدي ميت وأنت تقول لي هذا”؟
ثم ذهب ليُعالَج عند أقربائـه، ولما علم الناس أتوا إليه بـهدايا كثيرة وأدوية جيدة وتـهافتوا على خدمته حتى تحسَّنت صحته، ولكن الشيطان كمُن له في ممرضة شابة كانت تخدمه بإخلاص، وهو كان يستلطفها ثم تطورت علاقته بـها حتى أخطأ معها فحبلت. وقالت للناس إنّ الشيخ هو سبب ذلك فلم يصدِّقوها، ولكن الشيخ قال في نفسه: “أنا هو المذنب، وعليَّ أن أرعى طفلها”.
علم الآباء في شيهيت بالخبر المحزن فقدَّموا صلوات حارة من أجله، واستجاب الله لتوسلاتـهم، فشعر الشيخ بالندم وقرر العودة في يوم عيد حتى يكون لاعترافه بخطيئته وقعٌ أكبر، وكان الطفل قد فُطِم، فذهب الشيخ إلى ديره ومعه الطفل ودخل الكنيسة في حضرة جميع الرهبان الذين لما رأوه انفجروا في البكاء. ثم قال لهم الشيخ: “أَترون هذا الطفل؟ إنه ابن عدم الطاعة. احترسوا، إذًا، يا إخوتي لأنني في شيخوختي فعلتُ هذا، وصلُّوا من أجلي لكي يرحم الله نفسـي”. ثم وضعوا عليه قانونًا، ورجع إلى قلايته حيث استرجع أسلوب حياته السابقة([42]).
قال أنبا موسـى: “أيها الحبيب، إذ قد تبقّى وقت للرجوع فارجع وتقدّم إلى المسيح بتوبـةٍ خالصة، أسرع قبل أن يُغلَق الباب فتبكي بكاءً عظيمًا حتى تحرق دموعك خدّيك بلا منفعة. اجرِِواضبط الباب قبل أن يُغلَق، أسرع بالرجوع فإنّ المسيح إلهنا يهوى خلاص جميع الناس وإتيانـهم إلى معرفة الحق، إنه ينتظرك وسيقبلك، له المجد إلى الأبد آمين”([43]).
قال لي أبّا يوحنا تلميذ الأب يعقوب: “كان أنبا موسـى كثيرًا ما يقول في الأسقيط: ‘إذا صنع الراهب مشيئة الرب ولكنه سكن مع أهله حيث يرتمي عليهم، فسيُلقى هو أيضًا بعد الموت معهم’ ”([44]).
قال أنبا موسى: “لا يستطيع الإنسان أن يتجنّد في جيش المسيح إن لم يصِر كله نارًا، وإن لم يحتقر الكرامة والراحة، وإن لم يقطع رغبات الشهوة، وإن لم يُراعِ جميع وصايا الله”([45]).
وقال أيضًا: “يستحيل أن نمتلك يسـوع إلاّ بالاجتهاد والاتضاع والصلاة المتواصلة”([46]).
وكان يقول أيضًا: “إن تخلَّى الإنسان عن عمله الداخلي يظلم عقله، ولكن الذي يتحمَّل ويواظب على أعماله (أي يكون عمَّالاً) يصير فكره خفيفًا في الرب، وهذا يقوِّي ويحصِّن النفس”([47]).
وقال أيضًا: “الراهب الذي هو لله وقريـبٌ منه تمامًا وله عشرة معه ينجح في ألاّ يُدخل إنسانًا إلى قلايته”([48]).
سـمع مرةً أحد الولاة عن أنبا موسى وذهب إلى الأسقيط لكي يراه. ولما سمع الشيخ بمجيئه هرب إلى المستنقعات (البهلس) ، فقابله الوالي مع أتباعه وسـأله: “أخبرني أيها الشيخ، أين قلاية أنبا موسى”؟ فقال له: “لماذا تبحثون عنه؟ إنه رجلٌ أبله”!
فذهب الوالي إلى الكنيسة وقال للآباء : “لقد سمعتُ عن أبّا موسى وجئتُ لأراه، ولكننا قابلنا شيخًا وسألناه عن قلاية أبّا موسى فأجابنا بأنه رجلٌ أبله”. فلما سمع الآباء ذلك اضطربوا وقالوا: “ما هي هيئة هذا الشيخ الذي تكلم هكذا عن الأب القديس”؟ فقال لهم: “إنه شيخ يرتدي ملابس بالية جدًا وطويل وأسود اللون”. فقالوا له: “إنه هو أبّا موسى نفسه! ولأنه لم يرغب في أن تروه لذلك قال لكم هذا الكلام عن نفسه”.
وهكذا رجع الوالي وهو منتفعٌ جدًا([49]).
قال أنبا موسى لأحد الإخوة: “لنقتنِ الطاعة التي تلد الاتضاع وتجلب المثابرة والصبر وتأنيب الضمير والمحبة الأخوية والرأفة، فهذه هي في الحقيقة أسلحتنا في حروبنا”([50]).
وقال أيضًا: “أيها الأخ ، فلنسلك بالطاعة الحقيقية لأنـها هي التي تسبِّب لنا الاتضاع والقوة والفرح والمثابرة والصبر والمحبة الأخوية وتأنيب الضمير والرأفة، لأن هذه هي الطاعة الصالحة التي تتمم كل وصايا الله”([51]).
وقال أيضًا: “الراهب الذي يكون تحت إرشاد أب ولا يمارس الطاعة والاتضاع، فهو لا يقتني فضيلة واحدة ولا يعرف حتى ما هو الراهب”([52]).
وسُئل أنبا موسى: “ما فائدة الأصوام والصلوات التي يمارسها الإنسان”؟ فأجاب قائلاً: “إنـها تجعل النفس تتضع أمام الله، لأنه مكتوب: »اُنظر إلى ذلِّي وتعبي واغفر لي جميع خطاياي« (مز25: 18)، لأنه إذا تذلّلت النفس تجد رحمةً من الله”([53]).
وله أيضًا عن الفضائل والرذائل:
w خوف الله يطرد جميع الرذائل، والعجز (ربما: التواني) يطرد خوف الله.
wهذه الأربعة واجب حفظها: الرحمة، غلبة الغضب، طول الروح، التحفُّظ من النسيان.
w العقل كل سـاعة محتاج إلى هذه الأربع فضائل: صلاة دائمة لله بسجودٍ قلبي، ومحاربة الأفكار، وأن تعتقد أنك خاطئ، وأن لا تدين أحدًا.
wهذه الفضائل الأربع هي عون الراهب الشاب: الهذيذ كل ساعة في ناموس الله، ومداومة السهر، والنشاط في الصلاة، وأن لا يعتبر نفسه شيئًا.
wمما يدنِّس النفس والجسد ستة أشياء: المشي في المدن، وإهمال العينين لتجولا بلا تحفُّظ، والتعرُّف بالنساء ، والصداقة مع الرؤساء، وحب الأحاديث الجسدانية، والكلام البطّال.
wهذه الأربعة تُنهِض إلى الزنـى: الأكل والشرب، الشبع من النوم، البطالة واللعب، تزيين الملابس.
wهذه الأربعة تُظلم العقل : أن يمقت الإنسان رفيقه، وأن يزدري به، وأن يحسده، وأن يُسيء من الثناء عليه (ربما: يُسيء من سُمعته).
wبأربعة أ
|