رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نشأتُ فى أسرة لا يصيبُها الهلعُ إن جاءت طنط إيڤون جارتنا وحضنتنى وهى تقول: «باسم الصليب عليكى كبرتى وبقيتى عروسة!». أو حين تقولها طنط آنجيل لأمى إن شاهدتها فى فستان جديد جميل. أو حين يقولها جارنا أنكل وسيم لأبى، المتصوف حافظ القرآن، حين يخبره أننى حصلت على الدرجات النهائية فى الامتحان. أول مرة فى حياتى أسمع هذه العبارة الطيبة كانت فى الصف الثانى الابتدائى. كانت ميس راشيل تدور بيننا فى الفصل ونحن نكتب ما تُمليه علينا. توقفت جوار مكتبى وأمسكت كراستى. طُرق بابُ الفصل ودخلت معلّمةٌ أخرى لأمر ما. فهتفت ميس راشيل: «تعالى شوفى يا عايدة. البنت شولة، بس اسم الصليب عليها خطّها حلو خالص». وقتها اندهشت جدًّا كيف عرفت ميس راشيل أننى «شولة»! كنت أظنّه سرًّا عائليًّا لا تعرفه إلا أمى! وقتها لم أكن أعرف أن «شولة» تعنى «عسراء»، أى أكتب بيدى اليسرى. كنت أسمع أمى تقول للناس بدهشة: «فافى شولة بس خطّها جنان!» وفهمت أنه مرضٌ داخلى لا يعرفه أحدٌ إلا أمى. رفعتُ بصرى إلى ميس راشيل التى تعرف أسرار الأسرة، فبدت فى عينى كإحدى ربّات الحكمة فوق جبل الأولمب. من وقتها وضعتُ كلَّ المعلمين فى مرتبة فوق البشر باعتبارهم علماءَ وسحرة. فور عودتى للبيت حكيتُ لأمى ما حدث، فابتسمت وحضنتنى. لم ترتعب من كلمة «صليب» كما يرتعب المرضى ضعاف الإيمان. نحن المسلمين نؤمن بأن السيد المسيح عليه السلام رُفع من الصليب وصعد إلى السماء قبل إتمام الصلب، وصُلب الإسخريوطى عوضاً عنه عقاباً على خيانته. والمسيحى يؤمن أن السيد المسيح صُلب لكى يفتدى البشرية الآثمة، فيحقق معادلة العدل والرحمة، اللذين لا يجتمعان إلا بدم السيد المسيح المصلوب. اختلاف فى فلسفة عقيدتين لا يستوجب التقاتل ولا الهلع، لكم دينكم ولى دينى. الهلع يشير إلى نفس مهزوزة فقيرة الإيمان. كانت أمى رحمها الله تُهدى المعلّمات المسيحيات فى مدرستى تماثيل للسيدة العذراء فى أعياد المسيحيين، وكان جيراننا المسيحيون يهدون جيرانَهم مصاحفَ جميلةً لسياراتهم الجديدة. تلك البيئة الصحية التى نشأ فيها جيلى وما سبقتنا من أجيال، جعلت قلوبَنا نظيفة، وعقولنا مستنيرة. أحزن حين أسمع ما يجرى اليوم فى بعض المدارس من عنصريات وشقاقات يبثُّها بعض الأهل قليلى الوعى فى قلوب الصغار البرعمية، فينشأون مهشمين روحيًّا ونفسيًّا، ويكرهون كل مختلف عنهم، ويهدمون بدلاً من أن يبنوا مستقبل هذا البلد الحزين. لم أر مسيحيًّا انزعج حين يسمع منّا نحن المسلمين العبارة المقابلة: «اسم النبى حارسك وصاينك». بل كثيرٌ منهم يقولونها بمحبة وبساطة. وحين يُلحفون فى طلب يقولون: «والنبى!» كما نفعل نحن المسلمين. المسيحيون تشرّبوا أدبياتنا الإسلامية اليومية من طول عشرتنا معًا، دون هلع، ولا نفور، ولا استعلاء. أى هلع يصب مختلا من صليب هو رمزٌ لدى المسيحى وجوهر إيمانه؟! مازلت أذكر بفرح ذلك الصليب الأزرق الصغير المرسوم بالوشم على رُسغ يد قدّمت لى حبّة تمر لأكسر بها صيامى فى رمضان يوم ٢٦ يوليو ٢٠١٣ أمام قصر الاتحادية. ولا أدرى لماذا خطر على بالى الآن بيتٌ فى قصيدة أحمد شوقى للجنرال إدموند ألِنبى: «يا فاتحَ القدسِ خلّ السيفَ ناحيةً..... ليس الصليبُ حديدًا كان بل خشبا». وأىُ هلع من جرس كنيسة كان هو السبب فى اختراع السلّم الموسيقى الذى صنع لنا ملايين السيمفونيات والسونتات والألحان الجميلة، كما علّمنا التاريخ؟! عن نفسى أحبّ صوت جرس الكنيسة وأستمتع به حزينًا كصوت ڤيولين شجيّة تملأ قلبى بالشجن، وفرِحًا كما صوت عصفور يشقُّ حُجُبَ الصمت صادحًا يقول: «هنا حياة»!، قلبُ المؤمن يتسع لكل البشر على اختلاف أعراقهم وعقائدهم وألوانهم، أما القلبُ المهترئ فلا يسع حتى نفسَه. |
|