البشريّة: قصّة ابنين!.
ليس الابن الأصغر، في المثَل، هو المشكلة، ولو جعلته خطيئتُه في موقع صعب، من جهة أبيه، بل الابن الأكبر!.
في العادة، تُسلَّط الأضواء على الأصغر، المعرَّف عنه بـ”الشّاطر”، أو “الضّال”، لأنّ التّعليم يقضي!. الاهتمام منصبّ عليه بقصد مماهاة أنفسنا به!. الجميع أخطأوا، والآتي أتى ليدعو خطأة إلى التّوبة!. عندك صورة الخاطئ التّائب وعندك صورة الإله الرّحيم!. ربّما عُرِّف عنه بـ”الأصغر”، إشارة إلى الأمم المتغرِّبة، بعيدًا، عن إلهها!. سافر إلى كورة بعيدة حيث أفلس!. أفرغت الخطيئة الأمم من كلّ قيمة، وجعلتها راعية خنازير!. خادمةَ النّجاسة، رمزًا!. هذا، ربّما، في مقابل الابن الأكبر، أو الابن البكر، الّذي هو إسرائيل!. رغم ذلك، للأمم الشّاطرة توبة، فيما إسرائيل، بكرها، راتع في البرّ الذّاتيّ!. الفرّيسيّة، كبرياءً ورياءً، اجتاحته إلى حدّ بعيد!.
التّركيز، في الابن الشّاطر، هو على عودته إلى نفسه!. كيف للغرباء عن إله إسرائيل أن يعودوا إلى أنفسهم؟ طالت غربتي على نفسي!. سالمت مبغضي السّلام، ولمّا كلّمتهم به ناهضوني بلا سبب!. جَعَلَتْهم خطيئتُهم في عوز إلى الدّفء الكيانيّ!. لم يَعد فيها ما يغوي، ما يُشبِع، حتّى خرنوبًا مرًّا!. لم تعد الخطيئة وعدًا بمسرّة!. باتت عنوان خواء!. إلى ذلك، ألقت الخطيئة أصحابها في المذلّة!. لا فقط جعلتهم في مستوى الخنازير؛ جعلتهم خدّام خنازير!. تمامًا، إذ ذاك، رجع الابن الشّاطر إلى نفسه!. خرج من حال الوهم بشأن خطيئته!. صارت الخطيئة، في واقع عينيه الدّاخليَّتين، عنوان الجوع والفراغ والذّلّ والهلاك!. كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا!.
من هنا صحوة الابن الشّاطر، صحوة الأمم!. أتُرى الصّحوة من الضّيق؟ بل الضّيق، كيانيًّا، يخرجك من غفلة الخطيئة؛ يكسر تماهيك بها، كطبيعة ثانية مكتسبة؛ فيخبو وهجُها لديك!. أمّا العودة، في ذهنك، إلى فوق، فمن فوق!. لا أحد يأتي إليّ إن لم يجتذبه الآب السّماويّ!. أقوم وأذهب إلى أبي!. هذا كلام إلهيّ!. بشريًّا، اليأس من الذّات وحال الذّات يفضي إلى الانتحار!. إذًا، الله، سرّيًّا، منعطف على نفس الخاطئ، مقيم فيها!. ولو كان لينصرف عنها بالكامل لانهارت!. تصرف وجهك فيضطربون، تنزع أرواحهم فيفنون، وإلى ترابهم يرجعون!. ما إن يميل الخاطئ عن نفسه، بعد غرور، حتّى يميل روح ربّه إليه بسرور!. تلقاءً!. بلا عتاب!. إن تَدِنْ نفسَك يبرِّرْك ربّك!. بين قولة الابن التّائب: أخطأت إلى السّماء وقدّامك… وقولة الأب لعبيده: أَخرجوا الحلّة الأولى… لا محاكمة ولا إدانة… فقط، فرحٌ بمَن كان ميتًا فعاش وضالاً فوُجد!. الله، بسابق معرفته، يقيم في الفرح، في الانتظار، بصمت، بهدوء، بسكون، إلى أن يعود الخاطئ إليه بروحه!. إذ كان لم يزل الابن بعيدًا رآه أبوه!. إذ ذاك أعطاه أبوه النّصيب الحقّ الصّالح الّذي يخصّه… ولكن من الفرح والدّفء، لا من صقيع مباهج هذا الدّهر العابرات الخاويات، ما يزيِّنه له السّقوط أنّه المرتجى، كذبًا، وما هو!.
ماذا صنعت الخطيئة؟ في أوّل الأمر، ملأت الابن الشّاطر قحة بعين مفتوحة: أعطني القسم الّذي يصيبني من المال!. عمليًّا، لا حقّ له بما يطلب لأنّ أباه حيّ!. لكنّه اعتبره ميتًا؛ قتله ودفنه، بمعنى؛ وارتضى أبوه أن يعامله ابنُه كنكرة وصَمَت!. هذا ميراث الحرّيّة!. لك أن تقتل ربّك في قلبك إن شئت!. ولكن، في نهاية المطاف، تستحيل الخطيئة، عن غير قصد، مولِّدة للاتّضاع: لستُ مستحقًّا، بعد، أن أُدعى لك ابنًا، اجعلني كأحد أجرائك!. والاتّضاع، في قولة أحد آباء البرّيّة، هو معاينة الله غير المنظور!. لذا كان الابنُ أعمى فأبصر!. بين أوّل الخطيئة وآخرها مراحل: صلف وزنى وغربة وجوع وذلّ وفراغ، ثمّ صحو وتوبة واتّضاع!. خير لي أن أكون صعلوكًا في بيت إلهي من أن أسكن في مساكن الخطأة… هذه تأتي بعد التّمرّغ في حمأة الغرور!. هي شريعة السّقوط أنّ البَرَكة الّتي تغادرها، زهوًا بنفسك، ولا تنوجع لفرقتها، إذ يتصحّر قلبك، لا تشتاق أحشاؤك إليها، ولا تشتهي استردادها!. لكن ربّك هو سيِّد الانتظار الصّامت بامتياز حتّى تعود!.
كلّ خطيئة تُغفر لبني البشر، ولكن ليس إن لم يتوبوا!. إذا كان الابن الشّاطر قد تاب أخيرًا، فالابن الأكبر أقام في مدار آخر، لا تطاله التّوبة!.
أسَرَ نفسه في دائرة البرّ الذّاتيّ!. كاملٌ في عين نفسه، ظَنَّ!. قطّ لم أتجاوز وصيّتك، قال لأبيه!. فضلُه على ربّه: ها أنا أخدمُك سنين هذا عددها!. لا اعتبار لديه لفضل ربّه عليه!. عطايا أبيه تحصيل حاصل عنده!. شيّء أباه!. أبوه، في نظره، غير مبال به!. لا يقيم وزنًا لمشاعره، في فهمه، ولا يهمّه لابنه أن يفرح!. جديًا لم تعطني قطّ لأفرح مع أصدقائي، قال له!. بكلام آخر، الأب متّهم، في عين ابنه الأكبر، بالمحاباة، واللاّمبالاة، والقسوة، والظّلم!. وإلى إدانة البكر لأبيه، أدان أخاه!. أكلَ معيشتك مع الزّواني، قال!. وتكلّم كمَن لم يعد أخوه أخاه!. جاء “ابنك”، قال لأبيه، ولمّا يقل جاء “أخي”!. سقط الأخ الأصغر من عين أخيه الأكبر صريعًا!. ظاهرًا لأنّه خطئ، وفي قرارة نفسه، حسدًا منه!. ذبحتَ له العجل المسمَّن!. هذا بعدما قارن نفسه به!. لذا يضيف الابن الأكبر إلى الاتّهامات، الّتي يتّهم أباه بها، تهمة إضافيّة، أو قل يحكم على أبيه بـ”سوء التّدبير”!. إذًا، في داخله، أبوه، كأب، فاشل، وكإله، فاشل!. صورة الإله، الّتي أبوه عليها، ساقطة!. لا هذا هو الأب الّذي يشاؤه لنفسه، ولا هذا هو الإله!. إذًا، ليس الابن الأكبر في وارد عبادة الإله كما هو، بل الإله الّذي تصنعه أهواؤه!. إنّما بحثُه عن صنم يدعمه في شهوة نفسه!.
ما دام الابن الأكبر يحسب نفسه كامل الأوصاف، مبرَّرًا، حقّانيًّا، فما الحاجة لأن يتوب إلى أبيه؟!. بالأحرى، أبوه بحاجة إلى توبة تجاهه!. مَن كان أبوه قتيل أهوائه ونزواته، فلا مطرح لمصالحته معه!. أللابن خلاص؟!. لسنا نعلم!. لم نُعْطَ أن نعلم!. أثمَّةَ خلاصٌ بلا توبة؟!. أثمّةَ بلوغٌ إلى التّوبة بلا عودة إلى الذّات، بلا اعتراف بالخطيئة، بلا اتّضاع!. المَثَل ينتهي بتأكيد عودة الابن الشّاطر إلى حضن أبيه استنادًا إلى محبّة الله!. كان ينبغي أن نفرح ونُسَرّ- قال الأب لابنه الأكبر- لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجد!. أخوك، يا بنيّ، يبقى أخاك، ويصير أخاك بالأكثر متى تاب إلى رشده وعاد!. وكما يحبّ الأبُ ابنه الضّال يحبّ بِكْرَه!. محبّة الله ليست مّما نعمل بل من ذاته لأنّه محبّة!. طبعًا، يُطرح السّؤال هنا: ما دام أنّ الله محبّة فكيف تتبلور محبّته، كخلاص، لابنه الأكبر؟ عرفناها متبلورة للابن الأصغر توبة!. هنا باب التّوبة، أقلّه لناظرينا، موصَد!. أترى ثمّة أبواب أخرى للخلاص، أو ربّما للتّوبة؟!. أمام إله يشاء الخلاص للجميع وهو قادر على كلّ شيء – وهذا كلام كتابيّ- وبإزاء إله لمّا يُجب عندما سئل: أقليل هم الّذين يخلصون؟ فقط، قال: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضّيّق؛ نجدنا أعجز من أن نتطارح الأمر إلاّ عبثًا!. ثمّة سرٌّ لمّا يُكشَفْ، ولا حقّ لنا في أن نهتك الحجاب!. فقط، نعلم أنّ إسرائيل، الابنَ الأكبر، صَلب أباه وربّه، وأنّ مسيح الرّبّ قال لأبيه، وهو على الصّليب: اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!. متى وكيف تأخذ المغفرة هذه طريقها إلى التّرجمة؟ هذا متروك، في المدى، لتدبير ربّك!. أنّى يكن الأمر فليس يُطاق أن يُلقى أحد في الجحيم!. متى عاين أبناء الملكوت قومًا في الجحيم فجحيمهم أقسى من الجحيم بما لا يُقاس!. هذا خُلُق ربّك و”جحيم” محبّته… وأهل بيته… اللّهمّ خلِّص المؤمنين والّذين لا يؤمنون!.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان