يسوع المسيح والروح القدس
تشير الأناجيل بصورة دائمة الى ان الروح القدس يرافق يسوع المسيح، كلمة الله المتجسد، خلال حياته الأرضية كلها، اي منذ البشارة حتى الصعود. كما تجدر الإشارة اولاً الى أن الروح القدس وكلمة الله قائمان أزليّاً مع الآب، بفعلهم معا خُلقت الأرض والسماء وكل المخلوقات. ومن ثمّ لم يكن تَرافقهما مقتصراً على الفترة التي ظهر فيها كلمة الله على الأرض انساناً، بل هو سابق لهذا الظهور ومستمر بعده.
يوحي الإصحاح الأول من انجيل لوقا أن الروح القدس قد نزل الى الأرض لمناسبة ولادة المسيح. فيوحنا المعمدان “يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن امه” (لوقا 1: 15)، هذا الروح نفسه يحلّ على مريم لقبولها حَمْل ابن الله في أحشائها، فالملاك يقول لها: “ان الروح القدس يحلّ عليك وقوّة العلي تظللك، ولذلك فالقدوس المولود منك يُدعى ابن الله” (لوقا 1: 35). عندما زارت مريم أليصابات الحامل بيوحنا “امتلأت أليصابات من الروح القدس” (لوقا1: 41). كما يبدو جليّا أنّ سمعان الشيخ عرف بالروح القدس ان الطفل يسوع ليس سوى مسيح الرب المُنتَظَر: “وكان الروح القدس عليه. وكان قد أوحي اليه بالروح القدس أنَّه لا يرى الموت حتى يُعاين مسيح الرب” (لوقا 2: 25-26). اذاً واكبَ الروح القدس كل مراحل التجسد مقدِّساً المساهمين فيه، لذلك دُرج على تسميته “روح التجسد”.
في معمودية يسوع في الأردن ظهر الثالوث للمرة الأولى في العالم، فالآب والروح شهدا علانية أنّ يسوع الناصري هو ابن الله: “ونزل عليه الروح القدس في صورة جسميّة مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلاً انت ابني الحبيب بك سُررتُ” (لوقا 3: 22). أما في بداية رسالته البشاريّة فالمسيح يفتح سفر إشعياء النبي ويقرأ: “إنّ روح الرب عليّ ولأجل ذلك مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين …”(لوقا 4: 18)، وبذلك يؤكد للجموع أنّه مسيح الرب أي الممسوح منه، والمسحة ليست سوى الروح القدس المُستقر عليه. اسم “المسيح” يحمل بذاته معنى ثالوثيا ذلك أن الآب هو الماسح والابن هو الممسوح والروح القدس هو المسحة.
ونلاحظ ايضا أنّ الروح القدس لا يفارق المسيح طوال سياحته البشرية، فالقديس لوقا يقول حين يسرد تجربة يسوع على الجبل: “ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلئ من الروح القدس، فاقتاده الروح في البريّة” (لوقا 4: 1). اما القديس مرقس فيقول في سياق الحادثة ذاتها: “وللوقت أخرجه الروح الى البريّة” (1: 12)، وكأن الروح القدس دفع يسوع الى البرية ورافقه في تجربته وانتصاره على الشيطان. وبعد التجربة نرى أنّ يسوع يرجع الى الجليل “بقوّة الروح” (لوقا4: 14). ولم يفارق الروح القدس يسوع في صلاته ايضا، “وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال أعترف لك يا أبتِ ربّ السماوات والأرض…” (لوقا 10 : 21). وفي حادثة إقامة لعازر من بين الأموات يخبر القدّيس يوحنا ان المسيح “ارتعش بالروح” قبل أن يشكر الله قائلا: “يا أبتِ أشكرك لأنك سمعتَ لي” (11: 33و41).
ظلَّ الروح القدس ملازماً ليسوع حتى الصليب والموت، فالمسيح صاح على الصليب قائلا: “يا أبتِ في يديك استودع روحي” ويتابع الإنجيلي لوقا معلِّقاً: “قال هذا ولفظ الروح” (23 :46)، وأمّا يوحنا الإنجيلي فيقول: “أسلَم الروح” (19: 30). لم يفارق الروحُ يسوع في القبر، بل يؤكد الرسول بولس أنّ الروح قد أقام المسيح من بين الأموات: “فإذا كان الروح الذي أقام يسوع من بين الأموات حالاًّ فيكم، فالذي أقام المسيح من بين الأموات يحيي أيضا أجسادكم الفانية بروحه الحالّ فيكم” (رومية 8: 11).
ملازمة الروح الدائمة ليسوع تعكس ولا شك الوحدة القائمة بين الروح والكلمة الأزليين، كما تُبرز عملهما المُشتَرك منذ الأزل والى أبد الدهور مروراً بالخلق والتجسّد والمجيء الثاني. وليس إذاً صحيحا القول أن العهد القديم هو زمن الآب، والفترة التي عاش فيها المسيح على الأرض هي زمن الابن، وبعد صعوده بدأ زمن الروح القدس، فالروح القدس حاضر في العهد القديم ومع يسوع وهو يعمل في العهد الجديد. كذلك الأمر بالنسبة الى الآب والابن.
الروح القدس هو الذي يجعلنا أبناء لله، فالرسول يقول: “إن الذين ينقادون لروح الله يكونون أبناء الله حقّا. لم تتلقوا روح عبودية لتعودوا الى الخوف بل روح تبنٍّ به ننادي أبّا، يا أبتِ” (رومية 8: 14-15). غاية الحياة المسيحية هي أن يصير الإنسان ابناً لله، وهذا أصبح ممكناً بفعل الروح القدس الذي يناله المؤمن بالمعمودية ويبقى معه طالما هو ممارس للصلاة والعبادة. وثَمّة عبارة ذات أهميّة قصوى للقديس اسحق السرياني فحواها: “عندما يسكن الروح القدس في قلب الانسان، لا يستطيع هذا الأخير أن يتوقف عن الصلاة، لأن الروح القدس لا ينفكّ يصلّي فيه”.