من أين أتت روح هذا الصوم الذي يعترض في كل سنة طريق بلوغنا إلى فرح الميلاد؟ السؤال بحد ذاته يساعدنا على استدلال الطريق نحو جواب: يبدو الصوم غير ملائم لأننا في أغلب الأحوال نرى الميلاد كفرح فقط ولا نقدّر جيداً السر العميق الغامض الذي هو في قلب فرحنا. نحن نتلهّف إلى استذكار “الملائكة ينشدون”، لكننا نوعاً ما ننسى المعنى الكوني للحدث أي سبب إنشادهم. ليس مجرد طفل يولد: الذي بغير ولادة يُولَد. الذي خلق الكل يصبح طفلاً مولوداً، الذي يمسك الكون بيده تمسكه أم حنون بيدها.
يا رب إن الأجناد العقلية لمّا عاينَت السرّ قبل ولادتك اعترتها الدهشة، لأنّك يا مَن زيَنتَ السماء بالكواكب، قد سُرِرتَ أن تصير كطفل وتتكئ في مذود البهائم أيّها الضابط في قبضته أقطار الأرض جميعها. لأنّه بهذا التدبير قد عُرِف تحنُنُكَ أيها المسيح ورحمتُك العظيمة. فالمجد لك (استيخيرون الساعة الثالثة من سواعي عيد الميلاد)
نحن لا نرتعد عندما نفكّر بالميلاد ولا يصيبنا العَجَب. بالمقابل، نحن نشتري هدايا ونخطط للحفلات ممسكين بطرف من فرح العيد ولكن من دون أن تغمر روعته قلبنا. وهكذا يصبح الصوم ما علينا عبوره لكي نصل إلى ذلك اليوم البهج. وعندما نصل، في أي حال، إذا كان هذا موقفنا، تلتقطنا الكنيسة بطرفة عين بالأناشيد التي تلقّمها في قلوبنا. نحن نجد أنفسنا ملتحقين بالاحتفال بتحرير انتصاري من العبودية لكننا لا نفهم معنى هذه العبودية إلا قليلاً. نحن نرتّل تراتيل فرح التحرر، لكننا لا نفهم فعلاً كيفية استعبادنا. نحن نجد أنفسنا فجأة منقولين إلى قمة الجبل، لكن من دون أن نكون قد تسلقنا من الوادي العميق، فالمنظر الذي نعاينه هو مجرد صورة رائعة أخرى وُضعَت مؤقتاً أمام أعيننا وليس الرؤية التي عملنا وكافحنا من أجلها وتقنا إليها بكل كياننا. قد نحسّ بالفرح، ولربما بفرح الميلاد. لكننا جميعاً نعلم، في أعماق ذواتنا، أن فرحنا ليس كالفرح الموصوف في هذه الترنيمة:
افرحوا أيها الصدّيقون ويا أيّتها السماوات ابتهجي. وتهلّلي أيتها الجبال بميلاد المسيح، البتول جالسة مماثلة الشاروبيم، حاملة في أحضانها الإله الكلمة متجسّداً. الرعاة للمولود يمجّدون، المجوس للسيد يقرّبون هدايا. والملائكة يسبّحون قائلين: أيها الربّ المحجوب عن الإدراك المجد لك. (الإيذيومالا الأولى من إينوس سحر العيد)
وقت للاستعداد
إن صوم الميلاد هو التعزية الحكيمة والمعونة اللتين تقدمهما الكنيسة للعجز البشري. نحن شعب كثير النسيان، لكن تناسينا ليس مجهولاً من الله، وقلوبنا بكل اعتقاداتها الخاطئة ومفاهيمها الضعيفة ليست غريبة عن الروح القدس الذي يقود الكنيسة. نحن الذين نبتعد عن الله بقدر خطيئتنا، مدعوون بالمقابل إلى التقرب منه. من خلال الصوم الذي يسبق عيد التجسد العظيم، الذي هو بحد ذاته إنجاز لدعوتنا، تساعدنا الكنيسة على الانجذاب إلى ملء السر الذي يستتبع هذه الدعوة.
على مثال الصوم الكبير، صوم الميلاد هو رحلة
هلّموا لننظر أيّها المؤمنون أين وُلِد المسيح، فلنتّبع إذاً، الكوكب إلى حيث يسير مع المجوس ملوك الشرق (الستيخولوجيا الأولى من سحر العيد)
في الخامس عشر من تشرين الثاني تجتمع الكنيسة في رحلة نحو ذاك الخلاص الذي وُعِد به آدم أولاً عندما نزلت لعنة الله على الحية (تكوين 14:3-15). إن الذي تقودنا النجمة إليه هو ذاك الذي سوف يسحق رأس الحية والخطيئة والشيطان وكل ما هو ضد الله. إن صوم الميلاد هو رحلتنا إلى شيء جديد وعجيب من الله يأتي وعلينا أن ندنو منه باختيارنا. الله أعطى الوعد بأرض جديدة وبركة عظيمة لابراهيم بسخاء، لكن للحصول عليه “ارتحل إبراهيم على حسب ما أخبره الرب ” (تكوين 4:12).
إن الرحلة هي نسكية بطبيعتها. إذا لم تكن حياتي متواضعة جداً، فلن أستطيع أن آخذ كل ممتلكاتي في رحلة. لا أستطيع أن أنقل الرباطات الاجتماعية والسياسية على طريق السفر. لا أقدر أبداً أن أتّكل كثيراً على المخططات التي وضعتها للرحلة. عليّ أن أفسح لنظام يتخطى ذاتي وأقبله. هذه هي الروح التي يدعونا الصوم إليها.
إن الرحلة هي فعل حركة وانتقال ونمو. القديم يُترَك خلفنا، الجِدَّة هي ما يُدرَك ويُعانَق، وازدياد الفهم هو ما يتمّ. وحتى لو أنتهت الرحلة في المكان الطبيعي التي بدأت منه، فإن ذلك المكان يتحوّل لدينا بالرحلة التي بها بلغناه مجدداً. إن مأوى على زاوية شارع في لندن لا يختلف بعد عن رحلة إلى الشرق الأوسط؛ لكن بعد معاينة صراعات الفقر وعذاباته، معنى ذلك المأوى الصغير وأهميته تصبح بالواقع مختلفة لديّ.
هنا أهمية الصوم. فيما يقترب عيد الميلاد، ذاك العيد ذو المعنى الكوني الأبدي، الفرح الزاخر الذي تفرح به السماوات والأرض، يدعوني الصوم إلى التأمّل: “هل أفرح؟ لماذا أفرح؟ إن تراتيل العيد تشير بوضوح إلى أن هذا العيد هو للمسكونة جمعاء، لكل الخليقة؛ والصوم يدعوني إلى اتّخاذ موضعي في تلك الخليقة، إلى إدراك أن، بالرغم من تفاهتي غير المحدودة، عيد الميلاد هو معجزة لنفسي أيضاً.
استعدّي يا بيت لحم، وليتأهّب المذود، وتتقبّل المغارة، فإن الحقيقة قد جاءت، والظلّ قد جاز والإله قد ظهر للبشر من البتول، ظاهراً على صورتنا ومؤلِّهاً طبيعتنا، فلذلك قد تجدّد آدم مع حواء هاتفَين: لقد ظهرت المسرّة على الأرض لتخلّص جنسنا (إيذيومالا من الساعة الأولى لصوفرونيوس بطريرك أورشليم)
آدم وحواء، وكل البشرية، يتجددون ويحيون في تجسد الله في المسيح الذي “ظهر على الأرض ليخلّص جنسنا”. الجسد الساقط، الذي ارتبط بالموت إلى ذلك الوقت، يُخاط في ثوب المسيح ويصبح حياً بكل ما في الكلمة من معنى. لقد قيل بحق أن الجنس البشري أخذ أول نَفَسَ كامل له عند أوّل صرخة للطفل المسيح.
نحن مدعوون إذاً للدنو من هذا السر العظيم، سر تنازل الله في حياتنا الشخصية والجماعية. يشرح قانون سحر العيد بوضوح: “جعل لنا طريق السماء مسلوكاً” (الأودية الأولى من القانون الثاني ليوحنا المتوحّد، في سحر العيد). عيد الميلاد ليس فقط عيد نزول الله إلينا، بل عيد صعودنا إليه، تماماً كما ارتقت البشرية الخاطئة بشخص المسيح في التجسّد. إذاً، نحن مدعوون للنهوض خلال الصوم الذي هو الرحلة إلى عيد الميلاد “انعطف أيّها المحسن المجيد إلى تسابيح عبيدك، مزيلاً تشامخ العدو المتكبّر واجعلنا نحن المرتلين لك، منتصرين على الخطيئة وثابتين على قاعدة الإيمان” (الأودية الثالثة من القانون الثاني ليوحنا المتوحّد، في سحر العيد). يحمل المؤمنون هذه الدعوة من خلال التخلّي عن الأشياء التي تربط أكثر ممّا تحرّر، حتى يكون التركيز على أن الله هو الكلّ في الكلّ أكثر تحققاً وأكثر أصالة ومركزية في حياتنا اليومية.
تخفّ الوجبات وتخضع للنظام حتى يتشكّل فينا جوع مستقر يذكّرنا بالحاجة العظمى التي لدى الكلّ للغذاء الروحي الذي يتخطّى خبزنا اليومي. يزداد عدد الخدَم الكنسية بشكل تدريجي حتى نعرف مصدر الغذاء الحقيقي. تُوضَع الحلويات والمشروبات جانباً حتى لا نشعر بالرضى بمبهجات هذا العالم التافهة المؤقتة. تقلّ الحفلات والارتباطات الاجتماعية حتى ندرك أن الأمور ليست كما هي بالغالب. كل ما له بعض السلطة علينا، سواء كان التدخين أو التلفزيون، يخفَّض إلى الحد الأدنى والأفضل أن يوضع جانباً كلياً، حتى نتمكن من حمل أنفسنا لتكون متمَلَّكة ومحكومة من الله.
الصوم هو زمن جهادي، نظّمته الكنيسة ليزيل الحواجز الآثمة التي تقود إلى الخطيئة، ليزوّدنا بوسائل إدراك الذات التي تنقصنا في انغماسنا النموذجي، لكي تبدأ بذور الفضيلة بالنمو. كل هذه ضرورية إذا كنا نقدّر ولو قليلاً “عمق كنوز الحكمة ومعرفة الله” أو نعرف في أي وقت علينا المباشرة بمهمة تطهيرنا المعطاة من الله، والتي تُنجَز بنعمته فقط، حتى نتمكّن من الاقتراب منه في يوم عيد الميلاد كما فعل المجوس والرعاة في بيت لحم:
هلّموا أيها المؤمنون لنَرتَقِ بحالٍ إلهية ونعاين تنازلاً إلهياً بادياً لنا من العلاء في بيت لحم علانيةً. وإذ نطهّر عقولنا بالسيرة لنقدّم الفضائل عوض الطيب. ونسبق فنهيئ بإيمان مداخل عيد الميلاد بين الذخائر الروحية صارخين: المجد لله في الأعالي الواحد في ثالوث الذي به ظهرت المسرّة في الناس لينقذ آدم من اللعنة القديمة بما أنه محبّ للبشر (إيذيومالا الساعة السادسة من سواعي العيد)
الفرح الحقيقي في سر التجسّد
تسافر الكنيسة نحو ميلاد المسيح الرب، تقودها السفينة التي هي صوم الميلاد. هي تقوم بهذا لأنها تعرف أنّها بدون تسلق الجبل ذي الانحدار المفرِط بالنسبة لها، لن تصل إلى معرفة اتساع الموهبة التي تسطّح الجبل بيد الله. القيامة إلى الحياة هي قمة عطايا التجسّد، لكن إن لم يفهم الإنسان أنه ميت فلن يفهم معنى القيامة.
الصوم هو أداة مقدّسة ومباركة تقرّبنا من معرفة الذات. إنه يكشف لنا مَن نكون، ولربما ما هو أهمّ، أنه يكشف لنا مَن لسنا نحن، ويجعلنا أكثر وعياً لما نحتاج إليه. عندها وفقط عندها، وبعينين مفتوحتين، ولو جزئياً، بالمسعى النسكي، نعرف حقاً نور ميلاد المسيح المعطي الحياة ونسمع بخشية إعلان ترتيلة الغروب، آخذين السر المقدَّم فيها وكأنه بطريقة ما منسجم معنا مباشرة:
هلمّوا لنبتهج بالرب مذيعين السرّ الحاضر. فإنّه قد زال سياج الحائط المتوسّط والحربة اللهيبية تنقلب راجعة. والشاروبيم تبيح عود الحياة. أمّا أنا فأعود إلى التمتّع بنعيم الفردوس الذي نُفيت منه قبلاً بسبب المعصية. لأنّ صورة الآب وشخص أزليّته المستحيل أن يكون متغيّراً قد اتّخذ صورة عبد آتياً من أمّ لم تعرف زواجاً، خلواً من استحالة، حيث لبث كما كان إلهاً حقيقياً، واتّخذ ما لم يكن، إذ صار إنساناً لأجل محبته للبشر. فلنهتف نحوه صارخين: يا مَن وُلد من البتول اللهمّ ارحمنا (الأولى من قطع المساء في غروب العيد)
نعجز عن فهم هذا السر الذي لا يوصَف بشكل كامل. تبقى بعض المعرفة لله وحده. لكن بنعمته من خلال الجهد النسكي نأتي إلى فهمِ، ولربما بدرجة بسيطة، كيف أن هذا السرّ هو سرُّنا، كيف أن حياته هي حياتنا، وكيف أن خلاص يوم الميلاد هو بالواقع خلاصنا. ومع هذا الإدراك يأتي فرح أعظم بكثير من مجرد الفرح الذي يقدمه لنا دخول الهيكل في يوم الميلاد. هذا هو فرح رحلة الإنسان التي من قبل الدهور، أي رحلتنا، وهو يأتي إلى التحقق في السر الذي يثير الرهبة، سر أن يصبح الله نفسه إنساناً. مع هذا الفرح في قلوبنا ينبغي بنا أن نعتنق كلمات المرتّل وكأنها كلماتنا نحن:
اليوم العذراء تأتي إلى المغارة لتلِد بحال غامضة الوصف الذي قبل الدهور. فافرحي أيتها المسكونة إذا سمعتِ، ومجّدي مع الملائكة والرعاة الذي سيظهر بمشيئته طفلاً جديداً، وهو إله قبل الدهور