رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القداسة هدف الحياة الروحية مقدّمة إن الطموح الأساسي للمسيحي الحق هو القداسة. فالقداسة هدف الإيمان المسيحي وغاية الحياة الروحية. وبذلك لا تهدف المسيحية، في عمقها، إلى تحقيق مؤسسات خيرية واجتماعية وفكرية وتربوية، إلا بمنظار هذا الطموح الأساسي، وهو إطلالـة الملكوت في المكان والزمان، في كل مكانٍ وكل زمان. أو لنقل بالأحرى: مؤسسات المسيحية هي شهادة لخبرة حب عميقة يعيشها مؤمنوها. إن الحياة الروحية، بحسب مفهوم الإيمان المسيحي، هي أولاً وآخراً خبرة تحقيق قداسة الله في الواقع المعاش. فالقداسة من صفات الله القدوس. يدعى الإنسان إليها لكونه في أساس وجوده مخلوق على صورة الله القدوس. ويمّيز "الآباء" هنا في تأملهم نص خلق الإنسان بين "الصورة" و"المثال". فالله القدوس يخلق الإنسان على صورته أي شبيهاً به في الحرية والسيادة على الكون، ويدعوه إلى تحقيق التمثل به، أي أن يكون على مثاله في خبرة القداسة. وبذلك تصبح القداسة حركة تحقيق وتواصل مستمرة، فهي أكثر من أن تكون نهاية مسيرة، أو صفة دائمة لإنسان أو لقب شرف لبار، والدليل على ذلك فقدانها في حالة الخطيئة. إنها حركة مستمّرة، تستغرق أبدية الله وتلتحف عظمته. لذلك يمكننا القول أن القداسة هي حالة معينة تُختَبر، واقعٌ مميز يُعاش، من أهم خصائصها أنها لا تُحَد. من يختبرها "ينتقل من نطاق حياته الضيق المستكين إلى رحاب إمكانية دخول حياة الله، أشبه بمن تنفتح أمامه مساحات شاسعة لا يحدها النظر بل تقطع على المرء أنفاسه. وإنها لمساحات على أكمل ما تكون الحرية، وهذه المسافات نفسها هي حريات تجذب حبنا وتستقبله وتستجيب له.. وهكذا تتكدس، بشركة القديسين في الله، وإلى أبعد ما يمكن إحصاؤه، مغامرات الحب الخلاّق المبدع، فتصبح الحياة أعجوبة مطلقة، ولن يُعطى أيُّ شيء يقضي على إمكانية القبول، وعملية العطاء تنتشر لا تحدّها حدود " (أنظر: بَلْتَسار (هانس أورس فون)، نؤمن، دار المشرق، ص88-89). القداسة إذاً هدف الحياة الروحية، ولكن هذا الهدف يتحقق دون أن ينتهي، لأن الله لا ينتهي، والغاية هنا ليست مجرد فكرة أو مبدأ أو عقيدة أو مشروع أو أي شيء آخر، الغاية هي فقط اللقاء بالله القدوس المحب، وتواصل اللقاء معه. تقول القديسة تيريزيا الأفيلية: "كلُّ شيءٍ يزول.. الله يبقى.. الله وحده يكفي..." إذا كانت القداسة تشبّه بالله القدوس (1بط1/15-16)، هي أيضاً تشبّه بيسوع القدوس. إن لفظة "قدوس" أُطلقت على يسوع أيضاً، فهو "قدوس الله" (مر1/24، يو6/69) و"فتاه القدوس" (رسل4/27،30)، وبالرغم أنه من ذات كيان الله القدوس نراه يستمدُّ من أبيه القداسة، كما رأينا سابقاً حين تأملنا كيف كان يسوع يصلي. وبالمقابل، إذا كانت القداسة حركة "تشبّه" بالله القدوس وبابنه القدوس، هي أيضاً تشبّه بمن تلقى الروح القدوس، يقول بولس الرسول: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح" (1كور11/1).. "لست أنا الحي إنما المسيح حيٌّ فيَّ" (غلا2/20). لقد استطاعت الكنيسة عبر تاريخها، وبالإصغاء المرهَف للروح القدس، أن تعلن بعض الشخصيات التي حاولت مواصلة الانسجام والتجاوب مع مبادرة الله المحبة. أولئك الذين حاولوا تقبل سخاء الله ونعمه الغير المحدودة، فتلقوا "الروح القدس"، فنجحوا، فتقدّسوا، فكانوا ذلك ?السحاب الكثير الكثيف من الشهود" (عب12/1) الممتلئ من محبة الله وقداسته. سوف استعرض إليكم في هذه الأمسية المباركة نماذج من الذين صيّروا الأرض سماء. وأمام سخاء الله في قديسيه، لا يمكنني إلا أن اختار الغيض من الفيض. سوف أتكلم عن بعض القديسين الذين كان لهم صدى في تاريخ الروحانيات المسيحية. خصوصاً تلك التي استأثرت التزام الكثير إلى حياة الإيمان والشهادة أو التكريس والرهبنة. فالمنهج الروحي للقديس ليس هو فقط لأتباعه أو لأهل زمانه إنما هو كنز للكنيسة الجامعة تُثقفه حسب المكان والزمان. القداسة طموح الشهداء.. لقد رأى المسيحيون الأوائل أن قمة حياة القداسة هي الاستشهاد، خصوصاً أن المسيحية انتشرت في عصر الاضطهاد، لذلك نرى أن معظم تلاميذ يسوع سفكوا دمائهم تمسكاً بإيمانهم (تأمّل: رو8/35-00). فكانوا حقاً "زرع الكنيسة"، حسب تعبير ترتليانوس. فاقتدوا بيسوع في حياته وموته لتستمر الكنيسة بمجدهم "فلا تقوى عليها أبواب الجحيم" (مت16/18). هكذا وُصفت الشهادة على أنها الشكل الأعلى والأسمى للقداسة. فالشهداء هم الذين غسلوا حُللهم وبيّضوها بدم الحمل" (رؤ7/15). ولدينا المثال على ذلك القديس اغناطيوس الانطاكي. فلنصغِ إلى ما يقول: "لن تتاح لي فرصة كهذه للذهاب إلى الله.. إني لا أطلب منكم شيئاً. أطلب فقط أن تتركوني أن أقدّم دمي فدية على مذبح الرب، مادام المذبح معدّاً.. إني أموت بمحض اختياري من أجل المسيح.. اتركوني فريسة للوحوش. هي التي توصلني سريعاً إلى الله. أنا قمح أُطحَن تحت أضراسها، لأُعدّ خبزاً نقياً للمسيح.. لقد ابتدأت أكون تلميذاً للمسيح.. لا شيء يمنعني عن المسيح.. ماذا تفيد ملذات العالم، مالي وفتنة هذا العالم. إني أفضل أن أموت مع المسيح من أملك أطراف المسكونة.. قرُبت الساعة التي أولد فيها. اغفروا لي يا اخوتي.. دعوني أحيا حقاً.. اتركوني أصل إلى النور النقي. إذ ذاك أصبح إنساناً حقيقياً. اقتدوا بي فأنا اقتدي بآلام ربي.. إن رغبتي الأرضية قد صلبت ولم تبقَ فيّ أي نار لأحب المادة، لا يوجد غير ماء حي يدمدم في أعماقي ويقول تعال إلي أيها الآب" (رسالته إلى أهل رومة). ليس الموت طريقاً لحياة القداسة ولكن إن كان لا بدّ منه فأهلاً به. إن الشهيد، حسب القديس اكليمنضوس الإسكندري، هو "دعوة الإنسان إلى الكمال". والشهادة ليس نهاية حياته ولكنّها تُظهر "كمال المحبة". فلا يحمل الشهيد القداسة لإخوته فقط "بل لكل الكنيسة والعالم والكون". وكما يقول أحد الفلاسفة الوجوديين: عندما تكون كنيسة قديسة يصدر عنها قديسون، وبالمثل القديسون يجعلون من كنيستهم قديسة. القداسة مسيرة صحراء بعد أن أعلن السلام القسطنطيني مرسوم ميلانو سنة 313 م الذي سمح بحرية انتشار المسيحية وأنهى زمن الاضطهاد. خيّم على الكنيسة بعض مظاهر الرخاء والتملّق والمحاباة، وازداد ذلك كلما نعمت الكنيسة بالهدوء والاستقرار، وكادت الروحانية المسيحية، التي أعلنت ملء مصداقيتها بدم الشهداء، تفقد عمقها لولا أن الله افتقدها ليأتي بها "إلى البرية ليخاطب قلبها" (هو2/16)، ويدعوها مجدداً إلى نوع آخر من الشهادة، إنها شهادة الصحراء. لقد نشأت الحياة الرهبانية في صحراء مصر أولاً، ثم في سورية وفلسطين، و"حتى أقصى الأرض"، احتجاجاً على أن الزمن، وإن كان زمن قيصر، هو أولاً زمن ملكوت الله. فلا بدَّ من الصحراء، حيث يضعف ملكوت قيصر. فالرهبنة ليست بدعة في حياة الكنيسة، بل العكس تماماً. فكما كانت شهادة الدم هي ملء حياة القداسة زمن الاضطهاد، تكون الرهبنة نموذج للقداسة في زمن سطوة العالم .يتكلّم القديس إيرنيموس عن عطش كنيسة زمانه إلى الصحراء، فيقول: "أيتها الصحراء حيث سطعت أزهار المسيح الفتيّة. أيتها الخلوة حيث ولدت تلك الأحجار التي تبنى منها مدينة الملك العظيم حسب سفر الرؤيا.." ويتحدث إلى أحد أصدقاءه فيقول: "ماذا تعمل أيها الأخ العزيز في هذا العالم هل ستبقى محبوساً تحت الأَسقف.. وإلى متى؟.. إلى متى ستبقى في سجن المدن المدخنة؟.. صدقني، لا أستطيع أن أصف لك النور الغير الموصوف الذي يقع تحت عيني. ما أشد سروري أن أخلع ثوب الجسد الثقيل لأطير في طهارة الإشعاع الساطع.." إن الصحراء ترمز إلى حاجة الإنسان إلى الخلوة الداخلية. حيث المؤمن يكتشف صورته الأصلية في رؤيا الحبيب (أُنظر: نشيد الأناشيد 4) فيتحوّل العالم المليء بالقحط والأنانية والعنف إلى سلام وهدوء (أُنظر: أشعيا 35) والاستسلام لله هو أهم ما تقدمه الصحراء (رؤ3/20) وبه يستطيع المؤمن الانتصار على كل سطوة إبليس (مت4/1-11) إذ أنه في عمق الصمت يمكن الإصغاء، والإصغاء لله يُحقق الانتصار. القداسة.. صحراءٌ في قلب العالم لقد أكد القديس أنطونيوس الكبير على ضرورة النزوح إلى الصحراء المكانية لتحقيق ذروات في حياة القداسة. ليأتي بعده القديس أفرام السرياني (373- 306) ليطوّر هذه الحقيقة. فيعتبر أن حياة التأمل هي ضرورة ملحة للالتزام العميق بالمسيحية. ويطلق قولاً للمسيح غير موجود في الإنجيل: "حيث يكون متوحد فأنا أكون".. ويضيف: "إن المسيح هو معنا.. هو فرحنا". ولكن التوحد والتأمل لا يتنافى مطلقاً مع الالتزامات الإنسانية الأخرى. فمع القليل من قوة الروح، يمكن عيش الشهادة في زحمة الحياة، فلا ضرورة، برأي القديس أفرام، للهرب من العالم. ويتكلم أفرام عن البتولية وعن إمكانيتها في حياة المجتمع، لا بل يشدد على ضرورتها لتعلن للمؤمنين رؤى الحياة الأبدية. ويتكلم أيضاً عن ضرورة ممارسة حياة الفقر والصوم والسهر والصلاة المستمرة ليتمكن المؤمن من إعلان حضور الله في حياته. لقد كان أفرام شاعراً فرتل في قلب العالم ما تمجد به أباء الصحراء. ويأتي أيضاً القديس باسيليوس الكبير (330- 370) ليؤكد أن للالتزام بحياة القداسة في عمق التأمل لا يتكرّس إلا "بالعمل" و"المشاركة". فنراه ينظم الحياة الرهبانية ويدعمها بالمشاريع الاجتماعية التي تنسجم مع اندماج يسوع باخوته الصغار الذي فيهم يكون جائعاً وعطشاناً ومريضاً وغريباً.. (مت25). فلا يمكن الفصل في حياة القداسة بين التأمل والخدمة، بين الصحراء والمجتمع. وتأخذ الصحراء في قلب العالم بُعداً مميّزاً مع القديس فرنسيس الأسيزي (1182) حيث تبدأ خبرته الروحية بلقاءه مع المسيح المصلوب، ومن خلال مسيرة داخلية طويلة أخرجت فرنسيس من بيئته البرجوازية. لتنطلق به وتضعه في نور الرب مقدماً له ذاته في أعمال فقير وأخ صغير للفقراء والبرص والهامشيين. ففي كنيسة سان داميان طلب المصلوب من فرنسيس: "يا فرنسيس، اذهب وأصلح كنيستي التي تنهار". لم يفهم مباشرة معنى هذا النداء. ولكنّه شعر برغبة عميقة للتخلي. فترك كل شيء له وتوجه للتأمل بالمصلوب ملتزماً بحياته بكل ما تحمل من فقر وتواضع ووداعة ومحبة، وعلاقة الخالق بالخليقة. إن الإقتداء بالمسيح والتشبّه بحياته وخصوصاً بفقره وتواضعه هو أساس بناء الروحانية الحقة. والمؤمن الذي يتخلى عن كل شيء وعن ذاته إقتداء بالمسيح يغتني بالمسيح في آخر المسيرة. فالله يؤلهه متقبلاً تقدمة ذاته. إن تنازل الله نحونا يرفعنا ويمنحنا الكرامة الحقة. وكان القديس فرنسيس يرجع دوماً إلى "التوبة"، وحتى، وهو على فراش الموت، يتذكر كيف قاده الله إلى التوبة. فالتوبة هي حركة مستمرة في حياة المؤمن. وتأخذ حياة التأمل المندمجة فيقلب العالم وجهاً معاصراً مع الأخ شارل دو فوكو (1858- 1916) فتمنح النور الأوفر لحياة يسوع في الناصرة. فقد شعر بأنه مدعو إلى أن يكرز بالإنجيل لا بالكلام والنشاطات الخارجية، بل بالحياة: "يهتف بالإنجيل بحياته". بحسب عبارته الشهيرة. ولا ننسَ كم غرف هذا الأخ ليسوع قبل اهتدائه من ينابيع القوة العبثية واللهو والمجون. لقد كان ابن عائلة غنية وحاكمة في الجيش الفرنسي آنذاك. يترك كل شيء ليعيش حياة الاندماج بالمجتمع متخفٍ كيسوع العامل البسيط في الناصرة، كل ما لديه من غنى هو فقط يسوع. يقول الأخ شارل في يومياته: "يجب أن تكون رسالتي رسالة صلاح. ينبغي أن يقول الناظر لي.. بما أن هذا الرجل صالح، لابد أن يكون إيمانه حسناً. وإذا ما طُلب إلي لماذا أنا لطيف ووديع علّي أن أقول.. لأنني خادم لسيد يفوقني جداً بصلاحه، فيا ليتكم علمتم أن سيدي يسوع هو صالح.. وأني لأتمنى أن أكون صالحاً بالكفاية كي يقال.. إن هذا العبد هكذا، فماذا عن السيد.. علّي أن أكون كلا للكل.. أضحك مع الضاحكين وأبكي مع الباكين.." القداسة "لمجد الله الأعظم.." "لمجد الله الأعظم" نغمة رتلها إذ كان بعد في العالم، وأصرّ أن تكون أنشودة حياة الروح. فكان كذلك له ولقلوب كثيرة.. إنه القديس أغناطيوس دي لويولا (1556) مؤسس الرهبنة اليسوعية. إن هذا المعلم الكبير الذي قادت روحانيته، خصوصاً من خلال "الرياضات الروحية"، الكثير إلى النهوض والقداسة. والرياضة الروحية هي أهم ما يميز هذه الروحانية. وهي عبارة عن تمارين تنتقل بممارسها (وبإشراف مرشد) إلى اكتشاف حب الله القوي واعتلان مجده الأعظم في هذا الحب. فتحاول أن تقرأ حياة الإنسان على صفحات الكتاب المقدس. فالكتاب المقدس هو اختبار روحي، يمكن للمتريض أن يكتشف فيه خبرة علاقته بالله القدوس القوي في حبه. وهكذا ينتقل المتريض بين الأمجاد في حياته والكبوات أيضاً، ولكن ليس بحركة العقل وحسب، بل بالإصغاء لهمسات الروح القدس، لاكتشاف "مشيئة الله" وتمييز إرادته واختيار القرار المناسب لوضع ذلك في الحياة والعمل.. فمهما تنوّعت التعدديات، لابدّ من الاختيار، ولابدّ من الالتزام به. ونجد القديس أغناطيوس رغم ذلك يمنح المكانة للقلب. فنراه ساعات طويلة في حوار عميق مع الحبيب حتى أن الدموع تنهمر سخية من عينيه.. دموع التوبة.. ودموع الفرح في الرؤيا. فرجل الإرادة والعزم والعمل تغذي دموع التوبة والرغبة في رؤيا الله والاتحاد به. لقد تفرعت من هذه الروحانية تيارات عديدة اتسم بعضها "بالعملية"، وبعضها الآخر "بالنظرية". ولمعت عنها شخصيات كان لها شأناً مهماً في التاريخ ولا يزال. وقد أحببت أن ألتقي إليكم في هذه الأمسية المباركة، الأب تيار دو شاردان (1955) الراهب اليسوعي العالم المعروف في أوساط علماء الجيولوجيا والطبيعة والانثروبولوجيا، وأيضاً علم المستحاثات ونظرية التطور... ولدي قول له يعبر أصدق تعبير عما يدور في فلك سماءه: "إذا كنت منذ حداثتي أحببت وسبرت الطبيعة والكون باكتمال وبعقيدة متزايدة، فأني لا أستطيع القول ما فعلت ذلك كعالم بل كمتعبد، ويبدو لي أن كل جهد لدي وحتى لو تناول شيئاً طبيعياً صرفاً، كان أبداً جهداً دينياً ووحيد بجوهره وإني لمدرك بأني سموت في كل شيء إلى المطلق. ولو كان هدفي غير هذا الهدف لما كانت لي الشجاعة على العمل، حسبما أعتقد. إن العلم (أي كل أشكال النشاط البشري) والدين ما كانا في نظري إلا شيئاً واحداً. كلاهما بالنسبة إلي سعي إلى غاية واحدة". (عن نشرة "عالمي" 14/4/ 1918). حقاً إن مجد الله الأعظم هو الإنسان الحي، كما يقول القديس إيرناوس. القداسة مسيرة واقعية.. إن الطموح الأول والأخير للمسيحي الحق، كما رأينا، هو القداسة. وهكذا كانت تيريز ليزيو (الطفل يسوع) تعلن باستمرار عن هذا الطموح. فتقول بشجاعة: "إن الشوق إلى القداسة، لازمني حياتي كلّها". لذلك سوف نتأمل روحانيتها بشكل أعمق لعلنا نشاهد فيها وجها نموذجياً ومعاصراً (1897) للقداسة، خصوصاً بعد أعلنتها الكنيسة "معلمة" فيها.. إن تيريز، بالرغم من وعيها إن القداسة هي دعوةٌ للجميع بفضل نعمة المعمودية، اكتشَفَتْ سرَّ دعوتها الخاصة. فقد كتبت في باكورة رسائلها في "السيرة الذاتية" لأختها "الأم أنييس يسوع" مُفسِّرةً قول الإنجيل: "صعد يسوع إلى الجبل، ودعا إليه الذين أرادهم، فأقبلوا إليه" (مر3/13)، لتحدثها عن "سرّ دعوتها، بل سرّ حياتها كلها، وسرّ ما خصَّ به يسوع نفسها"، فتقول: "لقد طالما تساءلتُ: ترى لماذا نجد لدى الله خصائص تتناول هذا أو ذاك؟ لماذا لا تتساوى النفوس كلها في نِعَم الله؟ وكان يأخذني العجب لدى رؤيته يغمر بعطايا خارقة، قديسين حَفَلتْ فترة من حياتهم بالخطيئة، كالقديس بولس والقديس أغسطينوس، بل إنه كان يُرغمهم على قبول نِعَمِه. وعندما أقرأ سيرة بعض القديسين، وكنت أرى أن الرب قد طاب له أن يداعبهم من المهد إلى اللحد، وكان يُبادر هذه النفوس بمواهب خاصة، دون أن تخبو إشراقة حلّة العماد فيها... لقد تنازل يسوع وكشف لي هذا السر. لقد وضع أمام عينيَّ كتاب الطبيعة ، وأفهمني أن الزهور التي أبدعها، كلها جميلة، وأن روعة الوردة ونقاء الزنبقة لا يقضيان على أريج البنفسجة الصغيرة، والبساطة الأخّاذة في الأُقحوانة... وفهمت أن الزهرات الصغيرة، لو كانت كلّها وروداً، لفقَدَتْ الطبيعة حلّتها الربيعية، وحُرِمَت الحقول تنوُّع الزهور فيها. تلك هي الحال في دنيا النفوس، أعني بستان يسوع. فقد شاء أن يغرس القديسين العظام، على غرار الورود والزنابق، وشاء أن يغرس زهرات صغيرة، لابدَّ لها أن تكتفي بأن تكون أقحوانات أو بنفسجات يتمتع بها نظر الله.. فالكمال هو في الأمانة لإرادته، وفي أن نكون ما يشاء لنا أن نكون". تؤكد هذه الراهبة الصغيرة، التي ما تعلَّمت يوماً في مدارس اللاهوت، بل الطبيعة وكلمة الله كانتا مدرستها، أنَّ محبة يسوع تشمل جميع البشر دون استثناء، فهي "تتجلّى في النفس الأكثر وضاعة، تلك التي تتجاوب كلياً مع نعمته، كما تتجلّى في النفس الأكثر سموّاً. ذلك "أن ميزة الحب أن يتنازل.. وفي تنازل يسوع، تتجلّى عظمته اللامحدودة". فالطفل "الذي لا علم له بشيء.. وساكن الأدغال الذي ليس له ما يقود مسيرته إلا الناموس الطبيعي.."، هما أيضاً مدعوان إلى القداسة!.. هكذا "يعتني الرب يسوع بكل نفس ، كما لو كانت فريدة". ويمنح كلَّ إنسان التطلع إلى اللقاء به. إذ "لا يمكن لله، تقول تيريز في نفسها، أن يبعث فينا أشواقاً يستحيل تحقيقها. فبوسعي، إذن، وبالرغم من صِغَري، أن أصبو إلى القداسة". وما يميِّز دعوة تيريز إلى القداسة هو رغبتها السريعة في تحقيقها، رغم إدراكها لحقيقة الضعف المتأصلة في الإنسان، تقول: "لابدَّ لي من أن أقبل واقعي كما هو، بكلِّ ما فيه من نواقص. إني أريد أن أذهب إلى السماء، سالكةً طريقاً مستقيمة وقصيرة المدى، طريقاً صغيرة وجديدة. فنحن في عصر الاختراعات، ولم يَعُد ضرورياً أن نتسلَّق السلالم درجة درجة.. هناك المِصعَد!.. أنا أريد أن أجد مصعداً يرفعني إلى يسوع، فأنا أصغر من أن أتسلَّق سلّم الكمال، وهي سلّم شاقة". ولكن، ما هو المِصعَد في نظر صغيرتنا القديسة؟!.. الطبيعة..؟ أم الكتب المقدَّسة؟.. أم كلاهما معاً؟.. لقد وجدت تيريز في تأملها الكتب المقدسة "ما كانت تسعى إليه". فكانت تعتبر أن كلمة الله هي دائماً واقعية، بشكل أن تكون موّجهة إلينا مباشرة، وشخصيّاً، ولقد كانت باستمرار "موضوع أشواقها". فحين تتأمل مثلاً نصاً إنجيلياً يتحدَّث عن مريم العذراء، تقول: "يجب ألا نذكر عن مريم أموراً مجهولة أو يصعب تصديقها. مثلاً، أنها ذهبت صغيرة إلى الهيكل لتقدّم ذاتها للرب بعواطف حب مضطرمة وحرارة خارقة العادة، في حين أنه ذهبت ربما لمجرّد طاعة والديها. فلكي يأتي بثمر تأمل عن العذراء، يجب أن يظهر هذا التأمل حياتها الواقعية كما تستشف من الإنجيل، لا حياتها المفترضة. ومنه ندرك أن حياتها الواقعية في الناصرة، شأنها فيما بعد كانت حياة عادية... يروننا العذراء بعيدة عن متناولنا. يجب أن يرونا إياها كمن يمكن الإقتداء به، أي أنها كانت تمارس الفضائل خفية. وأن يقولوا أنها عاشت نظيرنا من الإيمان، مستندين إلى براهين مأخوذة من الإنجيل". ولَكَم كانت الطبيعة أيضاً مصدر إطلالة حبِّ الله عليها، حتى أكثرت من الاستعارات والتشابيه المستمّدة من الطبيعة كالورود والطيور والشمس والعاصفة والمطر والضباب، تقول: "يا يسوع، يا أول صديق، يا صديقي الأوحد، أنت الذي أحبك وحدك، فَسِّر لي هذا السر.. . لماذا لا تحصر التطلعات الوسيعة في النفوس الكبيرة، في النسور التي تُحلِّق فوق القمم؟.. أنا أحسب ذاتي عصفوراً صغيراً.. لست نسراً، إلا أنَّ لي عينا النسر وقلبه، لأني برغم صغري، أجرؤ على التحديق بالشمس الإلهية ، شمس الحب، وقلبي يشعر في أعماقه ، بكل ما للنسر من تطلعات.. يا يسوع إني أتفهَّم حبك للعصفور الصغير.. ولكني على عِلمٍ أيضاً ، وكذلك أنت، أن هذا المخلوق الناقص ، مع التزامه أن يبقى تحت أشعة الشمس، قد يسهو قليلاً عن اهتمامه الأوحد، فيلتفت تارةً إلى اليمين، وطوراً إلى اليسار، ليلتقط حبة صغيرة، أو يسعى وراء دودة صغيرة... وإذا ما لحظ قليلاً من الماء قد تجمَّع على الأرض، عدا إليه ليُبلِّل ريشه الطري؛ وإذا وقع نطره على زهرة تحلو له، مال إليها تفكيراً واهتماماً.. . ولأنه لا يستطيع أن يُحلِّق كالنسور، يعكف العصفور الصغير على توافه الأرض، ويوليها اهتمامه. مع ذلك، وفي أعقاب هذه النقائص، وبدلاً من أن يندُب فيها شقاءه ويموت ندماً، يلتفت العصفور الصغير صَوْب شمسه الحبيبة، ويعرض لأشعتها المُحيية، جناحيه الصغيرين المُبلّلين، ويتنهَّد على مثال السنونوة ويُغني، وعبر نشيده الشجي، يسرد تفاصيل إساءاته ويستودعها من يستمع له.. ويستجلب عطاء أغزر من حب ذاك الذي لم يأتِ ليدعوَ الصديقين بل الخطأة..." لم تتردَّد تيريز مطلقاً أن تظهر في سيرتها نقائصها التي كان يسوع ساهراً على تجاوزها، لذلك "لا تجد صعوبةً في النهوض عندما تكبو"، على حدِّ قولها. فحين يكتشف الإنسان ضعفه، تقول تيريز: "يتحمَّل نقائص الغير، ولا تصدمه مواطن الضعف فيه". فلا يكفي أن نقول أننا نحبُّ الآخرين، "بل علينا أن نقيم الدليل على هذا الحب". وكما قالت القديسة تيريزيا الأفيلية: "ينبغي أن نتعامل بفن مع ضعفنا"، عاشت تيريز الصغيرة هذا الفن، ليس مع ضعفها وحسب، بل ومع ضعف الآخرين أيضاً. ولقد اقتبست هذا الفن، كما تقول، من يسوع نفسه الذي هو "فنّان النفوس". لم تتأخر تيريز في إظهار عفويتها، ومواقفها المرحة، كأن تذكر مثلاً أن أمها كانت تنعتها بالـ"عفريته".. وأنها حين كانت تمازح أباها تتمنى له أن يموت لكي يذهب إلى السماء. وعندما تهددها الوالدة بأنها ستذهب إلى جهنم حين لا تكون "عاقلة"، تردُّ عليها أنها سوف تتعلّق بها لتذهب معها إلى السماء، "إذ كيف يمكن للرب، تقول تيريز لها، أن يُبعدني؟ ألا تضميني إلى ذراعيكِ بشدة". كأنها كانت على قناعة أن الله "لن يستطيع حيالها شيئاً" طالما هي بين ذراعي الأم! التي هي بدورها، تصف صغيرتها، أنها، رغم صراحتها وشفافيتها و"قلبها الذهبي"، "طائشة"، "عنادها لا يقهر.. عندما تقول "لا"، لا يمكن لأي شيءٍ أن يُزعزعها". وتحتار الأم حول مستقبلها وتتساءل عنها "ماذا ستكون"؟.. ليتكِ علمتِ أيتها الأم الفاضلة التي قدَّمَتْ للكرمل أربع زهرات من بناتها، أن الصغيرة منهن ستكون قديسة!! تختار تيريز الطفولة الروحية طريقةً لقداستها التي طالما تشوَّقت إليها، تقول: "لستُ في حاجةٍ لأن أكبر، بل بالعكس، لابدَّ لي من أن أظلّ صغيرة، وصغيرة جداً، وأن أصغر أكثر فأكثر". ولكن، كيف تفهم قديستنا الطفولة الروحية: "سوف أبقى أبداً طفلةً، ابنة سنتين أمامه تعالى كي يضاعف اهتمامه بي.. فالطفل يرتضي بصغره وضعفه، ويقبل أن يكون بحاجة إلى المعونة.. سأتوكَّل على الله أبي في كلِّ شيء، وأطلب إليه كلَّ شيء، وأرجو منه كلَّ شيء. سأترك له الماضي مع ما فيه من المتاعب والمآثم ليغفرها.. وسأقبل الحاضر والمستقبل منه مسبقاً كما تشاء يده الحنون أن تنسجها لي.. سوف أبقى أبداً طفلةً أمامه، وأحاول دوماً أن أرتفع إليه بالرغم من ضعفي ووهَني.. الطفل الصغير يستطيع المرور بكلِّ مكان لصغره.. كم أتوق إلى السماء، حيث نحبُّ يسوع دون تحفظ أو حدود.. في قلب يسوع، سأكون دوماً سعيدة.. الشيء الوحيد الذي أرغب في أن تطلبه نفسي، هو نعمة حبِّ يسوع، وأن أجعل، قدر إمكاني، كلَّ إنسان يحبه.. سوف أعكف دائما على التغني بمراحمك.. " تطمح تيريز في طفولتها الروحية إلى النبوءة، وإلى الكهنوت. وتتشوّق، كبولس الرسول، إلى المواهب العظمى، لتكتشف في النهاية، أن الحب هو غاية المواهب والدعوات، تقول: "يا يسوع، سامحني واشفِ نفسي بمنحها ما تصبو إليه!!.. أن أكون عروستك.. أن أكون كرميلية.. أن أكون، باتحادي بك، أماً للنفوس.. كان يجب أن أكتفي بهذا... ولكن الواقع غير هذا.. لأني أشعر في ذاتي بدعوات أخرى.. أشعر بدعوة إلى الكهنوت والرسالة والتعليم والاستشهاد.. أشعر في نفسي بالحاجة والشوق، إلى أن أقوم في سبيلك، يا يسوع، بكلِّ الأعمال الأكثر بطولة!.. مع أني صغيرة، أتشوّق إلى أن أنير النفوس، على غرار الأنبياء والمعلمين. إني مدعوَّة إلى الرسالة... ورغبتي أن أجتاز الأرض، وأنادي باسمك، وأغرس في الأرض النائية، صليبك المجيد. ولكنَّ رسالةٌ واحدة لا تكفيني. يا حبيبي، أنا أريد، في الوقت نفسه، أن أحمل بشارة الإنجيل ، إلى القارات الخمس، وحتى الجُزُر القاصية.. وأريد أن أكون مرسلة، ليس على عدد من السنين وحسب، بل منذ خلق العالم، وحتى اليوم الأخير.. ولكني أصبو، فوق كل شيء، يا مخلصي الحبيب، إلى أن يُراق دمي لأجلك، حتى النقطة الأخيرة".. ولكنها، ولشدة واقعيتها تختار دعوتها في المسيح أن تكون الحب، فتقول: "أجل، وجدتُ موقعي في الكنيسة. وهذا الموقع، قد أعطيتنيه أنت، يا إلهي.. في قلب الكنيسة، أمي، سأكون الحب.. وسأكون بهذا الحب كلَّ شيء.. . لقد وعيت أن الحب يحوي في ذاته، جميع الدعوات، وأن الحب هو كلّ شيء، وأنه يَلُفُّ جميع الأزمنة والأمكنة، وبكلمة، إنَّ للحبِّ الخلود.. يا يسوع، يا حبي، لقد اهتديتُ أخيراً إلى دعوتي ، إنَّ دعوتي هي الحب!". لذلك نجدها، وبهذا الحب، تصلّي من أجل جميع الناس، خصوصاً الذي يحملون دعوة التكريس الكامل لله والخدمة، ولعلها كانت تحمل الكهنة في كلِّ صلاةٍ لها. هكذا، تتجلى قداسة تيريز في واقعيتها الطموحة. تعرف حدودها، تسرُّ بصغرها، ولكن لا تمنع نفسها التطلع إلى العظائم. لعل القدير الذي ينظر إلى ضعتها، يمنحها كفتاة الناصرة عظائمه، وهكذا فعل، تقول: "إنَّ كلَّ شيء يؤول في النهاية إلى خلاصي وسعادتي ومجده تعالى.. الله يعلم كلَّ شيء، وهو قادرٌ على كلِّ شيء.. ويُحبني.. إن أصغر لحظة حب خالص، لأكثر فائدة لها ، من جميع ما عداها من نشاطات مجتمعة.. " "يا يسوع، كن لي كلَّ شيء. هب لي ألا تتمكن أشياء الأرض من أن تلقي الاضطراب في نفسي، وألا يُقلق سلام نفسي أي شيء . يا يسوع لست أسألك إلا السلام، والحب أيضاً، ذاك الحب اللامتناهي، الذي لا يحده غيرك... الحب الذي يُحوِّلني من ذاتي إليك.. أعطني أن أموت شهيدة.. يا يسوع لتكمُل مشيئتك فيَّ بكمالها.. إن مسرتك وعزاءك، هما محور ما أريد". خاتمة "لذلك فنحن الذين يحيط بهم هذا الجمُّ الغفير من الشهود، فلنلقِ عنا كلَّ عبءٍ وما يساورنا من خطيئة ولنخُض بثبات ذلك الصراع المعروض علينا، محدقين إلى مبدئ إيماننا ومتممه، يسوع الذي، في سبيل الفرح المعروض عليه، تحمّل الصليب مُستخفاً بالعار، ثم جلس عن يمين عرش الله" (عب12/1-2) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|