رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
العقل في مواجهة السرّ الوحي يظل مطبوعاً بطابع السرّ. يذعن المؤمن للوحي بطاعة الإيمان. والدلالات الماثلة في الوحي تساعد هي أيضاً العقل على فهم السرّ. العلاقة العميقة بين المعرفة بالإيمان والمعرفة بالعقل يعبّر عنها الكتاب المقدّس الذي يشيد في كتبه بالجهد للبلوغ إلى الحكمة (ابن سيراخ 14/20-27). التاريخ وتقلبات الشعوب هي بمنأى عن هذا السياق. فالإيمان لا يتدخلّ ليقلّل من استقلالية العقل أو لينتقص من رقعة عمله ولكن ليفهم الإنسان أنّ الله يتجلى ويعمل من خلال هذه الأحداث. الإيمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل أن يكتشف في سياق هذه الأحداث ملامح العناية الإلهية وحضورها الفاعل. من المستحيل أن يقوم صراع أو منافسة بين العقل والإيمان. وسفر الحكمة يؤكد أنّ الإنسان إذا عمل فكره في الطبيعة بإمكانّه أن يرتقي منها إلى الخالق: "إنّه بعظم جمال المبرؤات يبصر خالقها على طريق المقايسة" (حكمة17/5). ويرى القديس بولس أنّ الله قد وضع في جذور الخلق قدرة العقل على أن يتخطى المعطيات الحسيّة بلا عناء ليدرك مصدر كلّ شيء أعني الخالق. ولكن على أثر تمرد الإنسان على الله ورغبته في أن يجعل نفسه في حالة استقلال كامل ومطلق زالت قدرته على أن يرتقي بلا عناء إلى الخالق والقديس بولس يكشف لنا إلى أي مدى أمست باطلة أفكار الناس بسبب الخطيئة (روم1/21-22). وجاء المسيح فكان مجيئه هو الحدث الخلاصي الذي افتدى العقل من ضعفه وحرره من القيود التي بات سجينها وبالتالي أصبحت علاقة المسيحي بالفلسفة بحاجة إلى تمييز جذري. يبرز القديس بولس العلاقة بين "حكمة هذا العالم" وحكمة الله المتجليّة في يسوع المسيح (كورنتس1/20-27) العلاقة بين الإيمان والفلسفة تجد المناداة بالمسيح المصلوب والناهض من الموت الصخرة التي يمكن أن ترتطم بها فتغرق كما يمكن أن تتخطاها لترتمي في محيط الحقيقة الذي لا حدود له. هنا يظهر بجلاء الحدّ الفاصل بين العقل والإيمان ولكنّ نرى أيضاً أين يمكنهما التلاقي. التقدّم في البحث عن الحقيقة نوّه القديس بولس في خطابه في أثنيا (أعمال فصل 17). بحقيقة ما برحت الكنيسة تستفيد منها وهي أن الله قد زرع في عمق الإنسان التوق والحنين إلى الله. "كلّ الناس يحنّون إلى المعرفة (أرسطو) ويبتغون البلوغ إلى الحقيقة. قال القدّيس اغسطينوس: لقد لقيت أناساً كثيرين يبتغون الغشّ ولكني لم ألتقِ أحداً يرضى أن يُغَش". إنّ ما تحقق من بحوث في المجال العملي يضاهي في الأهمية ما تحقق في الصعيد النظري أعني البحث عن الحقيقة في مجال الخير. لابدّ من أن تكون القِيَم التي نختارها وننتهجها في الحياة قيماً حقيقيّة. الحقيقة يتمثلها الإنسان في البدء في صيغة تساؤلية: هل للحياة معنى وما غايتها. وإلى جانب وجودنا هناك حقيقة مبرمة هي أنّنا سنموت. وكلّ منا يريد أن يعرف هل الموت هو خاتمة وجوده أم هناك شيء يتخطى الموت. لا يستطيع أحد أن يفلت من هذه الأسئلة. ويتوق الإنسان إلى حقيقة شاملة تصح في كلّ مكان وزمان. الفرضيّات تستطيع أن تعزينا ولكنها لا تستطيع أن تروي عطشنا. ويأتي يوم لابدّ لنا جميعاً من أن نرسي وجودنا على حقيقة نعتبرها مرتكزاً نهائياً وتتيح لنا يقيناً لا يرقى إليه الشك من بعد. العطش إلى الحقيقة هو من التجذّر في قلب الإنسان حيث لا يمكن صرف النظر عنه وإلاّ يصبح الوجود في أزمة. بفضل مؤهلات الفكر باستطاعة الإنسان أن يظفر بالحقيقة ويعترف بها. هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يحصّلها لا عن طريق البحث العقلي وحسب بل أيضاً عن طريق الوثوق بأشخاص آخرين بإمكانهم أن يضمنوا له يقين الحقيقة وسلامتها. من يستطيع أن يراقب لحسابه الخاص ذاك السيل المتفق من المعلومات التي تصل إلينا من كلّ أنحاء العالم ومن يستطيع أن يعود وينتهج الدروب الاختباريّة والفكريّة التي اختزنت بفضلها كنوز الحكمة والتدّين لدى البشريّة. الإنسان ينتهج في البحث طريقاً لا نهاية لها بشريّاً بحث عن الحقيقة وبحث عن شخص يضع فيه ثقته، ويستطيع الإيمان المسيحيّ أن يساعده ويؤهله عملياً ليفلح في هذا البحث. الإيمان المسيحي يتخطى مجرّد التصديق ويُدخل الإنسان في نظام النعمة الذي يمكنه من المشاركة في سرّ المسيح والتعرّف على الله الواحد في تثليث أقانيمه. هذه الحقيقة التي يكشفها الله لنا في يسوع المسيح لا تناقض الحقائق التي ندركها بالفلسفة. وحدة الحقيقة هي من أسس مسلّمات العقل البشري يعبّر عنها مبدأ اللاتناقض. ونجد في الوحي يقين هذه الوحدة عندما يؤكد لنا أنّ الإله الخالق هو أيضاً إله تاريخ الخلاص. الإله الذي هو أساس وضمانة النظام الطبيعي الذي يرتكز عليه العلماء هو نفسه الذي يكشف لنا ذاته أبا ربنا يسوع المسيح. وحدة الحقيقة هذه الطبيعيّة والمنزلة تجد في المسيح تناغمها الحيّ والشخصي على حدّ ما يذكّر به الرسول بولس: "الحقيقة التي في يسوع" (أفسس4/21، قولسي1/15-20) إنّه الكلمة الأبدي الذي به كُونّ كلّ شيء وفي آن واحد الكلمة المتجّسد الذي كشف لنا الآب. من هذا المنطلق علينا أن نستوضح العلاقة الصحيحة بين الحقيقة الملهمة والعلم الفلسفي نتناول أولاً العلاقات بين الإيمان والفلسفة عبر التاريخ ثمّ نستوضح بعض المبادئ التي يمكن اعتمادها لإقامة الصلة الصحيحة بين هاتين المنزلتين في المعرفة. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|