رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نعمة التجارب وفائدتها إنَّ الله تعالى يستعمل التجارب بمنزلة علاجٍ شافٍ، بها يجعلنا آنية طاهرة نقية. فلا يجب أنْ ننظر إليها كنقمة بل كنعمة من الله. بها يُصلِح نفوسنا. ويُرقِّى أخلاقنا ويُهذِّبها، ويُزكِّى أرواحنا، ويزيل كبرياءنا وفسادنا، يجعل ذاته سندنا الوحيد، ويرفع أرواحنا من الأرض إلى السماء. فإنَّنا لا نجد وقتاً ترتفع فيه أنفسنا عن العالم وتلتصق بالله أكثر من زمن التجارب. في تلك الأوقات تنحلّ القيود والسلاسل التي تُقيّدنا بالدنيا وتصعد عقولنا إلى فوق إلى السماء، وفي ذلك راحة كبرى للنفس، وتعزية تامة تَحِفّ وطأة المصائب. طوبى لمَنْ ينظر إلى التجارب هذه النظرة حيث يرى أنَّ يد الله الحنون هي التي أصابته فيقبل التجربة حباً به تعالى وإكراماً له، وتنتبه نفسه وترجع لاجئة بمصدر راحتها. لنعلم أنَّ كل تجربة أو ألم أو حزن أو كل ما يُصيبنا في العالم إنَّما هو موجة من أمواج بحر هذا العالم المتلاطم المضطرب الهائج بالعواصف والأنواء الكثيرة، ترفع بنا من البحر إلى شاطئ السلام وتُقرِّبنا إلى السماء. وترفعنا عن دنيا العالم وتُعلن لنا خداعه وغروره ولكن عدم مبالاتنا بهذه التجارب مما يُزيد آلامنا ويُضاعف ضيقاتنا. كما أنَّ المريض لا يستفيد من دواء الطبيب إذا لم يُراعِ إرشاده، كذلك أولئك الذين يستهينون بالتجارب فإنَّهم لا ينتفعون ممَّا يُصيبهم. وربما لا يجدون وقتاً ولا فرصة أخرى لتقويم نفوسهم. إنَّ التأمل في الآلام أمر محزن ولكن أشد حزناً منه التأمل في حالة أولئك الذين لم ينتفعوا بتلك الآلام، لأنَّهم استخفُّوا بتأديب القدير واستهانوا بيد العلى. من أحسن علاجات النفس لاحتمال التجارب قول الرسول "لأنَّ خِفَّة ضِيقَتنا تُنشئ لنا فَأكثَر مَجْدٍ أبديّاً" 2كو (17:4) فهذا وحده يكفينا لنتعلَّم احتمال الآلام بصبرٍ جميل. لأنَّه إنْ كان المجد يكثُر للنفس باحتمالها التجارب، وإنْ كانت الضيقات واسطة لزيادة المجد، فما بالك أيَّتها النفس تتذمَّرين ممَّا يُزيد من مجدك ويُضاعف من راحتك الأبدية. تعزية كبرى أنْ تتأمل النفس بأنَّ الراحة الأبدية والسعادة الكاملة تُكال لنا بكؤوس أكبر وأوسع من كؤوس الأحزان التي نشربها في العالم. وأنَّ آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أنْ يُستعلن فينا. فلماذا يغيظك أيَّتها النفس وقوعك تحت رَحَىَ تجارب العالم مادامت هي تطحنك وتُصيرك دقيقاً نقياً. وبدخولك في نيران الألم تصيرين صالحة لأنْ تكونِ خبزاً طاهراً أمام الله وأنَّ دخولك الآتون لا يُقصد منه إلاَّ خروجك منه أيضاً صافية كالذهب الخالص. وإذا كانت يد الرب هي التي شاءت تأديبنا فمَنْ يرفض تأديبه! إنَّ تأديب الرب لنا بالأوجاع والضربات خير من أنْ يبتسم لنا العالم ويعزُّنا ويُسلِّمنا أخيراً إلى الهلاك. طوبى لرجل يُؤدِّبه الرب فلا ترفض تأديب القدير،"لأنَّ الذي يُحِبُّه الرَّب يُؤدِّبُه ويَجلِد كل ابنٍ يَقبَلُه. إنْ كُنتُم تَحتَمِلُون التَّأدِيب يُعامِلكُم الله كالبَنِين. فأيّ ابنٍ لا يُؤدِّبُه أَبُوه... ولَكِنَّ كل تَأدِيب في الحَاضِر لا يُرَى أنَّهُ للفَرحِ بَل للحَزَن. وأمَّا أَخِيراً فيُعطِى الذين يَتَدرَّبُون بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَم" عب (11، 7، 6:12) "كُلَّ الأَشْيَاء تَعْمَل معاً لِلخَيرِ للذين يُحِبُّونَ الله" رو (28:8). أيُّها المحزون والمُجَرَّب والمُتوَجِّع: لا تحزن ولا تبكِ بل اعلم أنَّ عين الله تُراقبك، وأنَّ عنده العزاء الكثير إذا اتَّكلت عليه من كل قلبك وسلَّمت إليه أمرك. إنَّ الفاخوري لا يترك آنيته في النار حتى تحترق. والصائغ لا يدع فضته وذهبه في البوتقة أكثر ممَّا ينبغي. فإنَّ الله لا يترك أصفياءه في آتون التجارب للأحزان، بل للتمحيص والتزكية. قال الرسول "لَمْ تُصِبكُم تَجْرِبَةٌ إلاَّ بَشَرِيَّةٌ ولكنَّ الله أَمينٌ الذي لا يَدَعكُم تُجَرَّبُون فَوقَ ما تَستَطِيعُون بَل سَيَجعَل مع التَّجرِبَة أَيضاً المَنفَذ لِتَستَطِيعُوا أنْ تَحتَمِلُوا" 1كو (13:10). إنَّنا نجد كثيرين من أقدس الناس وأكثرهم تقوى واقعين في تجارب يَندُر أنْ يُصاب بها غيرهم. ألا ترى كثيرين من الأتقياء لا تفارقهم الدموع فلا تتركهم البلايا بل هم حليفو الأوجاع. لا يخرجون من تجربة حتى تلقاهم أخرى، ولكن الله لا يترك الأحزان تفترسنا بل هو قال "لا أُهمِلُك ولا أَتْرُكُك" "كَثِيرَةٌ هي بَلايَا الصِّدِّيق ومِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيه الرَّب" مز (19:34) "إذَا اجْتَزْتَ في المِيَاه فَأَنَا مَعَكَ وفي الأَنْهَار فَلا تَغمُرُك. إذَا مَشَيْتَ في النَّار فَلا تُلْذَع والَّلهِيبُ لا يُحرِقُك" أش (2:43) "أمَّا خَلاصُ الصِّدِّيقين فَمِنْ قِبَل الرَّبِّ حِصنهُم في زَمَان الضِّيق. ويُعِينُهُم الرَّبُّ ويُنَجِّيهِم.. " مز (40، 39:37). مَنْ كان يظن أنَّ ذلك الغلام يوسف الذي أبغضه أخوته وطرحوه في الجب ثم بِيعَ عبداً ثم أُلقىَ في السجن في أرض مصر، كأنَّ العناية تركته. فإنَّه لمَّا جاء زمن افتقاده وانتهت مدة تجربته، خرج من السجن ليكون مُتسلِّطاً على كل أرض مصر. ومَنْ كان يتصور أنَّ ذلك الطفل موسى الذي ألقته أمه بجانب النهر يغلب فرعون وكل جنوده ويقود إسرائيل؟ هل خطر في بال أحد أنَّ إنساناً مثل يونان يُطرح في البحر ويدخل في جوف الحوت ثم يخرج سالماً؟ مَنْ كان ينتظر أنَّ دانيال الذي أُلقى في جب الأسود يخرج منه إلاَّ عظاماً؟ مَنْ كان يتصور أنَّ الفتية الثلاثة الذين أُلقوا في أتون النار يخرجون أحياء ولم تكن للنار قوة على أجسامهم وشعرة من رؤوسهم لم تحترق وسراويلهم لم تتغير ورائحة النار لم تأتِ عليهم. هذه عناية الله وحفظه للذين يتوكلون عليه في أزمنة الضيق، فإنَّه يُخرجهم من ضيقهم ظافرين منتصرين كاملين. إنَّ البحر الهادئ لا يُصَيِّر الملاَّح حاذقاً. والجندي الذي لا يشهد المعارك لا يكون جندياً مُدرباً. والجسم الذي لا يحتمل المشاق لا يكون قوياً. ولا تظهر النجوم وينجلي بهاؤها إلاَّ في الليالي الحوالِك. والحبوب العطرية لا تفوح رائحتها إلاَّ إذا سُحِقَت وفُرِكَت والذهب الحقيقي لابد أنْ يُمحَص في البوتقة. والماس لابد أنْ يُقطع والحنطة لابد أنْ تُدق قبل أنْ تدخل إلى الإهراء. والقمح لابد أنْ يُطحن ويدخل النار قبل أنْ يصير صالحاً للطعام. والأوتار لا تُعطى صوتاً عذباً ما لم تُشد جيداً وتُضرب بالأصابع. ولا تتمكن الأشجار الصغيرة في الأرض إلاَّ إذا هزَّتها الرياح وكذلك الكرمة لا تنمو وتحمل العناقيد الكثيرة ما لم تُشذَّب وتُقلَّم بالمناجل. على هذا المثال يعظم انتصار شعب الله كلما ازدادت تجاربهم. يكثر مجدهم بازدياد آلامهم. ويعلون قدراً عند الله كلَّما أُخفضوا في أعين الناس وأعين أنفسهم. هؤلاء إذا حاربوا انتصروا، وإذا أُصيبوا بالشدائد غلبوا وخرجوا منها ظافرين. ويظهر أنَّ بلاياهم أوفق لحياتهم الروحية، وأنَّ أحزانهم الشديدة نافعة لعواطفهم السماوية حتى تظهر النعمة المستترة في قلوبهم عند المصائب، كما يخرج ماء الورد من الزهر عند وضعه في النار. قال أشعياء النبي عن المسيح أنَّه رجل أوجاع ومُختبر الحزن مع أنَّه لم يوجد في فمه غش فأخذ أسقامنا وحمل أمراضنا. قال عنه الرسول بولس "كَانَ يَنْبَغِى أنْ يُشْبِه إخوَتَه في كُلِّ شَيء، لِكَىْ يَكُونَ رَحِيماً، ورَئِيسَ كَهَنَةٍ أمِيناً في ما لله حتَّى يُكَفِّر خَطَايَا الشَّعْب. لأنَّه في ما هو قَد تَأَلَّم مُجَرَّباً يَقدِرُ أنْ يُعِين المُجَرَّبِين" عب (18، 17:2) "لأنْ لَيسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيرُ قَادِرٍ أنْ يَرْثَىِ لِضَعَفَاتِنَا، بَل مُجَرَّبٌ في كُلِّ شَيء مِثلُنَا، بِلا خَطيَّةٍ" عب (15:4) و"مَعَ كَونِهِ ابْناً تَعَلَّمَ الطَّاعَة مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ" عب (8:5) وقال "لأنَّهُ لاقَ بِذَاكَ الذي مِنْ أَجلِهِ الكُلَّ وبِهِ الكُلَّ، وهو آتٍ بِأَبنَاءٍ كَثِيرِينَ إلَى المَجدِ أنْ يُكَمِّلَ رَئيسَ خَلاصِهِمْ بِالآلامِ" عب (10:2) ومن هنا يظهر أنَّ لابد من الآلام للحصول على الكمال. لأنَّ الكمال لا ينحصر فقط في الصفات والأعمال الفاضلة كالرحمة والقداسة والمحبة ولكنَّه يستلزم الاتضاع والطاعة والصبر والاحتمال. وهذه الفضائل لا تتعلمها إلاَّ من طريق التجارب، ولا نبلغ إلى سرّ الكمال إلاَّ من هذا الباب. وإذا كان الله تعالى استحسن أنْ يجعل الأحزان والأوجاع مُكمِّلة للمؤمنين فلماذا نرفض نحن البشر هذه الآلام وفيها كمالنا!! إنَّ مخلصنا تألم وهو رأس الجسد فلابد أنَّ كل عضو في جسده يتألم مثله ويشرب الكأس التي شرب منها سيده ومُعلِّمه. لذلك نرى أنَّ كل رجال الله القديسين تألموا وأصيبوا بضيقات شديدة وتمرَّسوا بنوائب عديدة ولم يتكلموا إلاَّ بعد دخولهم نيران التجارب, ولا يوجد شيء أخطر على النفس من نجاحها وعدم مُصادفتها شيئاً من التجارب, فإنَّ ذلك يُعرِّضها للسقوط في الكبرياء ونسيان الله. قال بعضهم: دخلت معملاً للزجاج فرأيت كميات عظيمة من الزجاج الذائب الملتهب على هيئات مختلفة. ورأيت الصانع ينشل قطعة الزجاج من آتون ثم يضعها في آتون آخر وهكذا. فقلت له لماذا تضعها في هذه النيران الشديدة؟ فأجاب: أنَّ النار الأولى لم تكن حامية كفاية وكذلك الثانية أيضاً فإذا وضعناها في الثالثة جعلتها زجاجاً مكرراً. فأخذت أفكر في نفسي وأقول إنَّ هذا الإنسان يضع الزجاج في آتون بعد آخر حتى يتكرر ويكمل، فيا إلهي ضعني في آتون بعد آخر وفي بوتقة بعد أخرى حتى تُصفَّى نفسي وأتطهَّر لأرى الله كما هو. فلا نعجب إذاً حين نرى آلام الناس الأتقياء، فقد عرفنا سرّ آلامهم. ولنقف بخوف وورع أمام هذه التأملات عالمين أنَّنا نشاهد ظل أحزان المسيح. وأنَّ أمثال هؤلاء إنَّما مدعوون إلى غاية فائقة ومفتقدون من الله بمحبة خاصة. وقد أُعِدَت لهم كنوز أفراح لا يُنطق بها، وتنتظرهم أكاليل مجد لا تزول ولا توصف. ينتج ممَّا تقدم أنَّ التجارب والآلام ليست هي القداسة ولكنَّها هي الواسطة إليها، وأنَّها قد تكون للخير أو للشر. فإنْ نظرنا إليها نظرة سماوية وخضعنا لها وقبلناها بالشكر والصبر والطاعة والمحبة واستفدنا منها كانت لنا أخيراً سبب فرح ورائحة حياة، وإلاَّ فهي رائحة موت. فلا ترفض أيها الحبيب تأديب القدير "لأنَّهُ هُو يَجرَحُ ويَعْصِبُ. يَسْحَقُ ويَدَاهُ تَشْفِيانِ" أي (18:5) "لا تَحْتَقِرْ تَأديبَ الرَّبِّ ولا تَكْرَه تَوْبيخَهُ. لأنَّ الذي يُحِبُّه الرَّبُّ يُؤَدِّبُه وكَأَبٍ بِابنٍ يُسَرُّ بِهِ" أم (12، 11:3) "إنْ كُنتُم تَحتَمِلُونَ التَأدِيبَ يُعامِلُكُم الله كَالبَنينَ. فَأىُّ ابْنٍ لا يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟" عب (7:12) فمَنْ يقبل التأديب بطاعة ووداعة ويذرف دموعه بالشكر والحمد فهو ابن مطيع. وأمَّا الذي يكره الامتحان ولا يتحمل التأديب فهو عاصٍ مُتمرد. إنَّ الذين يتذمرون في الشدائد والضيقات يذوبون في أحزانهم إذ ليس أمامهم صخر الدهور الأبدي يستندون عليه، وهم لا يريدون أنْ يلتجئوا إلى ملجأهم الأمين. أمَّا أنت فاعرف أنَّ لك أباً في السماء كثير الرحمة، عظيم التحنن، وافر الشفقة، يزن المقادير المناسبة لأحزانك، وينظر إلى دموعك وتنهداتك، ويلتفت إلى شكوى آنيتك. اطرح ذاتك عند قدميه بالصبر والوداعة. خاضعاً لإرادته المقدسة. باركه في شدائدك. فتستحيل أحزانك أخيراً إلى سيول تعزيّات لا تخطر لك على بال، لأنَّ الله سيمسح كل دمعة من عينيك ويُلبسك أخيراً أكليل المجد والبهاء. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
فيه نغلب ونخرج من التجارب منتصرين |
اعطنا نعمة الإحتمال والصبر في التجارب والآلام |
العلاقة بين لون الطماطم وفائدتها الصحية |
حوار مع ميت...الأعمال الصالحة وفائدتها |
نعمة التجارب وفائدتها |