الصور في المسيحي: هدفها، وهل نعاملها بإكرام أم نبعد الصور؟!
سؤال: كيف تعبدون الصور؟! هذه عبادة أوثان و أصنام! وكيف تعلمون ان هذه هي الصور الحقيقية لأصحابها؟!
الإجابة:
نحن لا نعبد الصور ولكننا نحبها ونعتز بها ونكرمها ونزين بها كنائسنا وبيوتنا وأماكن عملنا إذا أمكن..
ونحتفظ بها على مكاتبنا وفي محافظنا ونُقَبِّلها بحب وحرارة ونوقِد أمامها الشموع. ونقدم لها أيادي البخور،
ونتفنن في تجميلها بأفخر البراويز وأجملها وأثمنها. ونزينها بالورود والزهور والأغصان الخضراء.. ونطوف بها في داخل كنائسنا
عند احتفالنا بنياحة أصحابها أو استشهادهم أو تكريس كنائسهم. ونحن ننشد لهم المدائح
والتماجيد والترانيم
. ووجودها أمامنا ومعنا هو بمثابة حضورٍ لأصحابها وكأنهم يرافقوننا فنستأنس بهم ونسعد بصحبتهم.
سجود العبادة هو لله وحده، ويوجد فرق كبير بين العبادة والاحترام..
ويرجع تقديرنا وإكرامنا لهذه الصور إلى عدة أسباب:
أولًا: توجد علاقة صداقة قوية ومحبة روحية خالصة بيننا وبين أصحاب هذه الصور. فإن كان المسيح فهو فادينا ومخلصنا وراعينا. وإن كانت السيدة العذراء فهى أمنا كلنا ووسيلة خلاصنا وشفيعتنا الأولى. وإن كانوا رؤساء الملائكة فهم خدام العرش الإلهي ومدبرو شئون الكون تحت يده العالية والوسطاء الروحانيون بيننا وبين المسيح. وإن كانوا الشهداء فهم أصحاب الصفوف الأولى من المفديين في السماء والذين رووا شجرة إيماننا ولهم دالة خاصة لدى المسيح إذ هم حملة صليبه بالحقيقة الكاملة. وإن كانوا القديسين الأبرار فهم الذين تركوا العالم بكل ما فيه وتاهوا في البراري والمغاير وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح. وصاروا النموذج الكامل في تنفيذ الوصية "إن أردت أن تكون كاملًا اذهب بع كل مالك وتعال اتبعني". وإذ أكملوا طاعتهم لله صاروا موضع محبته لذلك صاروا واسطة لظهور عجائبه وآياته معنا.
إذًا هؤلاء جميعًا لهم دور هام في علاقتنا بالعالم الروحي الغير منظور وفي علاقتنا بالله. ومحبتهم لنا تفوق محبتنا نحن لهم. فكيف لا نحبهم ونتعلق بهم ونجعل صورهم دائمًا أمامنا وبين أيدينا. ونقدم لهم الإكرام اللائق بمقامهم الروحي والذي يناسب أعمال محبتهم معنا؟
ثانيًا: إن صور هؤلاء الأبرار الروحانيين كلما نظرنا إليها بحب وشوق وهيبة نقرأ فيها سيرهم ونتذكر جهادهم وفضائلهم فتذوب كل ميولنا الحسية في داخلنا، ويصغر العالم كله أمام عيوننا. وتلتهب عواطفنا بحب الفضيلة، وتثور فينا الحميَّة للسير على منوالهم لعلنا نبلغ مقامهم، وتتوقد فينا حرارة الروح. وكثيرًا ما تدمع عيوننا لشعورنا بالفارق العظيم بين طهارتهم وقداستهم وهالات النور السماوي التي تكلل هاماتهم، وبين دنس العالم وظلمة الخطية المحيطة بنا وارتباطات الجسد التي تنال الكثير من اهتماماتنا فتقودنا نظراتنا إليهم إلى شحذ هممنا لمواصلة الجهاد ومقاومة التراخي والتواني والنهوض من الفتور. فما أجمل ما تبعثه فينا صور الروحانيين من يقظة روحية وانتفاضة ضد الحياة الأرضية تطلعًا إلى عالم المجد والخلود.
ثالثًا: إن تكريمنا للصور ليس هو لمادتها من الخشب أو القماش أو الورق وإنما هو تكريم لأصحابها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.وليس هذا أمرًا غريبًا أو مستنكرًا. لأن الدول تكرم عظماءها وصانعي تاريخها بعمل صور لهم تعلقها على جدران المدارس والمتاجر والمصانع والمستشفيات والمؤسسات العامة وتزيِّن بها كتب التاريخ، وتقيم التماثيل لهم في الحدائق والميادين أو القاعات الكبيرة تخليدًا لذكراهم وإظهارهم كنموذج يُحتذى به في الاجتهاد في العمل والأمانة في مال الغير والإخلاص للوطن. بل لقد يحمل الناس صورة زعيم أو بطل يحيطونها بعلم الدولة وبلافتات التكريم والتبجيل ويطوفون بها في الشوارع بصيحات التهليل والتعظيم.
هكذا صور الروحانيين تستحق منا التكريم لأن أصحابها ضربوا أعظم الأمثلة في بطولة الدفاع عن الإيمان وبطولة قهر الجسد والموت عن العالم، وبطولة التقوى والفضيلة، وبطولة إظهار النور الإلهي للعالم بإعلائهم الحب على الحق والرحمة على العدل، ونصرة البر والخير على الإثم والشر، والغيرية على الأنانية. وأمام كل هذه البطولات هل لا يستحقون منا كل تكريم وتمجيد؟
رابعًا: إن الصور وسيلة حسية سهلة الإدراك وأكثر قربًا إلى فهم الإنسان وأكثر جذبًا لانتباهه، وأكثر انطباعًا في ذاكرته ومخيلته، وأقوى تأثيرًا في إحساساته ومشاعره، ولذلك فهي مصدر سهل وواضح للمعرفة ووسيلة صالحة للتعليم وخصوصًا للعامة الذين لا يعرفون القراءة وكذلك للأطفال بحيث لو رسمنا لهم أحداث الكتاب المقدس وأحداث التاريخ الكنسي وحياة القديسين في صور لأمكنهم استيعاب مضمونها جميعها بسهولة.
وصور القديسين والروحانيين عندما تكون مرتسمة أمام عيوننا تجعل معرفتنا بهم وبمآثر حياتهم ليس فقط بأسمائهم بحروف مكتوبة بل بأشكالهم أيضًا وبمناظر محسوسة لوقائع حياتهم. بحيث عندما نناجيهم أو نتشفع بهم أو نطلب معونتهم أو نحتفى بذكراهم فإننا نفعل كل هذا مع أشخاص بعينهم وليس لأسماء نبحث لها في خيالنا عن صور لشخصيات تتقمصها أو أحداث نجتهد في تصورها كيف تَمَّتْ. ولاشك أن شفاعتنا بأبرار نحن متلامسون معهم حسيًا يمنحنا حرارة ويزيد إيماننا بسرعة الاستجابة لِمَا نطلبه منهم حسب قول الإنجيل "كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه" (مت21: 22).
خامسًا: إن هذه الصور سجلٌ حسي منظور يُجَسِّد لنا تاريخ إيماننا بأشخاصه وأحداثه وعجائبه. وبذلك يعتبر رفيقًا حميمًا للكتاب المقدس ولكتب تاريخنا الكنسي التي هي سجل لفظي مكتوب لتاريخ إيماننا، بل ووسيلة إيضاح لمحتواها ومضمونها. ولكن في صورة أكثر تعبيرًا وإيضاحًا، ويكوِّن معها توثيقًا لتاريخ المسيحية.
فلا تاريخ بدون وثائق. لأن الوثائق هي التي تؤكد رواية التاريخ. والوثائق إما مخطوطات مكتوبة إما رسوم أو صور أو منحوتات أو آثار معمارية أو عملات نقدية... الخ. وكلما تعددت الوثائق كلما تأكد صدق التاريخ.
لذلك فالديانات التي ليس لها توثيق مصوَّر لتاريخها تجتهد أن تخلق لذاتها هذا التوثيق بالتخيل والتصور لدى فنانيها ورسَّاميها. لأنها أدركت قيمة الصورة كوثيقة تاريخية ووسيلة تعليمية. أما بالنسبة للمسيحية فهي أغنى ديانات العالم في وثائقها المصورة والمرسومة.
اعتراض: كيف تعلمون أن هذه هي الصور الحقيقية لأصحابها.
الرد: إن الذين رسموا وصوروا كانوا معاصرين لأصحاب هذه الصور أو لاحقين بعدهم بزمن يسير. واستلهموا صورهم من الأوصاف الدقيقة لأشكالهم والمسجلة عنهم بأمانة من الذين كانوا معاصرين وملازمين لهم. ويؤكد هذا أسماء كثير من القديسين مثل القديس يوحنا القصير والقديس موسى الأسود والقديس يعقوب المقطع والقديس ديديموس الضرير والقديس سمعان العمودي والقديس ابن المقفع وغيرهم.
أما عن حقيقة صورة السيد المسيح فقد قال ابن العبري في كتابه (مختصر الدول) "إن أبجر ملك الرها أرسل رسولًا اسمه فيجا إلى المسيح يدعوه إلى مدينته فأرسل إليه المسيح صورته مرسومة على منديل. وعندما غزا الروم تلك البلاد طلبوا هذا المنديل مقابل إطلاق الأسرى وأخذوه". وأيضًا صورة وجه المسيح الذي كان ملطخًا بالدماء موضع إكليل الشوك ومضمخًا بالحنوط مطبوعة على الكفن المقدس، وصورة وجه المسيح التي انطبعت على المنديل الذي قدمته القديسة فيرونيكا ومسح المسيح به وجهه أثناء سيره نحو الجلجثة حاملًا الصليب، وأيضا صورة السيد المسيح محمولًا على يد العذراء المرسومة بواسطة القديس لوقا الإنجيلي الطبيب.
كذلك اليهود الذين تنصروا في القرون الأولى اصطنعوا وسامًا عثر عليه شخص اسمه داجار في سوق برومية لبيع الأثريات، على أحد وجهيه صورة المسيح (الرأس فقط) وعلى الآخر رموزه، وكانوا يتعارفون به على بعضهم البعض. وأبحاث كثيرة أثبتت أن صورة المسيح رسمها المسيحيون منذ القرن الأول للميلاد. ويشهد أوسابيوس أسقف قيصرية فلسطين وأحد مؤرخي الكنيسة أن في عصره كانت توجد صورة للمسيح منقولة عن التقاليد القديمة. وفي الآثار توجد قطع زجاجية وسُرُج عليها صورة المسيح يُعلِّم من فوق الجبل وصورة المسيح يرعى خرافًا. وفي حفريات في رومية عثروا على دهاليز وأقبية ظهرت على جدرانها صور بالألوان للسيد المسيح ورسله القديسين وصورتان كبيرتان للقديسيْن بطرس وبولس.
وإن كانت الحضارات القديمة مصرية أو أشورية أو بابلية أو غيرها قد برعت في فن الرسم والنحت والتصوير الجداري على حوائط معابدهم ومقابرهم وهى سابقة على المسيح بآلاف السنين، فليس كثيرًا على مسيحيي الأجيال الأولى أن يرسموا صورًا للمسيح والعذراء مريم والآباء الرسل والأجيال التالية للقديسين والشهداء والأبرار الصالحين.