إلى أين تنظر
تتحدّث في الكثير من الأحيان عن يأسك وحزنك من إمكانيّة التغيُّر لأنك دائمًا تنظر إلى ثوبك فقط ذاك الذي لا يبقى نظيفًا، فهناك عدو واقف على الدوام يلقي بالأقذار عليه حتى لا تصدّق أن طهارة الثوب ممكنة.
دعني أهمس في أذنك أنّ الإشكاليّة الأساسيّة ليست في الثوب ولكن في وجهة النظر. إن كنت ناظرًا إلى ثوبك فقط ستصاب بالإحباط على الدوام، ولكن إن نظرت لإمكانيات المسيح المسخّرة لك للانتصار، وإن نظرت إلى الملائكة والقديسين المتأهبون لعونك وسندك، وإن نظرت للعابرين إلى حضن يسوع المتّسع، من كلّ الأمم والقبائل واللّغات، بل ومن مدن الخطيئة والمجون والعصيان، وقتها ستدرك أنّ النصرة أقرب إليك ممّا تتصوّر، وستتشجّع في الحرب وتسير على الدرب غير عابئ بما يلقيه العدو لأنك تعاين التطهُّر أثناء المسيرة نفسها.
دورك أن تسير ولا تتوقّف قط مهما كان الثوب ملطّخ بالأخطاء والخطايا، فالسير يعني أنك لست قانعًا بتلك الحالة وأن وجهتك هي وجه المسيح المشرق بالحبّ والغفران والذي يمد يده لك ليمسح ثوبك في حنوٍ أبوي لا يمل ولا ييأس ولا يستنكف من هول القذارة على ثياب عرسك.
إنه يهبك كل يوم حياة لتُجدِّد مسيرتك إليه وبه وفيه، وهو يُجدِّد معك عهد الحب والمعونة والتطهير من كلّ ما يلصق بك أثناء المسير.
ألا تسمع النداء الذي يصدح في القداس الإلهي عن جسد/دم الربّ يسوع: “يعطى لمغفرة الخطايا”. إنّ جسد الربّ ودمه مقدّمان على المذبح لك أنت، لمحو خطيئتك أنت مهما كانت، ومن ثمّ الثبات فيه، فقط إن رأى منك اقترابًا بشوق الحنين إلى بيت الآب. لا تتجاوز هذا النداء وادخل لتنال الحياة والثبات لتخرج وتشهد لذاك الذي يجدِّد معك العهد كلّ يوم بل وكلّ لحظة في الحياة.
كان القديس أنطونيوس يتساءل على الدوام: ماذا يمكن أن أقدم لله عوض كل إحساناته؟؟ وكانت تقدمته هي الحبّ في صورة صوم من أجل انطلاق الروح، أو صلاة من أجل لقاء الروح، أو ركوع من أجل السجود بالروح. كان يقدّم حبًّا عاملاً لا حبًّا كلاميًّا ونظريًّا. كلمات القديس بولس كانت ترن في أذنه التي قال فيها: « فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله عبادتكم العقليّة » (رو12: 1) فلا أقل من ذبيحة تقدّم على مذبح الحبّ كل يوم وإن كانت لا ترقى للذبيحة التي قدمت من أجلك لكيما تنال فيه بر الله. نعم قدّم المسيح ذبيحة تكفيك على الدوام ولكنها تنتظر القبول الفاعل، عليك أن تُقدّم تعبير قبولك وحبّك. إن قدّمت الفتات أهنت ذبيحته الكاملة، وإن قدّمت الكلّ كان هذا إعلانًا أنك تؤمن بفدائه وبأن الحياة معه أسمى من كلّ حياة. تقدمة جسدك (كما ورد في الآية السابقة) تعني كلّ ما فيك؛ قلبك وفكرك ومشاعرك وأفكارك وآمالك وطموحاتك وحاضرك ومستقبلك وإمكانياتك ومواهبك وكلماتك وعلاقتك.. كلّ شيء تضعه في يديه، بهذا يمكن للذبيحة أن تصير مقدّسة لأنّ الروح القدس وقتها سيأتي كنارٍ ويصعد ذبيحتك، المستندة على ذبيحة المسيح، رائحة سرور ورضَى ومسرّة أمام الآب. حينئذٍ يمكنك أن تُقدّم له العبادة العاقلة وتخدمه بالروح طوال أيام حياتك، لأنّ فيه صارت لك الحياة، ولسانك يتهلّل: لي الحياة هي المسيح.. لي الحياة هي المسيح.. ما أجملها حياة لأنّها دائمة إلى الأبد.
أنت هو الحياة
وإن طلبت حياة من عالمٍ لا يعطي حياة
تهت بعيدًا عن النبع الوحيد القادر أن يروي ظمأى من مياه الحياة
ويشبع جوعي من خبز الحياة..