رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
هيرودس والاضطهاد السياسي في ذلك الوقت ظهر على المسرح شاول الطرسوسي كأحد اليهود الغيورين الذين أخذوا على عاتقهم مهمّة إبادة المسيحيّة وترويع المسيحيين. وقد حدثت في تلك الفترة نهضة كرازيّة للأمم كما هيّأت السماء إناءً لإعلان الكلمة للأمم، ولكن قبل الخوض في تفاصيل تلك القفزة من على أسوار أورشليم واليهوديّة إلى رواق الأمم (موضوع مقالنا القادم)، لابدّ لنا من ذكر حدث في غاية الأهميّة ألا وهو محاولات هيرودس أغريبا الأوّل إيقاف النمو في الجسد المسيحي، إذ نقرأ في سفر الأعمال (12: 1): «وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ مَدَّ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ يَدَيْهِ لِيُسِيْء إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْكَنِيسَةِ، فَقَتَلَ يَعْقُوبَ أَخَا يُوحَنَّا بِالسَّيْفِ». إنّ هيرودس الذي ذكره القديس لوقا في هذا النصّ هو هيرودس أغريبا الأوّل (10 ق.م. - 44 م) ابن أرسطوبولس Aristobulus وبِرينيس Berenice وحفيد هيرودس الكبير. نال تعليمه في روما، وقد هرب منها في شبابه إلى فلسطين نتيجة تراكم الديون عليه هناك بعد أن عاش هناك حياة انحلال كاملة. سُجن في عهد طيباريوس قيصر نتيجة بعض تصريحاته المسيئة التي تمنّى فيها تولّي كاليجولا بدلاً من طيباريوس، وقد أُفرج عنه بعد موت طيباريوس قيصر بل وتم تعيينه حاكمًا على شمال فلسطين في عهد الإمبراطور كاليجولا وكذلك حظى بلقب “ملك”. وقد أُضيفت إليه اليهوديّة والسامرة عام 41 م. كنتيجة لدعمه لتولّي كلاوديوس قيصر سدّة الإمبراطوريّة بعد موت كاليجولا. ونتيجة علاقته المتقلّبة بروما كان يحاول تقوية علاقاته باليهود على حساب الجماعة المسيحيّة الجديدة.(1) كان هيرودس أغريبا الأوّل مناورًا سياسيًّا حاذقًا استطاع أن يدرس النفسيّة اليهوديّة جيّدًا ووجد أن المدخل الملوكي إلى قلوب شعبه هو الدين. كان يعلن على الملأ أنّه يستمتع بالإقامة في أورشليم، وكان يراعي الناموس والتقاليد اليهوديّة وكان يُقدّم ذبائح في الهيكل يوميًّا، بل إنه قرأ فقرة من الناموس في عيد المظال كتكريم من قادة اليهود لخدماته الدينيّة، وهكذا ملك زمام الأمور فرسّخ دعائم حكمه.(2) كما ذكرت المشناه، أثناء القيام بالدورة السنويّة لحمل البكور إلى الهيكل، أنّه “حينما وصلوا إلى جبل الهيكل حمل الملك أغريبا [هيرودس] سلّته على كتفيه ودخل بها إلى باحة الهيكل”.(3) ويعلّق ماسون Mason على التقرُّب المُغرض من الديانة اليهوديّة والذي كان يحرص عليه هيرودس، فيقول: “إنّه استراتيجيّة حكم، وطريقة للحفاظ على دعم الجموع، أكثر من كونه التزامًا قلبيًّا تجاه التقليد اليهودي”(4). ما الذي يرسّي دعائم الحاكم في مجتمع أصولي أكثر من قتل واضطهاد وتعقُّب من تراهم الجموع أنّهم أعداء الدين!! هنا ويبقى الحاكم هو حامي حمى الدين وبالتالي يحصد المغانم السياسيّة على طبق من ذهب ودون عناء. على الجانب الآخر يرى بعض المفسّرين أنّ تلك الهجمة الشرسة من هيرودس على المسيحيين كانت بسبب المجاعة الحادثة آنذاك؛ «وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسُ، وَأَشَارَ بِالرُّوحِ أَنَّ جُوعًا عَظِيمًا كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْكُونَةِ، الَّذِي صَارَ أَيْضًا فِي أَيَّامِ كُلُودِيُوسَ قَيْصَرَ». وكأنّ المجاعة هي غضب إلهي بسبب الدعوة المسيحيّة، كما حاول أن يصوّر بعض المناهضين للدعوة المسيحيّة من قادة اليهود. ولأنّ هيرودس أغريبا كان يهوديًّا غيورًا كما أورد يوسيفوس. يمكن أن يكون لهذا الرأي موقعه ولكن بجانب دعم موقفه السياسي كما أسلفنا.(5) لقد كان موت إستفانوس كما تحدّثنا في المقال السابق بأيدي الغوغاء من اليهود الذين تمّ تحريضهم في المجمع، إلاّ إننا ههنا أمام أمْرٍ جديد، فالعقوبة هنا صادرة عن الملك هيرودس، وهو يعني أنّ الصدام مع المسيحيّة أصبح علنًا وبمباركة الملك وإرادته وهو الذي يمثّل قيصر في تلك البلاد. يكتب القديس يوحنّا الذهبي الفم عن تلك الحادثة فيقول: “يا له من شكل جديد للتجارب. لاحظوا ما قلته منذ البداية، كيف اختلطت الأشياء معًا، كيف تناوبت الراحة مع الضيقة في النسيج الكلّي للتاريخ. ليس فقط اليهود، ولا السنهدرين، ولكن الملك. إنّ القوّة تشتد والحرب تستعر، كلّما حاولت استرضاء اليهود”.(6) بدأ هيرودس حملته المحمومة ضدّ المسيحيّة بقتل القديس يعقوب. لم يسترسل القديس لوقا في ذكر حادثة استشهاد القديس يعقوب إلاّ أنّ يوسابيوس القيصري يروي لنا عن ملابسات استشهاده، نقلاً عن أحد الأعمال المفقودة لكليمندس السكندري وهو “وصف المناظر” Ὑποτυπώσεις إذ يقول إنّ كليمندس تسلّم هذا التقليد من سابقيه، ومفاده أنّ من كان منوطًا به قيادة يعقوب إلى مكان الحُكم، حينما رأى يعقوب حاملاً شهادته، تحرّك قلبه، واعترف أنه أيضًا مسيحي، فاقتيدا معًا. وفي الطريق، توسَّل إلى يعقوب لكي يسامحه، وبعد برهة من التفكير، أجابه: “سلامٌ لك” وقبّله، وقد استشهدا معًا.(7) ويروي لايتفوت Lightfoot قصّة أخرى نقلاً عن Rabanus Maurus وهي أنّ القديس يعقوب في ذلك الوقت قد أتمّ صياغة قانون إيمان الرسل والتي تنتهي كلّ فقرة منها بعبارة “وفي يسوع المسيح، ابنه الوحيد، ربّنا” وقد كان هذا سببًا كافيًا لقتله.(8) كان القديس يعقوب أوّل من استشهد من الُرسُل وهو الوحيد منهم الذي دوّن العهد الجديد شهادته. كان من الثلاثة المُقرّبين من المسيح، الذين عاينوا مجده على جبل التجلّي (انظر مت17: 1) والذين كانوا بجواره إبّان إقامة ابنة يايرس (انظر مر5: 37)، حتّى إنه كان أحد الذين رافقوه في ليلة الجسثيمانيّة (انظر مت26: 37). يكتب القديس جيروم: “إنّ كنيسة المسيح تأسسّت بسفك دمائها، لا [دماء] الآخرين. باحتمال الاعتداءات لا بافتعالها. وبينما كانت الكنيسة تنمو بالاضطهاد، كانت تُتوّج بالاستشهاد”.(9) وبنفس المنطق الإسخاطولوجي يقول القديس يوحنّا الذهبي الفم: “حياة المسيحي يجب أن تكون مُخضّبة بالدماء، بالطبع ليس أن يريق دماء الآخرين، بل أن يكون مستعدًّا أن يراق دمه هو. إذًا لنُرِقْ دماءنا، عندما يكون هذا لأجل المسيح”.(10) هكذا صارت دماء يعقوب حجرًا لبناء صرح الكنيسة الأبدي وتاجًا على هامتها أبد الدهور. لقد استشهد القديس يعقوب بالسيف في إشارة إلى أنّ جريمته كانت قيادة الجموع لعبادة آلهة غريبة، وهو ما نقرأه في نصّ التثنية؛ «إِنْ سَمِعْتَ عَنْ إِحْدَى مُدُنِكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَسْكُنَ فِيهَا قَوْلاً: قَدْ خَرَجَ أُنَاسٌ بَنُو لئِيمٍ مِنْ وَسَطِكَ وَطَوَّحُوا سُكَّانَ مَدِينَتِهِمْ قَائِلِينَ: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لمْ تَعْرِفُوهَا. وَفَحَصْتَ وَفَتَّشْتَ وَسَأَلتَ جَيِّداً وَإِذَا الأَمْرُ صَحِيحٌ وَأَكِيدٌ قَدْ عُمِل ذَلِكَ الرِّجْسُ فِي وَسَطِكَ. فَضَرْباً تَضْرِبُ سُكَّانَ تِلكَ المَدِينَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ وَتُحَرِّمُهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مَعَ بَهَائِمِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ» (تث13: 12-15). _____ الحواشي والمراجع :(1) MacArthur, John Jr. The MacArthur Study Bible. Nashville: Word Pub., 1997, c1997, Acts 12:1. (2) Kistemaker, Simon J. and William Hendriksen. New Testament Commentary: Exposition of the Acts of the Apostles. New Testament Commentary. Grand Rapids: Baker Book House, 1953-2001, p.432. (3) Herbert Danby, trans., The Mishnah, M Bikkurim 3:4 (London: Oxford University Press, 1933), p. 97. Cited by; Hughes, R. Kent. Acts: The Church A fire. Preaching the Word. Wheaton, Ill.: Crossway Books, 1996, p.164. (4) Mason, Steve. Josephus and the New Testament. Peabody, Mass.: Hendrickson Publishers, 1992, ch 4. (5) Mills, M.S. The Acts of the Apostles. Dallas: 3E Ministries, 1997, c1987, Acts 12:3 (6) The Nicene and Post-Nicene Fathers, edit. by: Schaff, Philip,, First Series Vol. XI. (Oak Harbor: 1997), Homilies on the Acts, xxvi, p. 168 (7) The Nicene and Post-Nicene Fathers, op.cit., Eccl. Hist., ii. 9, p. 110 (8) Lightfoot ‘Works,’ vol. viii. p. 282, cited by; The Pulpit Commentary: Acts of the Apostles Vol. I. Ed. H. D. M. Spence-Jones. Bellingham, p.378 (9) Water, Mark. The New Encyclopedia of Christian Quotations. Alresford, Hampshire: John Hunt Publishers Ltd, 2000, p.724 (10) تفسير رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين، القديس يوحنا الذهبي الفم، ترجمة: د. سعيد حكيم يعقوب (المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة: 2010)، ص107. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|