رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
لماذا الآباء إنّ الباحث في نصوص الآباء وخاصّة في لُغاتها الأصليّة أو حتّى في اللُّغات الغربيّة التي تُرجِمَت إليها، فضلاً عن الاطّلاع على الأبحاث والدراسات الخاصّة بالشأن الآبائي، يُدْرِك أوّل ما يُدْرِك أنّ ما وصل إلى أيدينا من نصوص أقل بكثير ممّا فُقِد، لذا أصبح لزامًا علينا أن نرتشف ممّا عندنا علّنا نصل لصورة أكثر وضوحًا لحياة أولئك الذين جاهروا بالحقِّ وأصبحوا أنشودته وسط عالمٍ طالته شظايا الفساد وشوّهت معالمه، فأصبح عالمًا لا يُعبِّر عن خالقه. حينما نغوص في بحار الفكر الآبائي فإننا نجد أنفسنا أمام لآلئ لامعة غنيّة، ولكن هل من لؤلؤ لم يكن وليد دموعٍ وأنَّات؟ فاللؤلؤة هي نتاج تلك المادة العازلة التي يفرزها حيوان اللؤلؤ حول حبّة الرمل التي تنخسه فتؤلمه، فيغطّيها بتلك المادّة البيضاء، التي تلتف حول حبّة الرمل، وتصير لؤلؤة. فحبّات اللؤلؤ، كما يقول أحد الكُتَّاب، “ليست إلاّ دموعًا لحيوانٍ عاش هادئًا مُعلَّقًا في المحيط.. إنّه فنانٌ انطوى، انزوى، وبكَى فنًّا.. فحبّات اللؤلؤ دموعٌ لامعةٌ”. إنّ العالم الآن، كما كان قديمًا، هو مخزنٌ للآلام التي لا تنضب، لا يَتِح لنا لحظات ننعم فيها بالراحة؛ فالآلام تقف مُترصِّدة مَنْ يسير نحو الله، لتصير إكليلهم المتوِّج هامتهم أمام عرش النعمة، تلك كانت قناعة الآباء.
لم يلمع الآباء، كما يلمع عظماء العالم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- لأنّهم داعبوا مشاعر الجموع بكلماتٍ رنّانة سطحيّة مُجوّفة المعنَى وفارغة المضمون، ولكنّهم لمعوا تحت ضياء النعمة التي عكست مجد الخلاص على وجوههم المُنهَكة بالألمِ والمكابدةِ. لقد فرّ الآباء من الجموع ومديحهم فرارهم من الهاويّة، أحبّوا الصحاري لأنّها شهدت صِدق الاختبار والعلاقة الخفيّة مع الثالوث. لم تصنعهم الجماهير، بل صنعتهم النعمة التي رافقتهم طالما كانوا مُجاهرين بالحقِّ قابلين في أجسادهم إماتة الربّ يسوع. لم تكن حياة الآباء سهلة، فلقد عانوا من مختلف الجهات صعوبات جمّة، إذ قد استشهد منهم الكثير، ونُفي آخرون، واضُطهِد كثيرون. فهناك دائمًا هيروديا ترقص ومطلبها دائمًا صوت الحقّ؛ رأس يوحنّا. فها هو القديس يوحنّا الذهبي الفم يُنفَى مرّتين بمرسومٍ إمبراطوريٍّ، ليتنيّح في منطقة نائية بقرب شواطئ البحر الأسود. كذلك القديس أثناسيوس نُفي خمس مرّات، جاب فيها نصف بلدان أوروبا، واختبأ في مغائر صحراء نتريا. كما لاقَى بوليكاربوس وإغناطيوس ويوستين، المسيح، مُخضَّبين بدماء الحبّ.. فمع المسيح كان الآباء مصلوبين.
لم يعبأ الآباء بسلطة الأباطرة، طالما أنّهم على جانب الحقّ الإلهي. لقد بزغ نورهم من بين حطام إنساني، ليعلنوا لنا بآثارهم طريق التتويج في المسيح. هل كانت الحروب والصراعات التي طالت آباءنا، والتي نقل لنا التاريخ قبسًا منها في مجلّداته، بسبب عملهم الدَّؤُوب وسعيهم الحثيث في نشر تعليم الإنجيل كما تسلَّموه وعايشوه؟ يبدو ذلك؛ فالآلام تتزايد على مَنْ يَفْتَضِح الظلمة، والأسهم تُصوَّب على مَنْ يُجاهِرون بالحقِّ؛ أي يجاهرون بالمسيح.
لقد كتب فيليب شاف Phillip Schaff في مؤلّفه “تاريخ الكنيسة”، في جزئه الثالث، عن القديس أثناسيوس، قائلاً: “كان أثناسيوس بمفرده في وقتٍ من الأوقات، وهو محرومٌ من مجمع أساقفة بقرارٍ أمبراطوري. كان وحده الحامل للحقِّ”. فالآباء كانوا رُسُلاً بحقٍّ، يحملون سفارة المسيح على أكتافهم، لا يرهبون موتًا، ولا يخشون ثورات التجارب، إذ لم تستوقِف التجارب أبصارهم التي كانت تُحلِّق في آفاق الحبِّ الإلهي. مَنْ يتذوَّق الحبَّ الإلهي لا يُعاني غصّة الموت الثاني؛ فهو لا يرى الموت إلى الأبد، حسبما وَعَد المسيح.
لذا كلما كان العالم يترصَّد الآباء بالضيقة كلّما جاهروا بحقِّ الإنجيل، وانطلقوا يكرزون بشجاعة مَنْ هم موتَى عن الحياة، ومصلوبين عن أمجاد العالم وأنيابه. لم يبحث الآباء عن راحةٍ وأمانٍ وسلطةٍ يرفلون فيها. أحبّوا سلاسل الأسر، وألفوا السجون الرطبة، ابتسموا وهم متّهمون في إيمانهم الصحيح؛ فالعار عندهم كان الصمت عن الحقِّ والتوقُّف عن الكرازة.
كانت المحبَّة الإلهيّة مُحرِّكهم الأوَّل ودافعهم الأعظم، وخبرتهم الأصدق، ومعاينتهم الأكمل. لم تكن محبّتهم لله فكرًا يسبحون فيه ويدعون الآخرين ليشاركونهم أوهامه، بل كانت محبّة نابعة من الصليب، محروسة بالمخافة الإلهيّة، لذا كانوا أحرارًا من المجد العالمي البارق في عيون الجموع، مكتفين بالإيمان والتقوى ككنز رحلتهم الدهريّة نحو ملكوت الله.
إنّ حديثنا عن الآباء ليس سردًا لوقائع التاريخ، ولكن تتبُّعه ومشاهدته وهو يتكوَّن على أيدي أولئك الذين قادوا قاطرته حيثما أرادوا، وما إرادتهم إلاّ فكر المسيح. لم يكن آباؤنا ممّن كانت تقودهم الحوادث والخطوب إلى قدرٍ محتوم، يستسلمون لها في شكوى العاجز!! ولكنّهم كانوا مشعلاً يقود ظلمة التاريخ حينما تعلو سماءه غيمةٌ من الضيقة. واجَهوا.. جُرِحوا.. ولكنّهم أبدًا لم يجهضوا كلمات الحقِّ قبل أن تولِّد ثورة إلهيّة على عالم الفساد. كانوا عُرضة للكثير من المؤامرات والدسائس، للإطاحة بهم بعيدًا عن قيادة الكنيسة، كما حدث مع القديس أثناسيوس الذي لاقَى الأمريْن ممّن عادوه. من تلك المؤامرات تلك التي رصدها لنا ثيودوريت المؤرِّخ عن مجمع صور (335م) إذ كتب: “في الصباح الباكر حضر أثناسيوس إلى المجمع، وفي هذا اليوم كانت أوّل قضيّة قُدِّمَت: قضية امرأة فاسدة بدأت بوقاحةٍ وتهوُّرٍ وصوتٍ عالٍ تقول إنّها كانت قد نذرت بتوليتها ولكن أثناسيوس جاء إلى منزلها وأفسد عفّتها.. فلما طلبت المحكمة من أثناسيوس أن يرد على الإتّهام، صمت أثناسيوس.” وكان تلميذه تيموثاوس هو مَنْ كشف الخديعة إذ ادّعى أنّه أثناسيوس فما كان منها إلاّ أن كالت له الاتّهامات، فانكشف أمرها. كذلك القديس جيروم الذي كان مُرشّحًا لرئاسة روما خلف البابا داماسيوس (384م) إلاّ أن مناوئوه لفّقوا له تهمةً بدسّ ملابس امرأة في مسكنه، الأمر الذي حدا به إلى مغادرة روما، نافضًا غبار حذائه كوصيّة الربّ. كما كانت كتاباته ضدّ البيلاجيين السبب في حنقهم عليه، فهجموا على مسكنه وأحرقوه بالنّار.. ولسان حاله يردِّد مع الشاعر هوراس: يُنقَضُ الكونُ وأبقَى ثابتًا تحت ركامه في كلّ هذا، لم يخشَى الآباء من مخالب الذئاب بينما كانوا يقودون قطيع المسيح إلى الحظائر السمائيّة، بل كانت مخالب مقاوميهم علامات من نورٍ حُفِرَت على أبدانهم ونفوسهم، شهادةً لتغرُّبهم عن منطق المادة واللّذة وسلطة الزمان الحاضر. وبينما كانت الجموع نائمة كانوا هم يقظون يحرسون حراسات الليل على قطيع الربِّ. فالإكليل لا يحتضن رؤوسًا لم تُفلَّح ببذار اليقظة والسهر.
إن الآباء ليسوا كُهَّان في معابد خيالنا نحرص على تجميلهم وطاعتهم لأنَّهم هويّتنا وجذورنا، ولكنّهم معاول لهدم أوثان العالم التي شكَّلتها يدُ الشيطان في فترات خلو معابد أذهاننا من أيقونة الله الثالوث. هم آلات الروح ولسانه الناطق في هياكلنا بكلمة الله التي تفتضح زيف البشر الذين تجمَّلوا في أروقة العالم بأدوات العالم، ليخفوا قبحهم المتنامي باغترابهم عن ذواتهم وتغرُّبهم عن أصلهم الإلهي النقي. كلّ هيكل جدرانه مزيّنة بنقوش العالم أو بنقوش الله؛ وما نقش العالم إلاّ غرقاه، بينما نقش الله هم بشرٌ وجدوا الميناء ورَسَتْ أزمانهم على ضفاف الملكوت. لم تكن الرعاية منفصلة عن اللاّهوت في كتابات الآباء الأُوَّل، إذ هي الوجه العملي لفهم اللاّهوت ومعايشته. لذا كانت كتاباتهم تحمل حسًّا رعائيًّا بشكلٍ أو بآخر. فمثلاً نجد أنّ الرعاية عند القديس غريغوريوس اللاّهوتي هي: “الاهتمام بالإنسان الداخلي الخفي”. إنّ آباءنا كانوا رعاة بما تحمله الكلمة من حبّ وخوف وإشفاق ومسؤوليّة تجاه الرعيّة. بحس الرعاية كتبوا، وبحس الرعاية جابهوا الهرطقات وتكرَّسوا لمواجهتها. لم تكن مؤلفاتهم “علميّة” بالمفهوم المعاصر للكلمة؛ فليس هناك ما يُسمَّى بمعلومة دينيّة مُجرّدة، وليس هناك ما يُسمَّى بلاهوت نظري، عند الآباء. كلُّ معرفة ترتبط بخيط سري بسؤال؛ كيف سأستفيد من تلك المعرفة في علاقتي بالله الثالوث؟ وكيف ستستفيد الكنيسة من تلك المعرفة في شرح وتوضيح الإيمان؟ هذا ما كان يبحثه الآباء. لذا كان آباؤنا جُزُرًا تُصدِّر نغمات الحقِّ العذبة فتأسر السفن التائهة وتجتذبها إلى بحار معرفة الله. هم خطًّا استوائيًّا نقف على حدوده لنتحسَّس موقعنا من خارطة المعرفة الإلهيّة. إنهم تلك المياه الرائقة الساكنة التي تنظر إليها فتتعرَّف على ذاتك، ترى قبحًا أو جمالاً.. لا يخدعونك.. لا يزيِّفون حقيقتك، فهم قطراتٌ تآلفت بفعل الروح وتجمَّعت في نهر الحبِّ الإلهي ليعبُر عليهم مرتحلو الحياة، بحثًا عن مصداقيّة ما بعد الحواس، وإذ بمَنْ يعبرون ويتكشّفون سِرّ الروح، يندفعون نحو المياه، ليصيروا هم أنفسهم قطرةً في نهر الحبِّ الذي ينبع من الله وينتهي في الله. لم يكن الآباء ممّن وُلِدوا على أسرَّة من نورٍ، لم يعاينوا عليها قُبح الخطيئة ولا هول التعدِّي ولا وخزات الحياة المُحتجَبة تحت سُحُب الظلمة؛ ومنهم مَنْ كانت له خبرات في الشرور يندَى لها الجبين. إلاّ أن نور الحبّ الإلهي حينما يُشرِق على قلبٍ لا يمكنه إلاّ أن يُؤخَذ بذاك الضياء الناعم الهادئ الذي يشير إلى حياةٍ أُخرى في بلدان النور.
تألّم بعضهم حينما واجهته النعمة بخطايا صباه بل وأخطاء طفولته أيضًا، وهل من أخطاء للأطفال؟! إنّه فساد الطبيعة الذي يظهر دون وعي أو إرادة ولكنّه يشهد على الخطيئة التي جازت من آدم إلى الجميع، ففي آدم أخطأ الجميع..
يرى البعض، الآباء، وكأنّهم أنصاف آلهة!! لم يُخطئوا، وكأنّهم وُلِدوا من رحمٍ آخر لا يعرف مَخاض الخطيئة التي تحاصر مَنْ يُؤتَى بهم إلى الوجود!! وهم بهذا يحرموننا من أن نرى فيهم إنسانيّة كالتي لنا، فتصبح القداسة لنا بالتالي، طموحًا أكبر من قدراتنا التي تمسّها أنامل الخطيئة بين الحين والآخر. ولكن، هل كان الآباء كذلك؟ لا أظن، فهم بشرٌ جاهدوا وانتصروا. ها هو القديس غريغوريوس اللاّهوتي يشرح عمّا كان يعتلجُ في نفسه من أفكارٍ زهاء المقابلة الباهتة الباردة التي لاقاه بها هلاَّذيوس، أفكار تتأرجح بين الثورة للذات وإماتة الذات، فيقول:
وانتصرت الإماتة على الثورة والغضب. هنا نرى الصراع بين ما هو إنساني وما هو إلهي في داخله، وهو الصراع الذي نحيا على وقع نغماته كلّ يومٍ، ولكن يتفوَّق الآباء دائمًا في إنهاء الصراع بالخضوع لمشورة الروح. لذا فالآباء كانوا مجاهدين من طراز رفيع، لا يرضوا لأنفسهم بحياةٍ دون الأبديّة ولا بمرشدٍ سوى الروح الإلهي.
لقد كتب ترتليان كتابًا أسماه “في الصبر”، وقال في استهلاليّة الكتاب:
جاء آباؤنا من مختلف البقاع والثقافات وكأنّ الروح استقطبهم كما يستقطب النور فراشات المساء؛ منهم مَنْ جاء من عائلة وثنيّة لم تُولَد في الإيمان ككليمندس السكندري والذي أصبح فيما بعد “رائد الثقافة المسيحيّة” كما أطلق عليه كواستن Quasten، وآخرون جاؤوا من عائلات النبلاء ككبريانوس، وآخرون ولدوا في عائلات أرستوقراطيّة ونالوا قسطًا وافرًا من العِلْم مثل باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي، ومنهم مَنْ كان يرزح تحت ضغط الفقر مثل أوريجانوس الذي كان عليه أن يعيل عائلته (كان الأكبر بين سبعة أشقاء) بعد استشهاد والده، ومنهم مَنْ درس الحقوق وتمرَّس على القانون مثل ترتليان، ومنهم مَنْ برع في الفلسفة كبنتينوس السكندري.. آباؤنا كانوا يستوطنون الغربة منذ أن انطلقوا على آثار المُخلِّص، بعد أن حررَّتهم الكلمة الإلهيّة واغتسلوا في المعموديّة، صاروا متجوّلين على دروب الربِّ. تركوا الأهل والأقارب والأصدقاء والأوطان والطرقات التي شهدت طفولتهم وصباهم.. تركوا كلَّ شيءٍ دون أن يربطهم خيطٌ بالماضي؛ فالكلمة أخذتهم لمناطقٍ غير مأهولة، قضوا حيواتهم يلهثون وراء النعمة، يرتشفون منها فيسكرون حُبًّا، فيدفعهم ظمأ النهم الروحي لطلب المزيد، فيجوبون أميال الصراع والجهاد في قفار الحيرة والمثابرة والسهر، حتّى تملأ النعمة أوانيهم مُجدَّدًا. والنعمة لا تترك إناءً فارغًا دون أن تملأه. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|