كانت الفترة التي كرز فيها السيد المسيح والتي تبدأ من معموديته من يوحنا المعمدان إلى صعوده إلى السماء والتي تزيد عن ثلاث سنوات فترة غنية جدًا وثرية بالتعاليم والوصايا والأعمال التي عملها والأحداث التي حدثت فيها. وكانت هذه التعاليم والأعمال والأحداث أكبر وأعظم من أن يكرز بكل ما قيل وحدث فيها جميع الرسل أو أن يضمها كتاب مهما كان حجمه؛ يقول الإنجيل للقديس يوحنا "وأشياء آخر كثيرة صنعها يسوع أن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة (10)". وكان على الرسل أن يختاروا من هذا الكم الهائل من التعاليم والأحداث ما يرشدهم إليه الروح القدس وما يقودهم للكرازة به، وذلك بحسب ما يتلاءم مع احتياج البشرية للخروج من ظلمة هذا العالم والدخول إلى ملكوت الله وبحسب غاية وهدف الإنجيل ذاته الذي هو الإيمان بالرب يسوع المسيح كالفادي والطريق الوحيد إلى الحياة الأبدية. وهذا ما حدث تمامًا عند تدوين الإنجيل المكتوب؛ "وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب (الإنجيل للقديس يوحنا). وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه (11)".
وقد وجه الروح القدس الرسل للتركيز في كرازتهم بالأخبار السارة إلى اتجاهين؛ الاتجاه الأول هو التركيز على قصة وأحداث وروايات الآلام والصلب والقيامة والصعود وشفاعة الرب الحي الدائمة في المؤمنين ومجيئه الثاني في مجد ليدين الأحياء والأموات، وكانت هذه الأمور هي محور وجوهر وبؤرة الكرازة والإيمان، كما بينا في الفصل السابق؛ والاتجاه الثاني هو تسليم أقوال الرب وتعليمه ووصاياه في ترتيب دقيق ومحكم، وذلك بحسب إرشاد الروح القدس وتوجيهه وعنايته.
ونتيجة لتكرار نفس المواضيع سواء عند الكرازة لليهود في مجامعهم أيام السبت أو الكرازة للأمم في كل مكان، وتكرارها أيضًا في التعليم للمنضمين إلى المسيحية سواء في فلسطين أو في كل البلاد التي كرز فيها الرسل بالأخبار السارة، الإنجيل، فقد اتخذ التسليم الرسولي أشكالًا محددة وأنماط وقوالب ثابتة وصارت الخطوط العريضة لأقوال وأعمال وحياة السيد المسيح والتي كانت تكرر سواء في الكرازة أو التعليم كل يوم محفوظة ومحافظ عليها بدقة وقداسة تفوق الوصف.
وعند جمع الإنجيل وتدوينه أرشد الروح القدسالإنجيليين الأربعة وقادهم كما سبق أن وعد السيد "فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم (12)"، وساقهم وحملهم لجمع وتسجيل وتدوين ما سبق أن وجههم إليه عند الكرازة الشفوية. فقد كان الرسل والإنجيليون سواء في حملهم للأخبار السارة والكرازة بها شفويًا أو عند كتابة الإنجيل هم رجال الروح القدس الذي عمل فيهم وبهم وقادهم وأرشدهم وعلمهم وذكرهم. وكما حافظ الروح القدس على كلمة الله، التسليم الرسولي، أثناء الكرازة وسيطر على عملية التسليم والاستلام والحفظ ولم يترك شيء للصدفة، حمل أيضًا الإنجيليين وقادهم وساقهم وعلمهم وذكرهم بكل شيء قاله وعمله السيد المسيح. وكان على الرسل الإنجيليين عند كتابة الإنجيل وتدوينه أن يسجلوا ما سبق أن كرزوا به بنفس الخطوط والترتيب والتركيز على نفس التعاليم والمواضيع التي سبق أنت ركزوا عليها في الكرازة وحفظها المؤمنون عن ظهر قلب، أن يضعوا في اعتبارهم التسليم الشفوي والاستعانة بالمذكرات والملحوظات المكتوبة لكي يختاروا منها بحسب توجيه الروح القدس وإرشاده مع الوضع في الاعتبار أن ثلاثة منهم كانوا من شهود العيان بدرجات متنوعة في صلتهم بالسيد المسيح؛ فقد كان القديس يوحنا أحد الثلاثة الذين كانوا قريبين من السيد والذين شاهدوا أخص أعماله التي لم يشاهدها غيرهم من بقية التلاميذ الاثني عشر مثل التجلي والقرب منه في البستان ليلة القبض عليه (13)، كما كان القديس يوحنا أيضًا هو "التلميذ الذي كان يسوع يحبه.. وهو أيضًا الذي اتكأ على صدره وقت العشاء.. (14)"، وكان القديس متى الذي هو أيضًا "لاوي" أحد التلاميذ الاثنا عشر وحافظ شرائع العهد القديم، وكان القديس مرقس أحد الذين أتبعوا الرب وكان هناك ليلة القبض على السيد، فهو الشاب الذي أمسكه الشبان وقتها وهرب منهم (15) بإجماع الدارسين، وكانت أمه مريم إحدى تلميذات الرب وكان بيتها هو البيت الذي صنع فيه السيد العشاء الرباني لتلاميذه وكان مقر اجتماع الرسل في أورشليم (16) وأول كنيسة مسيحية في العالم كله وكان مساعدًا للرسل في كرازتهم، خاصة برنابا وبولس وبطرس (17)، قبل أن ينطلق للكرازة في مصر وغيرها وكانت لديه الإمكانيات لكتابة وتدوين ما شاهده وسمعه بنفسه، كشاهد عيان، وأيضا ما سمعه من الشهود العيان الآخرين الذين استمع منهم جميعًا عندما كانوا يجتمعون في منزل والدته وأيضا عندما كرز مع القديس بطرس في روما والذي وصفه بابنه "مرقس أبنى (17)".
أما القديس لوقا والذي كان رفيق القديس بولس ومساعده والعامل معه (17) فقد كان لديه فرصة للاستماع إلى جميع الرسل سواء في أورشليم أو قيصرية أو روما وكان زميلًا للقديس مرقس في الكرازة مع القديس بولس، وكان لديه فرصة للاستماع لمريم العذراء، وقد تسلم الأخبار السارة، التسليم الرسولي من الرسل وعرف ما سبق أن دون من مذكرات وملحوظات، ومن ثم فعندما دون وكتب الإنجيل الثالث استعان بما تسلمه شفاهة من الرسل وما سبق أن دون، خاصة ما دونه الرسل أو مساعدوهم الآخرون، وراجع كل شيء وتتبع كل شيء من الأول بتدقيق وحرص، وفى كل الأحوال كان مسوقًا ومحمولًا بالروح القدس الذي قاده ووجهه وأرشده وحفظه وعصمه من الخطأ والزلل، ويبدأ تدوين الإنجيل الثالث بقوله "لأن كثيرًا من الناس أخذوا يدونون رواية الأحداث التي جرت بينا، كما نقلها (سلمها) إلينا الذين كانوا من البدء شهود عيان للكلمة وصاروا خدامًا لها، رأيت أنا أيضا، بعدما تتبعت كل شيء من أصوله بتدقيق، أن أكتبها.. (18)".
كتب الإنجيليون الأربعة الإنجيل بأوجهه الأربعة محمولين ومسوقين من الروح القدس (19) الذي أخضعوا أنفسهم تمامًا لقيادته وإرشاده.
وكان هناك الإسهام الشخصي لكل إنجيلي وميله وحبه لجانب معين من جوانب حياة الرب وتعليمه مع الوضع في الاعتبار الناس الذين كتب لهم الإنجيل أولًا؛ فقد كتب القديس متى الإنجيل الأول للمسيحيين من أصل يهودي ولليهود عامة، وقد كان هو نفسه بحسب لقبه "لاوي" (20) من سبط لاوي الذي يحفظ ناموسموسى، ومن ثم فقد ركز على الجانب المسياني في شخص السيد المسيح باعتباره المسيح الآتي والملك الذي من نسل داود الذي يجلس على كرسيه ويقيم ملكوت السموات والذي تم فيه جميع ما تنبأ بع عنه أنبياء العهد القديم. وكتب القديس مرقس الإنجيل الثاني للمسيحيين من أصل روماني وللرومان عامة، فركز على جانب القوة في شخص المسيح "ابن الله" وبدأ بالقول "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله (21)" وابرز معجزاته أكثر من أقواله ودون الأحداث بصورة موجزة وسريعة وحيوية. وكتب القديس لوقا الإنجيل الثالث لليونانيين والمثقفين فركز على جانب الصديق والمحب والفادي والمخلص في شخص المسيح، وكان أسلوبه هو أسلوب الطبيب المثقف والرسام البارع والمؤرخ المحقق والمدقق "تتبعت كل شيء من أصوله بتدقيق (22)". وكتب القديس يوحنا الإنجيل الرابع بعد كتابة الأناجيل الثلاثة الأولى وانتشارها بفترة كافية، فأطلع عليها وأضاف إليها في الإنجيل الذي دونه أحداث وأعمال وأقوال وتعاليم لم تدون فيها، ولأنه كتب للمسيحيين عمومًا وللمتقدمين في الإيمان بصفة خاصة فقد ركز على الجانب اللاهوتي في شخص السيد وبدأ بمقدمة تعلن وجوده الأزلي الأبدي "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله"، وخلقه لكل شيء "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة.." وتجسده في صورة إنسان وشكل العبد "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا (23)"، كما ركز أيضًا على الجوانب التي تبرز إنسانيته بعد التجسد، وركز بصورة أكبر على هدف وغاية تجسده والذي تلخص في قول السيد "هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (24)" وفى خاتمة الإنجيل "وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه (25)".
وفى كل الأحوال فقد دون كل حرف وكل كلمة وكل فقرة تحت إرشاد وعناية وتوجيه ووحى الروح القدس الذي أرشد الإنجيليين لاختيار ما دونوه ودفعهم للكتابة وحفظهم وعلمهم وذكرهم، وفى كل الأحوال فقد حافظ على شخصية كل كاتب وميله الروحي ولكن في الروح القدس وباعتبارهم جميعًا رجال الروح القدس الذي عمل فيهم وبهم. ومن ثم فقد دون كل إنجيلي أحد جوانب حياة وأعمال وأقوال السيد المسيح، أحد جوانب الصورة وأحد أوج الإنجيل الأربعة، وقدم كل واحد منهم شهادة مستقلة للمسيح في ركن من أركان الأرض ولجماعة معينة من الناس وبذلك قدموا الإنجيل لكل الناس في كل زمان ومكان.
وقد اتفق كتاب الإنجيل في تدوين مواضيع مشتركة بينهم جميعًا من أعمال وأقوال السيد المسيح، كما اتفق كل اثنين منهم في تدوين موضوعات لد يدونها الآخران وتميز كل واحد منهم بتدوين أقوال وأعمال لم يدونها الثلاثة الآخرون ؟ فقد اتفق القديس يوحنا في تدوين حوالي 10% مما دونه الآخرون وتميز بتدوين حوالي 90% مما لم يدونه غيره، واتفق القديس متى في نفس المواضيع مع القديس مرقس والقديس لوقا في 58% مما دونه وتميز 42% مما لم يدوناه، واتفق القديس مرقس فيما دونه مع القديس متى والقديس لوقا في 93% وتميز عنهما في 7% فقط، واتفق القديس لوقا فيما دونه مع القديس متى والقديس مرقس في 41% وتميز في 59% مما دونه ولم يدونه الآخرين.
ولا يرجع هذا الاتفاق أو التنوع والتميز إلا لغنى وتنوع وعظمة ما عمله وعلمه السيد المسيح ولتميز كل إنجيلي بميل روحي لأحد جوانب حياة وأعمال وأقوال المسيح، فقد كان ثلاثة منهم شهود عيان بدرجات مختلفة كما استلموا أيضًا من شهود عيان آخرين ونقلوا عنهم، وكان الرابع مساعد لشهود العيان وكارز بالكلمة لسنوات طويلة، وأيضا لإرشاد وتوجيه ووحي الروح القدس.
وهكذا صار لكل وجه من أوجه الإنجيل الأربعة مميزاته الخاصة تبعًا لكاتبه ونوعية الناس الذين كُتب إليهم، وقدم الأربعة صورة متكاملة لشخص وأعمال وأقواله الرب يسوع المسيح، وأكمل كل جانب منهم الجوانب الثلاثة الأخرى. ولذلك فقد صورت الكنيسةالأناجيل الأربعة بأنهار جنة عدن الأربعة وأوجه الكاروبيم الأربعة، فوصفت الإنجيل للقديس متى بالكاروب الذي على صورة إنسان والإنجيل للقديس مرقس بالكاروب الذي على صورة أسد، والإنجيل للقديس لوقا بالكاروب الذي على صورة ثور، والإنجيل للقديس يوحنا بالكاروب الذي على صورة نسر.