من التسليم الرسولي الشفوي إلى الإنجيل
سلم الرسل الأخبار السارة، الإنجيل، شفاهة عندما كانوا كل يوم بصفة عامة وكل سبت في مجامع اليهود وكل أحد في اجتماعات العبادة المسيحية بصفة خاصة يكرزون بالإنجيل ويعلمون الذين انضموا إلى المسيحية ويحفظونهم كل ما أوصى به الرب القائم من الأموات. واستمرت الكرازة الشفوية أكثر من عشرين سنة قبل أن يدون الإنجيل المكتوب معتمدة على شهادة الرسل شهود العيان وعمل الروح القدس فيهم وبهم ومعهم. وكان عدد شهود العيان، المكون من الرسل الاثني عشر وعلى رأسهم الأعمدة الثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا (1)"، ثم الرسل السبعين الذين عينهم الرب وأرسلهم أمام وجهه أثنين أثنين (2)"، ثم جمهور التلاميذ الذين كانوا قد أتبعوه قبل الصلب والقيامة وعلى رأس هؤلاء مجموعة الأكثر من خمسمائة أخ الذين ظهر لهم الرب دفعة واحدة بعد القيامة، يعتبر كبير جدًا وشاهد حي أمين ولا حد لقيمته في الشهادة لكل ما عمله الرب وعلم به. وإلى جانب هؤلاء كان هناك عدد كبير يعد بالآلاف من الشعب ورؤساء الكهنة والكهنة والكتبة والفريسيين واللاويين وغيرهم من الذين استمعوا للرب وشاهدوا أعماله أثناء كرازته في الجليل واليهودية وأورشليم وبقية مدن فلسطين، حيث تكلم الرب معهم وعمل أعماله لهم وأمام عيونهم، كما قال لهم القديس بطرس في أول خطاباته وكرازته لهم بعد حلول الروح القدس؛ أن المسيح "تبرهن لكم وصنع معجزات "في وسطكم وأنتم تعلمون (3)"، "الذي أسلمتموه أنتم (4)"، "الذي صلبتموه أنتم (5)"، "أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئًا من الجليل (6)". هؤلاء آمن منهم بالمسيحية آلاف عديدة وصاروا شهودًا لما عمله وعلمه ربها. وكان الروح القدس يعمل فيهم ويحفظهم كلمة الله.
هؤلاء المسيحيون الأولون حفظوا ما سمعوه بآذانهم وما شاهدوا بأعينهم وما سلمه لهم الرسل، فقد صاروا لهم تلاميذًا، وحافظوا عليه حتى الموت وكان الروح القدس يعمل فيهم وأيضا بهم. وكانوا كيهود سابقين مدربين على حفظ كلمة الله وحفظ تقليد آبائهم ومتعودين على ذلك جيدًا.
وقد برهنت الدراسات التي قام بها أحد العلماء ويدعى جيرهارديسونB. Gerhardsson (1961م) على أن معلمي اليهودية، الربيين" كانوا يعلمون تلاميذهم ويحفظونهم تقاليد اليهودية في قوالب وأشكال معينة ومفردات تحفظ عن ظهر قلب، وأنه كانت لديهم وسائل وطرق متعددة للمساعدة على الحفظ وتقوية الذاكرة. هذه الوسائل التعليمية التي اتبعوها جعلتهم يحفظون التقليد لمئات السنين شفويًا قبل أن يوضع في شكل مكتوب. ولأن تلاميذ المسيح ورسله كانوا من اليهود وكان معظم معلمي المسيحية الأولين من اليهود وكان بعضهم تلاميذًا ليوحنا المعمدان وكان بعضهم من الربيين أيضا، ولذا فمن الطبيعي أن يستخدموا نفس الوسائل السائدة بينهم في التعليم المسيحي ونقل التسليم الرسولي، الإنجيل، شفاهة.
وكان التقليد أو التسليم الرسولي المسيحي، الإنجيل، أسهل بكثير في حفظه شفويًا من التقليد اليهودي، فقد كان شخص المسيح الحي الصاعد إلى السماء، أعماله وأقواله وحياته أثناء التجسد، هو هدف ومحور وجوهر وغاية الإنجيل، وكان الروح القدس يعمل في الرسل شهود العيان الأحياء، فكان التعليم المسيحي تعليمًا حيًا يقوم على شخص حيّ ورسل أحياء ومؤمنين شهود عيان للرب الحي والإنجيل الحيّ، وذلك بعكس التعليم اليهودي الذي اعتمد على تحفيظ آيات التوراة وتقليد الآباء.
ولأن السيد المسيح كان يعلم الجموع بسلطان وليس كالكتبة والفريسيين ولأنه كلمة الله النازل من السماء وكلامه هو كلام الله وأعماله هي أعمال الله، وقد آمن المسيحيون بذلك منذ البدء، فقد كان كلامه، هو كلام الله المقدس وقيمته لا حد لها وكان المؤمنون يقبلون كل كلمة بلهفة تفوق الوصف ويحفظونها عن ظهر قلب ويحافظون عليها حتى الموت، وكان الروح القدس يعمل داخلهم ويحفظ كلمة الله في قلوبهم.
وقد برهنت الدراسات أيضًا على أنه كان هناك بعض2 المذكرات الصغيرة والملحوظات المكتوبة التي استخدمت في حفظ أقوال الرب وأعماله كالموعظة على الجبل والنبؤات التي تنبأ بها لوقا الرب أنبياء العهد القديم وفسرها هو بنفسه لتلاميذه، وبعض أعماله ومعجزاته، ويشير القديس لوقا لمثل هذه الوثائق بقوله: "لأن كثيرًا من الناس أخذوا يدونون رواية الأحداث التي جرت بيننا كما سلمها الذين كانوا من البدء شهود عيان للكلمة" (7). هذه الملحوظات المكتوبة قد يرجع بعضها إلى ما قبل الصلب والقيامة.
وقد ساعدت أساليب الحفظ والوثائق (الملحوظات والمذكرات) المكتوبة على حظ الإنجيل الشفوي ووصوله إلى درجة كبيرة من الثبات قبل تدوين الإنجيل المكتوب بفترة طويلة. فقد كان التسليم الشفوي المحفوظ بعمل الروح القدس دقيق جدًا والاعتناء بحفظه يفوق الوصف وكان للمذكرات المكتوبة قيمة عظمى سواء قبل تدوين الإنجيل أو عند التدوين.