هل يُمكن للمتضع أن ينتهر ويوبخ ويعاقب؟
بعد كل ما ذكرناه من التواضع في معاملة الصغار، نسأل:
هل يُمكن للمتضع أن ينتهر ويوبخ ويعاقب؟
* نعم، يمكن هذا، فإن القديس بولس هذا، قد وبخ وعاقب.
وبخ أهل غلاطيه مثلًا وقال لهم "أهكذا أنتم أغبياء. ابعد ما ابتدأتم بالروح، تكملون بالجسد؟!" (غل3: 3). وقال لتلميذه تيموثاوس الأسقف: "وبخ. انتهر. عظ، بكل أناة وتعليم" (2تي4: 2). وقد عاقب خاطئ كورنثوس وأمر "أن يسلّم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد، لكي تخلص الروح في يوم الرب" (1كو5: 5). وأمر أهل كورنثوس قائلًا "اعزلوا الخبيث من بينكم" (1كو5: 13).
والقديس بولس وبخ القديس بطرس أيضًا قائلًا له "إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميًا، فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا" (غل2: 14).
ومع كل ذلك، كان القديس بولس متواضعًا. ويكفي قوله عن ظهورات السيد المسيح بعد القيامة "وآخر الكل، كأنه للسقط ظهر لي أنا، لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلًا لأن أعي رسولًا، لأني اضطهدت كنيسة الله" (1كو15: 8،9).
والقديس يوحنا المعمدان وبخ الفريسيين والصدوقيين الآتين إلى معموديته.
وقال لهم "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا ثمارًا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا.." (مت13: 7، 8). ولا ينكر أحد تواضع القديس يوحنا المعمدان.
* وإيليا النبي وبخ آخاب الملك لسيره وراء البعليم (1مل18: 18).
وعاقب أنبياء البعل والسواري (1مل18: 40)، كما عاقب قائدي الخمسين الأول والخمسين الثاني (2مل1: 10، 12).
* ويعقوب أبو الآباء وبخ ابنيه قائلًا "شمعون ولاوي أخوان. آلات ظلم سيوفهما. في مجلسهما لا تدخل نفسي. بمجمعهما لا تتحد كرامتي.." (تك48: 5، 6).
وكثير من الأنبياء وبخوا أفرادًا وجماعات، بل أرسلهم الله ليوبخوا.
* بل السيد المسيح نفسه انتهر ووبخ، وهو الوديع المتواضع القلب (مت11: 29).
وبخ المدن التي صنعت فيها أكثر قواته لأنها لم تتب (مت11: 20). وقال "ويل لك يا كورزين. ويل لك يا بيت صيدا.. وأنتِ يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية.."(مت11: 21- 23). ووبخ الكتبة والفريسيين المرائين (مت23).. ووبخ تلميذه بطرس الرسول قائلًا له "اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي. لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مت16: 23).
وانتهر تلميذيه يعقوب ويوحنا لما طلبا منه أن تنزل نار وتحرق إحدى مدن السامرة،وقال لهما "لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلص" (لو9: 55).
* والأمثلة كثيرة، ولكن فلنناقش موضوع التوبيخ ومدى تمشيه مع التواضع.
أولًا: ممن يصدر؟ وهل الذي يوبخ وينتهر له سلطان أن يوبخ؟
هل كل إنسان له سلطان الرب في التوبيخ؟! له سلطان القديس يوحنا المعمدان، أو القديس بولس الرسول، أو القديس تيموثاوس الأسقف.
وهل هذا التوبيخ أو الانتهار هو في حدود مسئوليتهم. مثلما في مسئولية الآب أن يوبخ ابنه ويؤدبه، كما قال الكتاب "أي ابن لا يؤدبه أبوه؟!" (عب12:7). أو هل له مسئولية المعلم في تأديب تلاميذه؟ أو مسئولية كل صاحب منصب في تأديب مرؤوسيه أو توبيخهم، حتى لا يدفعهم التهاون إلى الاستهتار.
وما أعمق قول الآباء في البستان "أدبوا الأحداث قبل أن يؤدبوكم".
ثانيًا: ما هو الأسلوب الذي يتبعه المتواضع في التوبيخ وفي التأديب؟
البعض يوبخ في شدة وفي قسوة، وفي غير احترام للناس، ويظن أن في ذلك فضيلة، ناسيًا كيف كان القديس بولس الرسول يوبخ، هذا الذي قال لتلميذه تيموثاوس "عظ وبخ انتهر". إنه يقول لشيوخ أفسس "ثلاث سنين.. لم افتر عن أنذر بدموع كل أحد" (أع20: 31). كان ينذر بدموع -في تواضع وحب- وليس في تسلط.
يقول أيضًا "أطلب إليكم بوداعة المسيح وحلمه، أنا نفسي بولس، الذي هو في الحضرة ذليل، وأما في الغيبة فمتجاسر عليكم" (2كو10: 1). لاحظوا أنه يقول عن نفسه "في الحضرة ذليل". لذلك يتشجع بالكتابة، ويحسب نفسه أنه متجاسر عليهم!! هذا هو أسلوب الشخص المتواضع حينما يوبخ، لا بروح التعالي، ولا بقسوة الأسلوب، ولا بالصوت العالي المتسلط.. وإنما بأسلوب الذي يحسّ بالخشبة في عينيه، حينما يخرج القذى من عين أخيه...
إنه أسلوب من يطلب حق الله من نفسه أولًا، قبل أن يطلب حق الله من الآخرين. فيوبخ في وداعة المسيح وحلمه.
إني أعجب لهؤلاء الذين لا يرون السيد المسيح إلا ممسكًا بالسوط! ولا يسمعونه إلا في عبارة "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون". كما لو كانت حياة المسيح هي هذه فقط!!
إن السيد المسيح عامل الكتبة والفريسيين بكل لطف وبكل احتمال، دون أن يرد عليهم، بل كان يزورهم. وبكل وداعة وحلم يحاورهم محاولًا إقناعهم. أما صبة الويلات عليهم، فكان في الأسبوع الأخير بالذات، حينما أراد أن يمهد الطريق لإلغاء تلك القيادات قبل صلبه، حتى لا تسيطر على الكنيسة الجديدة التي سيؤسسها بدمه. لذلك كشف رياءهم في الأسبوع الأخير، بعد طول صبر.. وليس هم فقط بل أيضًا الصدوقيين والناموسيين (مت22) والكهنة (مت 21).
فهل أنت في نفس موقف المسيح؟ وهل لك سلطانه؟! وهل لك وداعته وحلمه؟! أم أنك توبخ في غير اتضاع..؟!