رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نقطة اللا خَير وَ اللا شَرّ تَفْسِير إهْلاكَات العَهْد القَدِيم تصنيف كُل الأحداث إلى خير و شر فقط هي قضيَّة فلسفيَّة تعود -رُبّما- للفكر اليوناني الذي دائماً ما يرى صراعاً بين العالم المادِّي و الرُّوحيّ أو بين الآلهة المُتعدِّدة، هل فعليَّاً يُمكن تصنيف كُل حدث كخير أو شر ؟، و على أي أساس يُمكن وضع قاعدة للتصنيف ؟. هل سقوط حجر في منطقة صحراوية على وردة صغيره يندرج قائمة الخير أو الشَّر، ماذا إن تبدَّلت الورده الجميلة في الموقف السَّابق بنبتةٍ سامةٍ فهل سيتغيَّر التَّصنيف ؟. هل المَطر يُصنَّف كخير أو شر ؟، إن سقط المطر على أرض قاحلة و بشر في قحط فسيعود عليهم بالخير، أما إن سقط على أرض تُعاني من السيول فهو كارثة !. إذاً فالأمر لا يتعلَّق بالحدث نفسه بقدر ما يتعلَّق بالنظرة البشريَّة له، و كما عرضت قد يكون نفس الحدث خيراً للبعض و شرَّاً للآخرين و قد لا يهتم أحد به أصلاً و في هذه الحالة لا يُصنَّف خيراً أو شراً، مثل سقوط المطر على قمة جبل في القطب الشَّمالي حيث لا يوجد بشر. الموت أيضاً (الرِّقاد) قد يكون أمراً مُحيّراً إن حاولنا تصنيفه، فالكثيرون يُبغضون الموت و يخافونه و كثيرون يشتهون الموت و يرونه حلّاً أفضل لحياتهم المريرة، هذا بالنسبة لمن يتعرض للموت نفسه. أما بالنسبة للمُحيطين به فالأمر مُحيِّر أيضاً، فالمنظور البشري يرى في موت العدوّ خيراً و موت القريب شرَّا. الموت في حد ذاته هو حدث لا يُمكن تصنيفه، مثله مثل المطر و سقوط الصخرة، فقط يُمكن تصنيف نتائجة التي بالتأكيد تختلف من شخص لآخر، الأمر في النهاية نسبيّ مُتغيِّر بحسب النظرة البشريَّة. دعونا ندخُل إلى عُمق القضيَّة المسيحيَّة التي أطرحها في هذا المَقال، إنها فكرة الإهلاك التي يعُج بها العهد القديم -و بعض المواقف أيضاً في العهد الجديد- و التي شغلتني لمدة تزيد عن الشَّهرين. كيفُ أتفهَّم أن يُهلك الله الإنسان الخاطئ بخطيئته ؟، أعلم أن البتر هو آخر حلول الطِّب البشري حينما ييأس الطَّبيب و لكن لم أر طبيباً يقتُل مريضاً لأن مرضهِ مرضٌ عُضال !، الله لا ييأس من الخاطئ. لننظُر إلى الأمر من واقعنا الأرضيّ، هل يُمكن أن تُنهي أم حياة إبنها بضربة سكّين لأن مرض السَّرطان يأكُل في جسده ؟، أم قد تضع حياتها في مُقابل أن يحيا دقيقة أُخرى ؟. أوَّل أمثلة الإهلاك في التَّكوين هو الطُّوفان[1] (الإصحاحات 6 : 8)، لنضع هذا الحدث على نقطة اللا خير و اللا شر، فكِّر معي للحظات بهذا المنطق. الطُّوفان هو حدث مازال يتكرر حتَّى اليوم، و مازالت مُدن تُغمر بالماء سواء أكان مطراً أو إعصاراً مثل التسونامي. إن أهلك هذه الإعصار شخصٌ ما تعرفه و تربطك به محبَّة فستدعوه شرَّاً، و إن أهلك عدوَّك -أقول بالمنظور البشريّ- فستدعوه خيراً !. أما إن حدث هذا الإعصار أو الفيضان أو ما إلى ذلك في منطقة نائيَّة لا بشر فيها، فهل يُمكن أن تُصنِّف لي هذا الحدث بأنَّه خير أو شر ؟، بالتأكيد لا !. و هُنا أعود للنُقطة السَّابقة أن الأمر نسبيّ، فقد لا يُمثِّل الأمر لي خيراً أو شرَّاً و قد يُمثَّل !. الفيضانات و الزَّلازل و الإنهيارات الأرضيّة كأحداث طبيعيَّة تَحدُث يوميَّاً، بالتأكيد يراها الإنسان شرَّاً إن أضرتهُ، أما الحدث (الظَّاهرة) في ذاته فلا هو خير و لا شر. الطوفان ليس شرَّاً، و لكن الإنسان يراه هلاكاً موجَّها من الله ضد الخاطئ، هذا الطُّوفان نفسه قد يمر بأرض خالية من السُّكَّان و ينتهي بدون أن تُزهق نفس واحد، و قد يمُر بمدينة مُمتلئه بالسُّكان فيقتل الآلاف، في كلا الحالتين الطوفان هو ذاته. ما يجعلنا نُصنِّف هذا الطّوفان شرَّاً هو أنه أنهى حياة إنسان، و هذا ينبع من مخافتنا -كبشر- من الموت الذي يُمثِّل المجهول، مع العلم أن الموت في حد ذاته هو شئ طبيعي لأن الإنسان فانٍ بحسب طبيعته[2] و ليس في هذا شرّ البتَّه. علينا إذاً أن نقف موقف الحياد من كُل أمر، فلا نعود بعد نُصنِّف الأمور خيراً كانت أم شرَّاً إلّا بعد أن نقف في منطقة اللا خير و اللا شر، أو ما دعاه القدِّيس إغناطيوس دي لويولا عدم الإنحياز. يقول [خُلق الإنسان لكي يعبُد الله ربّنا و يحترمه و يُسبِّحه فيُخلِّص نفسه. أما المخلوقات الأُخرى التي على وجه الأرض فهي للإنسان كي تُساعده على بلوغ غايته الي خُلق من أجلها. و بالنتيجة، فعلى الإنسان أن يستخدمها بقدر ما تُساعده على بلوغ غايته، و يتخلَّى عنها بقدر ما تقف حاجزاً بمنعه عن هدفه. و علينا إذاً أن نتحلَّى بعدم الإنحياز تجاه كُل المخلوقات في كُل ما يُسمح به لضميرنا الحُر و غير مُحرَّم عليه، فلا نطلُب الصّحة مثلاً أكثر من المرض و الغنى أكثر من الفقر و الرِّفعة أكثر من الذَّل و طول العمر أكثر من قصره و هكذا[3]]. لقد قدَّم القدِّيس دي لويولا حلَّاً للمُعضلة، فليت المرض و العِوَز و الإضطهاد يأتي إن كان هو الطَّريق إلى يسوع !، إذاً علينا أن نقف في مساحة اللا خير و اللا شر، و منها ننطلق إلى رؤية أصل الأشياء فإذ بها بسيطة و نحنُ من يُضفي عليها النظرة الجزائيَّة أو العقابيَّة، كما سبق و ذكرت في مثل المطر. الإنسان فانٍ بطبيعته كما قال القدِّيس أثناسيوس، و عليه، فالبار و الشِّرير كلاهمها يموت. ليس معنى نهاية حياة الإنسان بحدث كارثي كالطوفان أنه بالضرورة في الجحيم، و ليس كُل ما مات هادئاً في سريره هو في حياة الشركة الأبديَّة. و قد تطرَّق المسيح لهذا الأمر حينما سُئل عن الذين قتلهم بيلاطَسُ و عن إنهيار برج سلوام [(لوقا 13 : 1-5) في ذلِكَ الوَقتِ حَضَرَ أُناسٌ و أَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّينَ الَّذينَ خَلَطَ بيلاطُسُ دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم. فأَجابَهُم «أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً مِن سائِرِ الجَليليِّينَ حتّى أُصيبوا بِذلك ؟ أَقولُ لَكم لا، و لكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم. و أُولئِكَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذينَ سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ و قَتَلَهم، أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم ؟ أَقولُ لكم لا و لكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ»]. إذا إنهاء حياة البشر بالطوفان هو حدث قد يجمع البار و الشّرير، و يكون السؤُّال المنطقيّ هو : العهد القديم شدَّد على أن خطيئتهم سبب هلاكهُم، ألا يعني هذا أن الله أهلكم إنتقاماً ؟. لا، الله لا ينتقم من الخاطئ، بل الله يقتُل الخطيَّة لا الخاطئ. يقول الرَّاعي الملك في مزموره [(مز 14 : 3) اْرتَدُّوا جَميعًا ففَسَدوا ولَيسَ من يَصنعُ الصَّالِحاتِ ولا واحِد]، و النَّبيّ الإنجِيليّ [(إشعياء 64 : 5) كُلُّنا كالنَّجِس وبِرُّنا كُلُّه كثَوبِ الطَّامِث وكُلُّنا ذَبَلْنا كالوَرَق وآثامُنا كالرِّيحِ ذَهَبَت بِنا]، ليس أحد يتبرَّر أمامه بالأعمال فقط. لهذا كُل من ليس في المسيح يسوع فهو خارج شركة الله، يسوع الذي فيه إستُعلن سر الله، الإبن الوحيد الذي خبَّر (يوحنَّا 1 : 18). كُل هؤلاء الذين هُم قبل المسيح قد كان مصيرهم الهاوية، البار منهم و الشرير. بدون يسوع يظل الجميع أمام الله سواء، خُطاة و لا يتبرَّر أحد منهم أمامه. فهؤلاء الذين قد هلكوا بالطوفان و نوح و الذين هلكوا في سدوم و عمورة و إبراهيم و لوط و عُزّا الذي إقتحمه الرَّب حينما مسَّ تابوت عهم الرَّب و داود و غيرهم كانوا جميعاً في الهاوية. إلى أن فتح يسوع يديه على خشبة الصَّليب بعدما إستعلن صورة الله الحقيقيَّة في تجسُّده، حينها نزل و كرز إلى "جميع" المأسورين في الهاويَّة [(1 بطرس 3 : 18-22) فالمسيحُ نَفْسُه ماتَ مَرَّةً مِن أَجْلِ الخَطايا. ماتَ، و هو بارٌّ، مِن أَجْلِ فُجَّارٍ لِيُقَرِّبَكم إِلى الله. أُميتَ في جَسَدِه و لكِنَّه أُحْيِيَ بِالرُّوح، فذَهَبَ بِهذا الرُّوح !َ يُبَشِّرُ الأَرواحَ الَّتي في السِّجْنِ أَيضًا، و كانَت بِالأَمْسِ قد عَصَت، حينَ قَضى لُطْفُ اللهِ بِالإِمْهال. و ذلِكَ أَيَّامَ كانَ نوحٌ يَبْني السَّفينَةَ فَنجا فيها بِالماءِ عَدَدٌ قَليل، أَي ثَمانِيَةُ أَشخاص. و هي رَمزٌ لِلمَعْمودِيَّةِ الَّتي تُنَجِّيكُم الآنَ أَنتم أَيضًا، إِذ لَيسَ المُرادُ بِها إِزالَةَ أَقْذارِ الجَسَد، بل مُعاهَدةُ اللهِ بضميرٍ صالِح، بِفَضْلِ قِيَامَةِ يسوعَ المسيح، و هو عن يَمينِ الله، بَعدَما ذَهَبَ إِلى السَّماء، و قد أُخضِعَ لَه المَلائِكةُ و أَصْحابُ القُوَّةِ و السُّلْطان]. و حينما كرز لهؤلاء صار لهم خلاصاً، فمن آمن به من هؤلاء الذين إنتهت حياتهم بالطوفان و بالهلاك في سدوم و عمورة صار مُخلّصاً في يسوع، و من رفضه مُخلّصاً يبقى في حالة اللا شركة (الهاوية) كما أراد. إنهاء حياتهم أرضيَّاً ليس هو إلا درساً عن كراهية الله للخطيَّة لا الخاطئ، موته على خشبة الصَّليب و كرازته لهؤلاء الفُجار الخُطاة هي قمَّة الحُريَّة، بهذا يكون قد أدان الخطيَّة و أعلن كراهيته لها، و لكنَّه أيضاً قد ترك للإنسان فرصة الخلاص في يسوع. سأستطرد في شرح الفكرة بمثال آخر، أمر الله في سفر العدد الإصحاح الرَّابع أن يحمل بنو قهات القُدس، و مع ذلك نجد أن داود لم يتبع هذا التَّعليم في نقل تابوت العهد[4]، فوضع التَّابوت على عجلة و ثيران. يقول سفر الأخبار [(1 أخبار 13 : 7 - 10) فحَمَلوا تابوتَ اللهِ على عَجَلَةٍ جَديدة، مِن بَيتِ أبيناداب، و كان عُزَّا و أخيو يَقودان العَجَلَة. و كان داوُدُ كلُّ إسرائيل يَلعَبونَ أَمامَ اللهِ بِقوتهم كُلَها، بالاغانيِّ و الكِنَّاراتِ و العيدان و الدًّفوفِ و الصنوجِ والأبواق. فلَمَّا وَصَلوا إلى بَيدَر كيدون، مَدّ عُزَّا يَدَه ليُمسِكَ التَّابوت، لأن الثِّيران كانت قد تَعَثرت. فاَشتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ على عُزَّا و ضَرَبَه، لانه مَدَّ يَدَه إلى التَّابوت، فماتَ هُناكَ امامَ الله]، من الواضح أن المُخطئ هو داود إذ لم يدع بني قهات يحملون التَّابوت كأمر الرَّب، و حينما تعثَّرت الثِّيران أراد عُزَّا أن لا يترك تابوت الرَّب يسقط فمد يده ليسنده فضربه الرَّب و مات، ما ذنب هذا الإنسان الذي أشفق أن يسقط تابوت الرَّب !. لنُحلَّل الأمر من نقطة اللا خير و اللا شر، هل الموت هو خير أم شر ؟، إتّفقنا أن الإنسان مائت بطبيعته، فُعزَّا سيموت اليوم أو غداً. هل يعني هذا الموت أن عُزّا قد حُكم عليه بفقدان الحياة الأبديَّة ؟، بالتأكيد لا، فالله قد عبَّر عن خطورة كسر الوصيَّة بموت عُزَّا بحسب الجسد، أما الأبديَّة فهي أمر مُتوقِّف على قبول عُزٌّا لكرازة يسوع في الجَّحيم، فإن قبلها فهُو مُبَّرر في يسوع و إن رفضها فسيبقى في الهاوية بإختياره، لا لأجل لمسه للتابوت بل لرفضه ليسوع و بالتالي سيكون في حالة اللا شركة مع الله (حالة الهاوية أو الجحيم). من هذه النُقطة نستطيع أن نرى حقيقة هذه الأمور التي قد تبدو عسرة الفهم، كيف يُهلك الله بينما في نفس الوقت نجده يُخلِّص الهالكين ؟. الله لا يُهلك البتَّة، بل الأمر يتوقَّف على إختيار الإنسان الحُر. نهاية عمر الإنسان أرضيَّا ليست شرّاً في حد ذاتها، فهي النهاية الطبيعيَّة للإنسان الذي هو فانٍ بحسب الطبيعة لأنه من العدم قد جاء. لذلك نؤمن أن كُل من هو في يسوع و إن مات فسيحيا (يوحنَّا 11 : 25)، و لكن أراد الله أن يُقدِّم درساً عمليَّأ في كراهيته للخطيَّة، فعبَّر عن هذا من خلال إنهاء حياة بعض الأشرار و الأبرار على أن يكون الخيار النّهائي متروكاً لهم حينما يكرز يسوع في الهاوية للمأسورين بالعتق و للهالكين بالخلاص. هذا هو الله الذي رأيناه في تجسُّده يُحب الخُطاة و العشَّارين، لن يُهلك و [القَصَبةُ المَرضوضَةُ لن يَكسِرَها و الفَتيلةُ المُدَخِّنةُ لن يُطفِئَها حتى يَسيرَ بِالحَقِّ إِلى النَّصْر. و في اسمِه تَجعَلُ الأُمَمُ رجاءَها (متَّى 12 : 20-21)]. المجدُ لمن أعطانا الذي له حينما أخذ الذي لنا، المجد لمن قدّسنا بالمحبَّة الحرَّة المجَّانيَّة، المجد لمن أحيا و لم يُهلك، المجد للذي رفع نفوسنا من الهاوية و ثبّتنا فيه، المجد لك أيُّها الثَّالوث القُدُّوس إلى أبد الأبد آمين. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
النُبُّوَات فِي العَهْد القَدِيم تُشِير بِدِقَّة مُتَنَاهِيَة لِكُلَّ مَا فِي شَخْص رَبِّنَا يَسُوع |
اشد الجروح الما |
كم اهواك يا املا |
املا انت حياته |
تَفْسِير الإهْلاكَات في العَهْد القَدِيم |