رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القلب المطمئن المملوء بالسلام ا أعمق القلب الذي يعيش في سلام داخلي، يملك الهدوء عليه، وكل ضيقات العالم لا تزعجه. إنه يستمد سلامه من الداخل، وليس من الظروف المحيطة.. لذلك فإن الظروف الخارجية لا تزعزعه. حقًا، إنه ليس من صالح الإنسان أن يجعل سلامه يتوقف على سبب خارجي: إن اضطربت الأحوال يضطرب معها، وإن هدأت يهدأ. سبب خارجي يجعله يثور، وسبب يجعله يفرح، وسبب يبكيه، وسبب يبهجه.. مثل هذا يكون كما قال الشاعر: كريشه في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق الرجل القوى يجعل الظروف الخارجية تخضع لمشاعره، تخضع لقوة قلبه، لا أن تتحكَّم في انفعالاته. ولا يخضع هو لها.. إن حدث حادث معين، يتناوله في هدوء، يفحصه بفكر مستقر، ويبحث عن حل له. كل ذلك وهو متمالك لأعصابه، متحكم في انفعالاته. وبهذا ينتصر، ويكون أقوى من الأحداث، ويحتفظ بسلامه الداخلي.. وذلك لأن قلبه كان أكبر من الظروف وأقوى من الأحداث.. وما أصدق ذلك الكاتب الروحي الذي قال: إن قطعة من الطين يمكنها أن تعكر كوبًا من الماء، ولكنها لا تستطيع أن تعكر المحيط.. يأخذها المحيط، ويفرشها في أعماقه، ويقدم لك ماءً رائقًا.. لذلك أيها القارئ العزيز، كن واسع القلب. كن رحب الصدر. كن عميقًا في داخلك. قل لنفسك في ثقة: أنا لا يمكن أن أضعف، ولا يمكن أن تنهار معنوياتي أمام الأخبار المثيرة، أو أمام الضغطات الخارجية. مهما حدث، فسأحاول أنى لا أنفعل. وإن انفعلت، سأحاول أن أسيطر على انفعالاتي.. سأبتسم للضيقات، وسأكون بشوشًا أمام الضغطات.. وسأثبت -بقوة من الله- حتى تمر العاصفة. لا تفكر في الضيقة التي أصابتك، ولا في أضرارها ومتاعبها. بل فكر في إيجاد حل لها. إن كثرة التفكير في الضيقة هي التي تحطم الأعصاب وتتعب النفس أحيانًا يكون التفكير في الضيقة أشد إيلامًا للنفس من الضيقة ذاتها. إن التفكير في الضيقات هو الذي يجلب الأحزان والأمراض والهم والفكر. وهو لون من الانهيار ومن الخضوع تحت ثقل الضيقة. أما التفكير في إيجاد حل للضيقة، فهو الذي يعمل على سلام النفس وراحتها. ضع في نفسك أن كل ضيقة لها حل.. وكل ضيقة لها مدى زمني معين تنتهي فيه. فكر في حل لضيقتك، فإن وصلت إليه تستريح. وإن لم تصل، ثق بروح الإيمان أن لدى الله لهذه الضيقة حلول كثيرة، وأنه -تبارك اسمه- قادر أن يعينك وأن يحل جميع إشكالاتك. وتذكر ضيقات سابقة قد حلها الله، ومرت بسلام. واحذر من أن يوقعك الشيطان في اليأس، أو أن يصور لك الأمر معقدًا لا حل له.. فإن الإنسان المؤمن لا ييأس. المؤمن يعرف أن الله موجود، وانه إله رحيم، ورحمته غير محدودة، وهو ضابط الكل، والعالم كله في قبضة يديه.. وأن الله يدبر كل شيء حسنًا، ولا بد أنه سيتدخل ويعمل عملًا.. لذلك فإن المؤمن يستريح في أعماقه، ويلقى على الرب كل همه، ويستودعه جميع إشكالاته.. أما الذي يستسلم لليأس، فإنه يضيع نفسه. وقد يتصرف في يأسه أي تصرف خاطئ يكون أكثر ضرارًا من المشكلة القائمة نفسها. مثال ذلك الذي ييأس من مشاكل الحياة فينتحر.. أو مثال تلك الفتاة التي تخطئ، وتيأس من إيجاد حل لمشكلتها، فتستسلم للخطيئة وتضيع.. إن القلب القوى لا يستسلم للضيقات، والقلب الأقوى لا يشعر بالضيقة، لأنها لم تضايقه. وأتذكر أنني قلت في إحدى المرات: إن الضيقة قد سميت ضيقة لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها. ولو كان القلب متسعًا، ما شعر أنها ضيقة. لو كان متسعًا، ما تضايق منها.. الضيق إذن في قلوبنا، وليس في العوامل الخارجية.. وإن تعكرنا نحن، تبدو أمامنا كل الأمور متعكرة وإن تعبنا في الداخل، تبدو أمامنا كل الأمور متعبة.. أليس حقًا أن أمرًا من الأمور قد يضايق إنسانًا ما، وفي نفس الوقت لا يتضايق منه إنسان آخر، هو نفس الأمر.. ليس المهم إذن في نوع الأحداث التي تحدث لنا، بل المهم بالأكثر هو الطريقة التي نتقبل بها الأحداث ونتصرف معها. الإنسان القوى الذي يصمد أمام الإشكالات، يزداد قوة. والإنسان الضعيف الذي ينهار أمامها، يزداد ضعفًا. فالإشكالات، فالإشكالات هي نفس الإشكالات.. ولكنها تقوى شخصًا وتزيده صلابة ومراسًا وحنكة، وتضعف شخصًا أخر، وتزيده انهيارًا وخورًا وحزنًا. لذلك كونوا أقوياء من الداخل، وخذوا من الضيقات ما فيها من بركة، وليس ما فيها من ألم.. لقد سمح الله بالضيقات من أجل فائدتنا ونفعنا. وفي ذلك قال القديس يعقوب الرسول: "احسبوه كل فرح يا أخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة". إن المؤمن يشعر أن الله قد سمح له بالضيقة من أجل نفعه، لذلك يفرح بالضيقة. وبهذا يقدم لنا الكتاب درجة روحية أعلى من احتمال الضيقات، وهى الفرح بالضيقات.. إن المسألة تحتاج إلى إيمان. لأنك ربما ترى الضيقة فقط ولا ترى الخير الإلهي الكامن فيها.. إن هذا الخير لا تراه بالعين المادية، ولكنك تراه بالأيمان، بثقتك في عمل الله المحب وحسن رعايته.. مثال ذلك يوسف الصديق: أحاطت به التجارب والضيقات حتى اتهم اتهامات باطلة وألقى في السجن. ولكن السجن كان طريقة إلى الملك إن أهل العالم قد تزعجهم التجارب، أما الإنسان المؤمن فهو ليس كذلك. إن المتاعب قد تحيط به من الخارج، ولكنها لا تدخل مطلقًا إلى داخل نفسه.. إنه كالسفينة الكبيرة التي تمخر عباب المحيط، تضطرب الأمواج حولها، وهى سائرة في رصانة نحو هدفها، طالما أن المياه ما تزال خارجها.. مسكينة تلك السفينة، إن وُجِدَ ثقب في نفسيتها، واستطاعت المياه أن تنفذ إلى داخلها..!! احذروا أيها الأحباء من أن تدخل المياه إلى أنفسكم. واعلموا في كل ضيقة أن التجارب التي يسمح بها الله، لها شروط منها: 1- أنها على قدر احتمالكم، 2- وأيضا كل تجربة معها المنفذ 3- وإنها لابد تؤول إلى نفعكم، إن أحسنتم استخدامها. إن الله في محبته للبشر، لا يسمح أن تحل تجربة بإنسان يكون احتمالها أكثر من طاقته. كل التجارب التي يسمح بها الله هي في حدود احتمالنا. والتجارب القوية، لا يسمح بها الله إلا للناس الأقوياء الذين يحتملونها.. ما أجمل قول الكتاب: "ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوها" (1 كو 10: 13). 4- والتجارب هي مدرسة للصلاة.. إنها تدرب الإنسان كيف يحنى ركبتيه أمام الله، وكيف يرفع قلبه قبل أن يرفع يديه، طالبًا العون من الله، الذي هو معين من لا معين له ورجاء من لا رجاء له عزاء صغيري القلوب، وميناء الذين في العاصف.. من كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|