رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
شمشون ومأساته انتهى الرجل الضحوك إلى المأساة الغارقة، ولا أعلم كم بكى، أو كم حزن على ما فقد، ولكني أعلم أنه فقد الكثير: فقد الرب وهي أكبر كارثة ألمت به، وأقسى ما فيها أنه لم يعلم أن الرب فارقه!!.. لقد كان الشعر هو الرابط الدائم الذي يربطه بإلهه، ومد يده إلى رأسه الزلحاء، ولم يجد شعرة واحدة هناك،.. لقد حملت دليلة الشعر في حجرها وهكذا ضاعت معاهدته مع الله، وجاء نقض المعاهدة من جانبه، وهيهات أن يأتي من جانب الله،.. وفقد بمفارقة الرب كل شيء، وانتفض وهو يظن أنه ينتفض بعضلات الأمس القوية، ولكن شمشون ضاع، لأنه أضاع شركته مع الله!!.. وليس هناك ما يعدل في الحياة ضياع إنسان يسير بغير الله في العالم!!.. ألم يصح قايين: "إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض؟!!.. وألم يقل موسى: “إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا فإنه بماذا يعلم أني وجدت نعمة في عينيك أنا وشعبك أليس بمسيرك معنا نمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب الذين على وجه الأرض”؟!.. وألم يصرخ داود: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"؟!!.. عندما يفقد الإنسان ربه سيصيح صيحة شاول بن قيس اليائسة: "وقد ضاق بي الأمر جداً، الفلسطينيون يحاربونني والرب فارقني ولم يعد يجيبني لا بالأنبياء ولا بالأحلام، فدعوتك لكي تعلمني ماذا أصنع فقال صموئيل ولماذا تسألني والرب قد فارقك وصار عدوك"؟!!.. فقد القوة كانت قوة شمشون محفوفة بالخطر على الدوام، لست أعلم لماذا زمجر شبل الأسد في وجهه عند اللقاء في كروم تمنة، وماذا فهم شمشون من هذه الزمجرة، هل أراد كلاهما -وهما في أول طريق الحياة- أن يختبرا كل قوته، وها هي الفرصة الأولى أمام شبل الأسد ليعلم ماذا تستطيع عضلاته الفولاذية أن تعمل، ومن الواضح أنه بهذه الزمجرة كان هو الباديء في الهجوم، أو كما صوره أحدهم كما لو أنه يقول لشمشون: أفسح الطريق، فهو طريقي، ولا يمكن أن تمر فيه إلا فوق جثتي، وقال شمشون للأسد:.. لا.. إن الطريق طريقي أنا، وأنت المعترض بدون وجه حق، وسأجعل منك لغزاً يروى، وقصة، وأحجية تمتحن بها أذهان الناس،.. كان اللقاء الرهيب بين الاثنين بمثابة الامتحان الحقيقي لكليهما من أول الطريق، وحل روح الرب على شمشون فشقه شق جدي وليس معه شيء!!.. على أننا نستطيع أن نفسر الزمجرة بصورة أخرى: هل كان شبل الأسد وكأنما يتحدث إلى شمشون أن ورطة الطريق التي ينهجها من أول خطى حياته كقائد لأمة، كان شمشون في كامل نشوته بين كروم تمنة، وهو ذاهب ليخطب لنفسه فتاة فلسطينية، وكان يسير في الطليعة، وخلفه أبوه وأمه على مساندة بعيدة إلى الوراء، وكانت مهمة خطبة الفتاة ثقيلة على الأبوين لاختلاف الدين، والمذاهب، والمشارب، ولكنهما إزاء إلحاح ابنهما سارا وراءه، فزمجر شبل الأسد، وكأنما يريد أن ينبه شمشون إلى وعورة الطريق، وخطورته،.. علي أي حال لم يفهم شمشون شيئاً من هذا، وقامت المعركة، واندفع في الطريق الموروط، ليلتقي بعد عشرين عاماً مع الأسد غير المنظور الذي فتك به، ولم يجعله إنساناً عادياً فحسب، بل سخرية الناس في كل جيل وعصر،.. وخسر شمشون شهرته التقليدية كبطل العصور كلها في القوة البدنية، على أي حال إنه من الواضح دائماً أن الخطية قتلاها أقوياء، وهي النزيف المستمر لقوة الإنسان في الأرض مهما كان لون هذه القوة في البدن أو الذهن، أو العاطفة، أو الإرادة، وسيتبين الإنسان عندما ينتفض، أن قوته ضاعت دون أن يعلم!!. فقد البصر قلع الفلسطينيون عينيه. وما من شك بأنه صرخ صراخاً مراً، وهم يقلعون العينين، وفي الحقيقة لو أن هاتين العينيين قلعتا من البداءة لما حدث معه ما حدث،.. إن هناك علاقة بين البصر والبصيرة في الإنسان، فإذا انفتح البصر على منظر شهوة ملوثة، أغلقت البصيرة، والعكس صحيح، إذ عندما تفتح البصرية يغض المرء طرفه خشية وخوفاً وفزعاً،.. لم يدرك شمشون هذه الحقيقة، ففتحت عيناه على المحرمات، وكان لابد لهاتين العينين أن تنتهيا إلى ما وصلت إليه، وهو يدور في الظلام، يطلب من الغلام الذي يجره أن يدله على موضع العمودين في معبد الفلسطينيين الذي سيق له ليلعب هناك، إمعاناً في الإيذاء والإذلال، -والخطية دائاً تقلع عيني صاحبها، وتقتل الرؤية الصحيحة لأنها تغشى البصيرة،.. ومن ثم فإن أول علاقات التجديد هي أن يقول الإنسان: "كنت أعمى والآن أبصر".. "لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين".. كانت مأساة شمشون أنه فقد البصيرة من الابتداء، ففقد البصر في النهاية!!.. فقد الحرية ربط بسلاسل نحاس، وقادوه إلى بيت السجن، وهناك سجن، ومن الغريب أنه لم يكن يعلم أن هذه السلاسل من النحاس، بدأت أول الأمر من حرير، وأنها كانت تلتف حول جسده يوماً بعد يوم وهو لا يعلم، كان يهزأ بكل سلاسل، أليس هو الرجل الذي يستطيع -وقد قيد بالحبال الطرية أو الأوتار القوية- أن يحطمها كما لو كانت خيوطاً ناعمة شمتها النار، إنه لم يعرف ما قاله إشعياء، فيما بعد، ويل للجاذبين الإثم بحبال البطل، والخطية كأنه يربط العجلة- سمح الشاب للحية الرقطاء أن تلتف حوله، وهو يعتقد أنه يستطيع أن ينتصر عليها، ولم يدر أنها ستضغط عليه لتحطمه تحطيماً،.. كان شمشون القوي حراً يذهب كيفما يشاء ومتى يشاء، لكنه انتهى إلى الإنسان الأسير مقلوع العينين في سجن غزة!!.. وكان في هذه الحالة جداً بعيداً لأولئك الذين قالوا للمسيح: "إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحراراً، أجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد أما الابن فيبقى إلى الأبد، فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً".. كان الاسكندر سيد العالم وعبد الخمر، وانتصر نلسون في ووترلو وكان عبد الشهوة الآثمة،.. وكم يعيش أبطال العالم من كل لون، داخل سجن غزة مع شمشون البطل، وهم يعلمون أو لا يعلمون!!.. فقد المركز إذ هوى من المجد إلى الحضيض، من قائد الأمة إلى الطحن في السجن، إلى أحط عمل، وكان عقوبة المجرمين أو العبيد، أو العمل الذي يترك للإماء الأجيرات، وأي هوان أشد من هذا الهوان؟! وأي عار أقسى من هذا العار؟!.. ولكنها القصة الدائمة للخطية، والتي بدأها الشيطان بنفسه، إذ هوى من مركزه التليد عندما ترك رياسته، وأراد أن يأخذ مكاناً آخر، مكان الله في كبرياء قلبه،.. وهناك المفسرون الذين يبدأون به، وهم يرونه في شخص ملك بابل الذي تعالى وارتفع، في نبوة إشعياء، وسواء كان إشعياء يقصد الشيطان نفسه أو يقصد ملك بابل، أو يقصد أي إنسان آخر، تسقطه الخطية من مركزه المنيع، وهو يقول: "كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم".. فمما لا شك فيه أن الخطية أسقطت شمشون كالزهرة من السماء، من مركزه العظيم التليد لينتهي به المطاف إلى عمل طحان في سجن غزة!!.. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
نوم شمشون |
موت شمشون |
شمشون |
شمشون |
تارح ومأساته |