رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
شاول والمصير المفجع سار شاول في هذا المنحدر الرهيب حتى انتهى إلى ليلة القاسي الطويل، وعندما ذهب إلى العرافة كان الليل قد لفه من كل جانب، وقد يسأل البعض: متى ابتدأ هذا الليل!!.. لقد ابتدأ من اللحظة التي فارقه فيها روح الرب، وباغته روح رديء ولعل الحكيم القديم كان أدق متحدث عن هذه الحقيقة وهو يقول: "أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام لا يعلمون ما يعثرون به".. كان ليل شاول.. ليل الحيرة وهل هناك حيرة أبلغ من كلمة الوحي التي جاءت في سفر أخبار الأيام الأول: "فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه، وأيضاً لأجل طلبه إلى الجان للسؤال ولم يسأل من الرب فأماته وحول المملكة إلى داود بن يسى" وقد ذكر سر وليم بارت: إن جميع الأنبياء العبرانيين من موسى إلى إشعياء اتحدوا في تحذير الشعب من أية محاولات لاستطلاع المستقبل... فإن العقود على هذا الاتجاه يميل بهم إلى إبهام الفكر الإلهي، وإضعاف الإيمان، والعبادة اللائقة للكائن الواحد القادر على كل شيء، والذي كان على هذه الأمة أن تكشفه للناس"... وأنه لمصير مفجع أن ينتهى قائد الأمة للبحث عن البخت" عن طريق الجان، ومن المؤسف أنه ما يزال إلى اليوم من يتمشون وراء شاول في ليلهم الطويل بالبحث عن "المصير" و"البخت" عن طريق "السحر" و"الرمل" و"الودع" و"النجوم" و"الكوتشينة" و"الفنجان" وقراءة "الكف" و"التنويم المغناطيسي" وما أشبه "ومن الغريب أنه في قمة الحضارة العلمية، وما يزال الكثيرون إلى اليوم يقرأون في الصحف باب "حظك اليوم" أو ما تتحدث به "الأبراج" إلى المولودين في هذا الشهر أو ذاك، ولو عقل الإنسان لأدرك كذب الحديث وضلاله من مجرد حظ التوائم الذين يولدون في يوم واحد، ومع ذلك تختلف حظوظهم كاختلاف حظ عيسو ويعقوب، أو زارح وفارص!!... ولو عقل الإنسان لأدرك أيضاً ما قاله موسى: "السرائر للرب إلهنا والمعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة" وما أكده إشعياء: "إلى الشريعة وإلى الشهادة إن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر"... ولا فجر هناك إلا بالتماس مشورة الله، وكلمته الصالحة، وإرشاده الإلهي في الضمير المدرب، والرسالة الواضحة من المنبر، أو الاختبار، أو نصيحة المؤمنين القديسين وقد رفض شاول نصيحة صموئيل حياً، وبحث -للأسف- عن هذه النصيحة ميتاً،.. وكان هذا منتهى ما وصل إليه الرجل من حيرة وضلال!!.. ليل الدم وقد طلب الدم من كل جانب، إذ تحول وحشاً، وليس أبلغ من سعيه وراء داود لإراقة دمه والقضاء عليه، وليس هناك أدق أو أعمق من اعترافه مرتين بحقيقة الضياع النفسي الذي وصل إليه: "فلما فرغ داود من التكلم بهذا الكلام إلى شاول قال شاول أهذا صوتك يا ابني داود ورفع شاول صوته وبكى ثم قال لداود أنت أبر مني لأنك جازيتني خيراً وأنا جزيتك شراً وقد أظهرت اليوم أنك عملت بي خيراً لأن الرب قد دفعني بيدك ولم تقتلني فإذا وجد رجل عدوه فهل يطلقه في طريق خير فالرب يجازيك خيراً عما فعلته لي اليوم هذا والآن فإني علمت أنك تكون ملكاً وتثبت بيدك مملكة إسرائيل فأحلف لي الآن بالرب أنك لا تقطع نسلي من بعدي ولا تبيد اسمي من بيت أبي فحلف داود لشاول ثم ذهب شاول إلى بيته وأما داود ورجاله فصعدوا إلى الحصن"... وفي المرة الثانية: "فقال شاول قد أخطأت ارجع يا ابني داود لأني لا أسيء إليك بعد من أجل أن نفسي كانت كريمة في عينيك اليوم. هوذا قد حمقت وضللت كثيراً جداً: فأجاب داود وقال هوذا رمح الملك فليعبر واحد من الغلمان ويأخذه والرب يرد على كل واحد برده وأمانته لأنه قد دفعك الرب اليوم ليدي ولم أشأ أن أمد يدي إلى مسيح الرب، وهوذا كما كانت نفسك عظيمة اليوم في عيني كذلك لتعظم نفسي في عيني الرب فينقذني من كل ضيق فقال شاول لداود مبارك أنت يا ابني داود فإنك تفعل وتقدر. ثم ذهب داود في طريقه ورجع شاول إلى مكانه"... فإذا أضفنا إلى هذا كله واقعة البطش بكهنة الرب، والتي رفض عبيده القيام بها، وقام بها دواغ الأدرمي والذي قتل في يوم واحد خمسة وثمانين رجل البسي أفود الكتاب وضرب مدينة نوب مدينة الكهنة بحد السيف الرجال والنساء والأطفال والرضعان والثيران والحمير والغنم، على أسلوب وحشي رهيب... وكان من المستحيل على شاول أن يغسل يديه من هذا الدم البريء، بل وسيبقى ملطخاً يديه، حتى ولو تعطرت اليدان بكل عطور الدنيا... ولكنه ليل الوحشية والدم الذي وصل إليه!!.. ليل الضياع وقد انتظره هذا الليل فوق جبال جلبوع، ولم يذهب وحده، بل ذهب أبناؤه الثلاثة معه، وسقط يوناثان النبيل، والظبي الحلو، على الجبال الشامخة، وذهب مع إخوته ضحية هذا الأب، الذي ضيع ابنه، ومملكته، وتاريخه الأول،... وإذا كان لنا أن نغني مع داود نشيد القوس، نشيد الرجل الباكي على عوده، نشيد الإنسان الذي يعلم بأن الطريق قد فتح أمامه للملك، ولكنه مع ذلك لم يشمت أو يهلل بل مزق ثيابه في أروع سمو نفسي، وفي أقوى عاطفة باكية، لأنه لا يمكن أن ينسى أن مصرع شاول ستفرح به على أي حال بنات الغلف، وأعداؤه الذين قطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وأرسلوا إلى أرض الفلسطينيين لأجل التبشير في بيت أصنامهم وفي الشعب.. قال صموئيل لشاول: "وغداً أنت وبنوك تكونون معي" وهو يقصد بذلك موته، ولست أتصور هنا أنه يتحدث عن مكانه الأبدي مع صموئيل في السماء، فإن الرجلين قد افترقا في الأرض، وسار كل منهما في طريق تختلف تماماً عن الآخر، وتنتهي إلى مصير لا يتلاقى، فإذا كان لنا أن نطوب صموئيل في مجده الأبدي، فمن حقنا أن نبكي شاول بنفس الدموع التي بكى بها الأعظم: "وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها"... والذي قال: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن، لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها طوبى للعواقر البطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع حينئذ يبتدئون يقولون للجبال أسقطي علينا وللآكام غطينا لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس"... |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|