رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تعريف الصلاة الصلاة هي لقاء بين الله والانسان، مقابلة واتصال بينهما، يبحث فيها الانسان عن الله ليجده ويتحد به، أو بالأحرى يبحث فيها الله عن الانسان ليجده فيتحد به. الصلاة اذا هي لقاء بين المسيح والمسيحي، المسيح الذي يحبني حبا شخصيا، يحبني كما أنا وينظر اليّ بحُب. عليّ أن أشعر خلال الصلاة، بنظرة المسيح الذي يحبني شخصيا. ("لو كنت تعرفين عطيّة الله" (يو 4/ 10) إن أعجوبة الصلاة تتكشّف هنا، على جانب البئر حيث نأتي لنلتمس ماءنا: هناك يأتي المسيح إلى لقاء كل كائن بشري. يسوع عطشان، وطلبه صادر من أعماق الله الذي يريدنا. والصلاة هي إاتقاء ظمأِ الله وظمئنا. فالله ظامئ إلى أن نكون ظامئين إليه.) كثرة الصلاة ... هل من داع؟ نقرأ في متى 6/ 25-34، نص العناية الإلهية، هذه الأية: "انظروا الى طيور السماء، كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء وأبوكم السماوي يرزقها". هل علينا اذا أن نتكاسل ونتواكل بحجة أن الله يقوتنا بدون أن نعمل ونتعب؟ هل يمكن أن نختار بين أمرين: إما أن نصلّي وبالتالي لا نعمل، أو نعمل وبالتالي لا نصلّي بحجة أننا لا نملك الوقت الكافي للأمرين معا؟ السؤال الذي أحاول الإجابة عنه هو: كيف تكون حياتنا صلاة وصلاتنا حياة؟ كثيرا ما نختبر في رياضة روحية جو الصمت والهدوء الذي يساعد على تقوية الصلة بالله. في هذه الأماكن المعدّة للخلوة غالبا ما يتوفر لنا التأمل لساعات طوال ولكن بمجرد الإنتهاء من الرياضة والعودة الى "دوامة الحياة" نختبر أنّ الضوضاء وضيق الوقت عاملان قد يمنعانا من اكمال ما اختبرناه في الخلوة الروحية فنبتعد عن النبع الحقيقي. يواجه المسيحيُّون إذا صعوبات في الصلاة فيستصعبون التوفيق بين حياتهم اليومية العادية وحياتهم الروحية، بين عملهم وصلاتهم فأغلب الذين يجتهدون في المواظبة على الصلاة يعتبرون الأعمال وكثرة الإنشغالات أكبر معوق للصلاة، ذلك لانهم لا يجدون الوقت الكافي للصلاة والتامل! كيف نجد بشكل عملي إجابة لهذا الواقع؟ عندما يتكلم يسوع عن العناية الإلهية، ممثلا ذلك بطيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ومع ذلك تقتات، فإنه لا يحكم ابدا على العمل البشري أو يدينه. وكذلك فهو لا يدين من يعمل لغده (الجمع في الأهراء) بحثا عن الضمان للمستقبل. إنه يتكلم عن القلق المبالغ فيه نتيجة هذا العمل وما يتبع ذلك من انشغالات تحول دون الإهتمام بملكوت الله الذي يتحدّث عنه. فينبغي على الإنسان في ممارسته لعمله- وهذا أساسي- أن يضع كامل ثقته بالله فيما يختص بنتيجة عمله. إن مِثال عصافير السماء ليس دعوة للكسل والتواكل إنما تأكيد على الإهتمام بالعمل اليومي. بعبارة أخرى إن عصافير السماء تعمل جيدا والله، نتيجة لعملها، يكافئها. فإن كان الله يكافئ طيور السماء أفلا يكافئ بالأحرى الإنسان؟ لا يدعو يسوع الى اللامبالاة بل إلى الإتكال المعبَّر عنه في الصلاة الى الله الأب السماوي الذي يحرر من القلق. هنا يختبر الإنسان محدوديته فهو يستطيع أن يزرع ولكن الله هو الذي ينمي. إن الإنسان في خضّم إيقاع حياته السريع قد ينسى شيئا أساسيا، إن عجيبة العجائب التي ينساها هي نعمة الحياة الموهوبة له من الله الخالق. فهذا النص إذا يذكّر بعظمة الخالق الذي يعتني لا فقط بزنابق الحقل البرّية الرائعة الجمال بل بسيد المخلوقات الإنسان الأعظم والأجمل والأقرب الى الله من الطبيعة. إن واهب الحياة هنا يجدد الثقة بالانسان ويذكِّره بقربه منه داعيا إياه الى إنماء تلك العلاقة بينه وبين صورته لا عن طريق اهتمامه الشرعي بعمله بل بإعطاء الله الخالق نزهة من الوقت تسمح بنمو ما هو أساسي في كل علاقة وأعني الحوار. يشير يسوع هنا الى ثلاثة أمور يعرف مسبقا كم هي تشغل بال الانسان وتقلقه: المأكل والمشرب والملبس. إنه لا ينكر ما لها من أهمية ولكنه لا يعطيها كل الأهمية. إنها وسائل بشرية في خدمة هدف أسمى: العلاقة مع الله وهذه هدف. على الإنسان ألاّ يجعل من الوسيلة هدفاً في مسيرة حياته فتلك الحياة وُهبت من الخالق الذي يهدف الإنسان الى الإتحاد به من خلال صلاته. فإن كانت الصلاة صلة فعلى الإنسان ان ينميها وإلاّ فهو يحوّل الوسيلة الى غاية وهو في ذلك قليل الإيمان وناكر للجميل. فغاية الوثنيين، وهم لا رجاء لهم لأنهم لا يؤمنون بإله الحياة، هي المأكل والمشرب والملبس. يشير يسوع الى الله الخالق كأب داعيا الانسان أن يجّد في السعى اليه وهنا دور التمييز بين ما هو أساسي وما هو ثانوي. علينا اذا لا أن نتكاسل في أمور مأكلنا ومشربنا وملبسنا بل أن نعمل، ولكن علينا ايضا أن نجتهد دون كلل ولا ملل في معرفة وشكر واهب المأكل والملبس والمشرب وهذا هو اندفاع التلميذ الذي يسعى نحو الملكوت الذي سيأتي والموجود هنا والأن. فإن كان للتلميذ أن يقلق – إن جاز التعبير– فلماذا يقلق فقط لأموره الحياتية ولا يقلق من أجل الملكوت؟ يقول القديس اغسطسنوس "خلقتنا يا اْلله وقلبنا لن يرتاح إلا بلقياك" فالقلب قلق وغير مرتاح لأنه بعيد عن الخالق، خالق الإنسان الذي هو أهم من زنابق الحقل وطيور السماء. فالإنسان، صورة الله، لا يرتاح في ابتعاده عن أصله. لا تناقض اذا بين الصلاة والعمل ولا أن تلغي الواحدة الأخرى. علينا أن نتعلم كيف تطبع صلاتنا عملَنا وكيف يستمد عملُنا قوته من الصلاة، تلك هي الصلاة الحقيقية. إنّ الصلاة الحقيقية،كما يشير إلى ذلك هنري كافاريل ، توجّه المسيحي ،حتما وبدون أي جدل، إلى العمل. ولا يترك لنا مَثَلُ القديسين، مجالا للشك في ذلك. فكم من الرجال والنساء من كبار المُصلّين، كانوا أيضا عباقرة في العمل! ومهما كانت مواهبهم الطبيعية ثريّة، فلا شك أن عملهم، كان يستمدّ من الصلاة ديناميّته وفعاليته. فالقديس بولس هو الأنموذج الأفضل فقد كان، بحسب شهادة أعمال الرسل والرسائل، رجل صلاة ممتاز. إن الصلاة الحقيقية هي نتيجة تمرين طويل مُتطَلّب ومُكلّف ينتج عنه حتما في بعض الأحيان صراعا. إن الصلاة الحقيقية تولد من المسيرة الروحية التي لا تخلو من الجهاد والإستعداد لأن يبدأ الإنسان دائما من جديد تاركا أفكارا قد يكون كوّنها سابقا ولا تناسبه انطلاقا مما هو عليه الان. لنرَ مثلا من أباء البرية: "زار أخ الأب سلوان في جبل سيناء. فلما رأى الإخوة يعملون، قال للشيخ: لا تعملوا للطعام البائد لأن مريم قد اختارت النصيب الصالح (يوحنا 6/27، لوقا 10/ 42). فقال الشيخ لتلميذه: زخريا، اعطِ الأخ كتابا وأوصله الى قلاية فارغة. فلما كانت الساعة التاسعة، كان ذاك ينتبه الى الباب علّهم يرسلون من يدعوه الى الطعام. لكن خاب أمله في الإنتظار إذ لم يأت أحد لدعوته. فنهض وجاء إلى الشيخ وقال له: ألم يأكل الإخوة يا أبت؟ قال له الشيخ: نعم. فقال الأخ: ولماذا لم تدعُني إلى تناول الطعام؟ أجابه: لأنك إنسان روحي ولا تحتاج إلى طعام . أما نحن فإننا بشر ونحتاج إليه، لهذا نعمل. اخترت النصيب الصالح لأنك تقرأ طوال النهار، ولا تريد ان تأكل طعاماً بشرياً (جسدياً). فلما سمع هذا، سجد له وقال: سامحني يا أبت. فقال له الشيخ: في كل الأحوال، تحتاج مريم إلى مرثا، لأن مريم تُمتدح، بسبب مرثا." نلمح في هذا القول أن لدى هذا الأخ فكرة واحدة وحيدة عقد عليها العزم وهي التكرس للصلاة، وهو متشبث بهذه الفكرة ولا يرى غيرها وسيلة للإتحاد بالرب. كما أن والشيخ لا يوبخه بادئ ذي بدء بل يفهمه شيئا فشيئا أن العمل يقود الى الصلاة كما تقود الصلاة الى العمل، وهذه هي خلاصة تعليمه، فمريم بحاجة الى مرتا كما تحتاج مرتا الى مريم. إن على هذا الأخ المبتدئ أن يفهم ماهية الصلاة فهي في آنٍِ واحد، مبدأ عمله والدافع إليه كما أنها مصدر المزايا الفريدة التي تحلّى بها هذا العمل. عليه أيضا أن يعود بفكره الى المعلّم الحقيقي أَوَ ليس يسوع المسيح هو المِثال بذاته على ذلك؟ يُذهلنا ذلك الإنتقال المتتابع، خلال حياة يسوع العامة، من الصلاة إلى العمل ومن العمل إلى الصلاة فالعلاقة وثيقة بين الإثنين. إنه يصعُب علينا أن نتحد بالله في الصلاة لو لم يكن يسوع المسيح قد صلى وعلمنا كيف نصلي. كان يسوع يصلي في أوقات كثيرة. فقبل أن يبدأ التبشير بملكوت الله، مضى به الروح إلى البرية للصلاة والصوم . وقبل أن يختار رسله، ذهب إلى الجبل ليصلي ، وهكذا أيضا قبل أن يختبر إيمانهم في العاصفة صعد الى الجبل ليصلي في العزلة ، وقبل أن يطلب إليهم الاعتراف والشهادة بألوهيته، كان يصلي في عزلة . ,كان يصلي أيضا قبل معجزاته ليمجِّد الله ويحمده. ونراه بعد أن شفى مقعدا وردَاً على الإنتقادات الموجّهة له قال: "إن أبي ما زال يعمل، وأنا أعمل معه" (يوحنا 5/17). هكذا، كانت صلاة يسوع المسيح مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياته، تنبع منها ومن حوادثها، من مقابلاته وعلاقاته الإنسانية. لا صلاة اذا منفصلة عن العالم والدنيا؛ فكل صلاة تنبع وتنطلق من صميم واقع الحياة. قد يكون العمل من أكبر معوقات الصلاة ولكن لا بسبب كثرة العمل وضيق الوقت إنما بسبب نوعية العمل وما يتسّم به من عَجَلة وتوتر وضوضاء سعياً وراء نتائج ملموسة وسريعة. يتناقض هذا الجو من التوتر مع هدوء الصلاة اللازم للبحث عن الذات واللقاء مع الله ولذلك قد يعتبر المؤمن الملتزم أنه يفقد في أثناء عمله الطاقة التي نالها في صلاته، وكأنه بهذا يشبِّه حياة الإنسان بالدلو الذي يمتلي بماء الطاقة والنعمة في أثناء الصلاة ويفرَغ من طاقته في أثناء العمل، فيجد المرء نفسه فارغا مرهقا بعد يوم عمل شاق ولابد أن يملأ حياته مرة ثانية بوساطة الصلاة. لا عجب اذا اعتبار العمل – إن رأيناه بهذه الصورة – عاملا مُهدّدا للحياة الروحية، وكأنّ العمل وحياة الصلاة قطبان متناقضان وحقيقة الأمر أنهما يتناديان ويتجاوبان. العمل هو مساهمة في عمل الله نرى أن التهديد الحقيقي لجو الصلاة في حياة الإنسان لا ينشأ بسبب كثرة العمل أو قساوته بل بسبب أسلوب العمل الذي يتّسم بالطمع والكبرياء. خُلِق الإنسان على صورة الله، وعليه أن يُكمِل عملية الخلق. فدعوة الانسان الحقيقية هي أن يحقق ذاته من خلال استثمار عمله في العالم، وهكذا يمجّد الخالق بمساهمته في عمل الله الخلاق (راجع تكوين 1 و2 ومزمور 8). في إطار هذه الرؤية الإيمانية لا يُعتبر العمل خطراً على علاقة الانسان بالله، بل بالعكس يُعتبر العمل وسيلة مميّزة ومفضّلة لاتحاد الانسان بالله الخالق. ومع ذلك المشكلة قائمة: ضيق الوقت! أيحق لنا القول: طوبى للرهبان اذاً لأنهم يجدون الله في هدوء أديرتهم أو في الصحراء بعيداً عن ضجيج الدنيا والويل للعلماني المضطر لأن يكافح في سبيل لقمة العيش في وسط الدنيا منقسما بين الصلاة والعمل، بين اشتياقه الى صفاء الحياة الروحية وإحباطه بسبب انشغالاته الدنيوية؟ هل الله إله الصحراء فقط لا إله المدينة؟ أهو إله الهدوء والصمت فحسب لا إله العمل والمعاملات؟ أيستطيع الإنسان أن يتقدس من خلال العمل في سبيل مجتمع أكثر إنسانية؟ أم أنّ السبيل الوحيد إلى القداسة هو حياة التجرد في الصحراء؟ نقول لا وألف لا، إن الله يدعو الإنسان إلى العمل المستمر مع المسيح، المسيح الذي أجاب اليهود الذين لاموه لأنه يشفي المرضى في يوم السبت قال: "أبي يعمل في كل حين وأنا أعمل مثله" (يو 5/ 16-17) كيف نجمع إذاً بين الصلاة والعمل‘أو كيف نشاهد الله في العمل؟ كيف يتحول العمل إلى وسيلة للإتحاد بالله؟ نظرة جديدة إلى العمل هناك طريقة عملية تساعد على أن يصير العمل نفسه وسيلةً للتقدم الروحي والسلام الداخلي، وهي عدم الاهتمام بنتيجة العمل في أثناء تنفيذه، فبقدر ما تنشغل بالعواقب يزداد احتمال فشل العمل! فالانشغال الزائد بنتيجة العمل هو إحدى أسباب التوتر والقلق الذي نعاني منه. أنا لا أطالب بعدم الاهتمام بنتائج العمل ولكن علينا ألاّ نبالغ في هذا الاهتمام إلى حد قد يؤثر ذلك نفسه على نتيجة العمل. المسيحي يعتبر ان ثمرة أعماله في يد الرب، وما عليه إلاّ القيام بما هو مطلوب منه في هذه اللحظة من جِدٍّ وكد وهو بهذا يضع عمله بين يدي الرب بكل ثقة. بعبارة أخرى إن قصد الله في حياتي هو أن أنغمس فيها ولكن بدون أن أغرق، فلاأتساءل قط عن النتيجة المحتملة لعمل ما، ولكن أسأل سؤالا أهم: ماذا يجب علي عمله في هذه اللحظة؟ الصلاة ليست تفريغا للقلب من المشاكل والمصاعب والهموم، ولا من الأفراح والأمال والمشاريع، ولا من العلاقات البشرية من محبة ولا مبالة وكراهية، ولا من الأعمال اليومية والأنشطة ... على نقيض هذا، نحن نصلي كما نحن، وبما نحن فيه. هكذا يريدنا الله في الصلاة، يريدنا ويحبنا كما نحن في الحياة. فالحياة التي نحياها هي مادة صلاتنا. وهناك من قد يقع في خداع روحي في حياة الصلاة عندما تصبح صلاته هروبا من واقع الحياة ومشاكل العمل وكأن الصلاة تخص ما هو روحي وتنفصل عمّا هو حياتي، في حين أن الصلاة تنبع من العمل وترافقه من دون أن تفارق الواقع وتنفصل عن الحياة. نستطيع أن نستخلص أن هناك دائرة للصلاة والعمل. ثمة تضافر وتفاعل وتكامل بينهما. ثمة وِفَاق وتلاحم وانسجام بينهما. هما وجهان لخدمة واحدة، فقيمة العمل لا تعلو شأنا عن قيمة الصلاة، ولا هذه عن تلك. فتمتد الصلاة الى العمل، ويمتد العمل إلى صلاة. داخل هذه الدائرة تصبح الصلاة عملا ويصبح العمل صلاة. لا داعٍ لكثرة الصلاة كما في الرياضات الروحية التي لا تهدف أن يبقى المتروّض في الجو نفسه وسط دوامة الحياة. وعليه فإن أردنا أن نتبنى العنوان "المستغرَب" الذي أعطيته للمحاضرة والذي يستفزنا للوهلة الأولى، نوجز تلك الشروط فيما يلي: ... على شرط تحرير الذات في سبيل المزيد من المشاركة في رسالة المسيح. إنّ هدف كل مسيرة روحية هو تحرير الإنسان من كل ما يتعلق به و يتسبّب في فقدان حريته الداخلية‘ والتمارين الروحية تساعد الإنسان أن يتغلب على نفسه وينظِّم حياته بمعزل عن كل ميل منحرف وذلك لمزيد من الإتحاد بين الله والإنسان. كلما تحررت ألمس أكثر كيف أستطيع مشاركة المسيح رسالته في بناء الملكوت. في الصلاة يسأل المسيحي الله، كما فعل القديس بولس يوم لتقى المسيح على طريق دمشق: "ربي! ماذا علي أن أعمل؟" فيكتشف، يوما بعد يوم، الرسالة التي يطلبها منه الرب. فالرب هو الذي يرسلني إلى عملي وهكذا لا أعتمد فقط على قواي ومع بولس أقول: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (فل 4/13) ... على شرط التمييز الشخصي لترجمة دعوة المسيح في الحياة اليومية بمقدورنا أن نتحد بالله في كل عمل إنساني نقوم به، أيّا كان هذا العمل، أكان يوميّاً أم عاديا، فكرياً أم يدوياً، دراسيا أم مهنيا، كبيرا ام صغيرا، ظاهرا أم خفيا ... بمقدورنا أن نتحد بالله في كل علاقة بشرية نكوِّنها، في كل حديث مع شخص أخر ... فالله يكلمنا، ومشيئته تظهر لنا من خلال حياتنا اليومية العادية، وإنّ ملكوت الله، الذي يحققه الإنسان على وجه الأرض على مدار الأجيال، يتحقق بالأعمال اليومية العادية التي تقوم بها البشرية بأجمعها. هذا ما فعله يسوع في الناصرة مدة ثلاثين سنة. فقبل أن يستهلّ البشارة بالملكوت، كان قد عاش حياة متَّحدة بأبيه بوساطة الصلاة والأعمال اليومية، شأن البشرية قاطبة منذ أجيال فأجيال. فلا يتأسس ملكوت الله على الأرض بالأعمال العظيمة والباهرة فقط، بل في بساطة العمل اليومي العادي أيضا. ولقد احتفظ يسوع بهذا الطابع البسيط في تعاليمه، حتى أنه كان يحدّث الجموع عن الآب انطلاقا من الواقع المادي. واتّصل كذلك بتلاميذه انطلاقا من وضعهم اليوميّ وواقعهم المعيشي. فدعا رسله بينما كانوا منصرفين إلى أعمالهم ومهنهم، فمنهم مَن كان يصطاد السمك، ومنهم مَن كان يجبي الضرائب ... ولما تراءى لهم بعد قيامته على بحيرة طبرية، كانوا قد رجعوا إلى حياتهم المهنيّة اليومية. وكذلك عندما تراءى لتلميذي عمّاوس، اشترك في همومهما وضيقهما ... يمكن تلخيص مسيرة الحياة الروحية بأنها اتّحاد بالله بوساطة واقع الحياة، هنا يكمن دور التمييز الروحي وأهميته، فهو وسيط، بمعنى أنه يسمح للإنسان أن يبحث عن الله فيكتشفه في كل شيء، وأنه يتيح له الفرصة لأن ينظر إلى كل شيء فيجد الله فيه. قد يبدو لأوّل وهلة أن الأمر سهل، فمن البدهي أن يتكلّم الله من خلال واقع الحياة. غير أن الأمر أكثر تعقيدا إن أخذنا بعين الاعتبار تواجد الزؤان مع الزرع الطيّب، والظلام مع النور، والكذب مع الحق، وبابل مع أورشليم. فالتمييز الروحي يكشف انّ هناك قوّتين تعملان في العالم وفي الإنسان: الخير والشر. ... رؤية الله في كل شيء وتعاون الإنسان مع الله اشتُهِرت صيغةٌ تعبّر عن تعاون الإنسان مع الله ترقى إلى أحد الروحانيين اليسوعيين من القرن الثامن عشر تقول: "ثِق بالله كأن النجاح كله يأتي منك ولا شيء من الله. ولكن حينذاك اعمل جاهدا كأن لا شيء يأتي منك وكل شيء من الله وحده" إن مفارقة هذه الحكمة تُظهر عدة عناصر. أولا أن قمة الثقة بالله تفترض تعاون الإنسان مع الله، وأن قمة العمل البشري تفترض عمل الله. فالله يثق بالإنسان حتى إنه يُشركه في عمله الإلهي؛ وبالتالي فعلى الإنسان أن يثق بالله فيتعاون معه كما يريده الله وبحسب دعوته للإنسان. وعلى الإنسان أن يثق بالله ثقة تامة بدون أن يعتمد على ذاته، كما أنّ عليه أن يعمل مجتهداً بدون أن يعيش أيّة اتكالية سلبية. وليست الثقة بالله والعمل المجتهد في تناسباً عكسي، كأنّ ازدياد الثقة بالله يُقلّل من عمل المجتهِد، أو كأن عمل الإنسان يقلل من ثقته بالله. فما من تضارب بين دور الله ودور الإنسان، لأنّ الله نفسه يدعو الإنسان إلى التعاون معه. وهذا هو المقصود بلفظ "حينذاك": إن أردت الإعتماد على الله بالإجتهاد الشخصي فعليك أن تجتهد كل الإجتهاد بثقة كاملة بالله لا بذاتك. فعندما يثق الإنسان بالله، يكون مفعولاً به لا فاعلا فقط- ومشاهِدا لله ولعمله وهنا يكمن النجاح. عندما يجتهد الإنسان فهو يعي ويختبر أنّ الله يعمل فيه وفي الأخرين، فالنجاح في الواقع يأتي من الله الذي عمل في الإنسان، وقد دعاه إلى التعاون معه؛ فالله هو مصدر عمل الإنسان. الخلاصة في النهاية نستطيع استخلاص ثلاث ركائز للصلاة:
عندما تتناغم حياة الإنسان وصلاته نتيجة مسيرته الروحية ومثابرته فإنه ينمو في معرفة ومحبة الله بشكل أعمق فيصلي كل حين إذ يرى الله في كل شيء وكل شيء في الله |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
متسمحش أبدًا يا رب أكون بخيل |
متسمحش لإبليس يخليك فاتر |
متصليش صلاة يونان |
تفتكر صح متصليش وانت متألم |
متسمحش لخوفك يعميك |