رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
جحيم الرغبات 11/12/2011 بقلم: البابا شنودة الثالث أيها القارئ العزيز, لتكن رغبتك الأولي والعظمي هي الحياة مع الله. أما باقي الرغبات فلتكن داخل هذه الرغبة العظمي. واحذر من أن تعيش في جحيم الرغبات العالمية التي تستعبد من يخضع لها أو يسعي إليها. > بحث أحد الحكماء في أسباب السعادة والشقاء. فوصل إلي حقيقة عميقة في فهمها وهي: أن أهم سبب للشقاء هو وجود رغبة لم تتحقق: فقد يعيش الإنسان فقيرا. ويكون سعيدا في نفس الوقت. ولكن إن دخلت إلي قلبه رغبة في الغني ولم تتحقق, حينئذ يتعب ويشقي. وأيضا قد يكون الإنسان مريضا وراضيا شاكرا, يقابل الناس في بشاشة وابتهاج, لا يشقيه المرض. ولكن المريض الذي تدخل في قلبه رغبة في الشفاء ولم تتحقق فهذا بلا شك يتعب في رغبته. > إن رحلة الرغبات داخل القلب تتعبه وتضنيه, وترهقه وتشقيه: إنه يشتاق, ويشقي في اشتياقه. يريد ويجاهد ويتعب لكي يصل. ويلتمس الوسائل, فيفكر ويقابل ويكتب ويشكو, ويروح ويجيء, ويسعي ويتعب في سعيه.وقد ينتظر طويلا متي تتحقق الرغبة, ويشقي في انتظاره. يصبر ويضيق صدره, ويمل ويضجر. ويدركه القلق حينا, واليأس حينا آخر. أو قد يتعبه الخوف من عدم الوصول إلي نتيجة. وربما يتعب من طياشة الفكر ومن أحلام اليقظة, أو من أن رغباته مجرد آمال, مجرد قصور في الهواء, لا يراها إلا إذا أغمض عينيه! وقد ينتهي سعيه وتعبه إلي لا شيء. ويحرم من رغبته التي يود تحقيقها, فيشقي بالحرمان. > وأخطر من هذا كله, فإن آماله وأغراضه قد تجنح به عن طريق الصواب. فتقوده إلي الخداع, أو اللف والدوران, أو التذلف والتملق, أو الكذب أو الرياء, أو ما هو أبشع من كل هذا. وقد صدق أحد الحكماء حينما قال: لابد أن ينحدر المرء يوما إلي النفاق, وإن كان في قلبه شيء يود أن يخفيه. > والعجيب في هذه الرغبات الأرضية, أنها تشقي الإنسان حتي إن تحققت! ذلك لأنها لا تقف عند حد.. فقد يعيش الأنسان في جحيم الرغبات زمنا. حتي إذا ما تحققت له رغبة, وفرح بها وقتا ما ما تلبس أن تقوده إلي رغبة أخري, إلي خطوة أخري في طريق الرغبات الذي لا ينتهي! إن الرغبات عندما تتحقق يلتذ بها, وتقوده اللذة إلي طلب المزيد وللوصول إلي هذا المزيد, قد يجره إلي تعب جديد.. ويكون كمن يشرب من ماء, مالح, كلما شرب منه يزداد عطشا. وكلما يزداد اشتياقا إلي الماء, في حلقة مفرغة لا يستريح فيها ولا يهدأ. > صاحب الرغبة يعيش في رعب: إما خوفا من عدم تحقق رغبته. أو خوفا من ضياعها إن كانت قد تحققت. ومن القصص اللطيفة في هذا المجال: أن رجلا فقيرا لا يملك شيئا علي الإطلاق, كان يعيش في منتهي السعادة. يضحك ملء فمه, ويغني من عمق قلبه. وفي إحدي المرات رآه أحد الأمراء وأعجب به. فمنحه كيسا من الذهب. فأخذ الرجل الفقير كيس الذهب إلي بيته. وبدأت الآمال والرغبات تدخل إلي قلبه: أية سعادة سيبنيها بهذا المال! ثم لم يلبث الخوف أن ملك عليه, لئلا يسرق أحد منه هذا الذهب قبل أن يبني سعادته به, فقام وخبأ الكيس وجلس مفكرا. ثم قام وغير المكان الذي أخفاه فيه. ثم حاول أن ينام ولم يستطع. وقام ليطمئن علي الذهب.. وفي تلك الليلة فقد سلامة. حتي قال لنفسه: أقوم وأعيد هذا الذهب إلي الأمير, وأنام سعيدا كما كنت. > إن الإنسان قد يقاد من رغباته, ورغباته تمثل نقطة ضعف فيه, يقوده الناس منها: وما الانسان الذي تكون رغباته في أيدي الناس, في حوزتهم أو في سلطانهم أو في إرادتهم! وبإمكانهم أن يحققوها له, وبإمكانهم أن يحرموه منها. لذلك يعيش عبدا للناس. تتوقف سعادته علي رضاهم. > لقد عاش النساك في سعادة زاهدين لا تتعبهم الرغبات... هؤلاء قد ارتفعوا فوق مستوي الرغبات الأرضية. ولم تعد لهم سوي رغبة واحدة مقدسة هي الحياة مع الله والتمتع بعشرته. وهذه لا يستطيع أحد من الناس أن يحرمهم منها. وهكذا فإن سعادة الناسك الزاهد تنبع من داخله, من قبله, من إحساسه بوجود الله معه. وإذ تتبع سعادته من داخله, لا تصير تلك السعادة رهنا للظروف الخارجية, كما لا يتحكم الناس فيها. حقا أي شيء في العالم يمكن أن تتعلق به رغبات الروحيين ؟! لا شيء.. فليس في العالم سوي المادة والماديات, ومشتهيات الجسد والنفس... أما رغباتهم هم فتتعلق بالله وسمائه وبعالم الروح. لذلك ليس في العالم شيء يشتهونه. لو كان الذي يشتهونه في هذه الأرض, لتحولت الأرض إلي سماء. إن الروحيين أعلي من رغبات العالم وأسمي. العالم لا يعطيهم بل هم بركة للعالم. وبسببهم يرضي الله علي الأرض. وإنهم نور للعالم يبدد ظلماته. وهم بهجة للأرض ونعمة... هؤلاء لا يعيشون مطلقا في جحيم الرغبات الأرضية. ولقد تأملت في حياتي أحد هؤلاء الزاهدين المرتفعين عن مستوي الرغبات الأرضية فناجيته بآبيات من الشعر قلت فيها: كل ما حولك صمت وسكون وهدوء يكشف السر المصون هل تري العالم إلا تافها يشتهي المتعة فيه التافهون ؟ هل تري الآمال إلا مجمرا يتلظي بلظاه الآملون لست منهم هم جسوم بينما أنت روح فر من تلك السجون نعم ما أجمل أن يعيش الإنسان سعيدا بالله. يمكن أن تكون له رغبات داخل محبة الله ولكن لا يمكن أن تستعبده الرغبات. تكون الرغبات مفتاحا في يده, ولا تكون أغلالا في يديه. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|