بولس بطرس ويوحنّا
حين نقرأ أعمال الرسل، نلاحظ أنَّ كاتبها القدّيس لوقا أراد أن يقدِّم توازيًا بين بطرس وبولس. بطرس أقام كسيحًا عند الباب الجميل في الهيكل (أع 3: 1ي)، وبولس أيضًا قال لرجل عاجز كسيح في لسترة: »قُمْ وقِفْ منتصبًا على رجليك« (أع 14: 10). بطرس أقام طابيتة (أع 9: 40) على مثال ما فعل الربُّ مع ابنة يائيرس (مر 5: 41، طليتا قومي)، ومثله فعل بولس حين أقام أفتيخوس الذي سقط من الكوَّة في ترواس (أع 20: 10-12). وإذا كان الناس ينتظرون أن يمرَّ خيالُ بطرس على المرضى لكي يُشفَوا (أع 5: 15)، كذلك كان الأمر بالنسبة إلى بولس. »صار الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامس جسده من مناديل أو مآزر، فتزول الأمراض عنهم« (أع 19: 12).
هذه القرابة بين بطرس وبولس حاضرة في أع بو وموسَّعة أيضًا. ولكن نقص بولس أن يكون له كتاب رؤيا كما هو الأمر بالنسبة إلى رؤيا يوحنّا ورؤيا بطرس. لهذا، قدَّم لنا الأدب المنحول رؤيا بولس.
رؤيا بولس وُلدت في منتصف القرن الثالث، إن لم يكن في الثلث الأخير من القرن الثاني. إذًا هي قريبة من الأسفار القانونيَّة التي امتَّد بعضها إلى الربع الأوَّل من القرن الثاني.(23) ونقطة الانطلاق ما قاله الرسول عن نفسه في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: »أعرفُ رجلاً مؤمنًا بالمسيح خُطف قبل أربع عشرة سنة إلى السماء الثالثة، أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. وإنَّما أعلم أنَّ هذا الرجلَ خُطف إلى الفردوس: أبجسده أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. أعلمُ أنَّه خُطف إلى الفردوس وهناك سمع كلامًا لا يقدر بشرٌ أن ينطق به، ولا يجوز له أن يذكره« (2 كو 12: 2-4).
ما عرف الرسول أخُطف بالجسد أو بغير الجسد. أمّا رؤ بو فأكَّدت أنَّه خُطف بالجسد على ما حصل لإبراهيم في رؤيا إبراهيم.(24) وهكذا ضاع المعنى الروحيّ لنصِّ الرسالة البولسيَّة. ثمَّ هو سمع كلامًا لا يحقُّ لبشر أن ينطق به، ومع ذلك، توسَّع رؤ بو في هذا الكلام.
في هذه الرؤيا، تُطرَح مسألة الشرّ في العالم، ممّا يجعل الخليقة تتذمَّر لدى الله. يبدأ الرسول كلامه: »إذ كنتُ في جسدي، خُطفتُ إلى السماء الثالثة وتوجَّه إليَّ كلامُ الربِّ كما يلي: »قلْ لهذا الشعب إلى متى تمضون في خور الهمَّة فتضيفون خطيئة على خطيئة؟« (امتداد، ص 188). وبدأت الشمس تشتكي ثمَّ القمر والنجوم، والمياه والأرض. كان جواب الربِّ طول الأناة. قال: »أعرفُ الكلّ، وما من أحد يقدر أن يُخفي خطيئته، ولكنَّ قداستي تحتملهم كما هم إلى أن يهتدوا ويتوبوا. لكن إن لم يرجعوا إليَّ أدينهم« (امتداد، ص 190).
وبدأت الدينونة ورأى بولس فئات الناس يدانون، بحيث ما أُفلت أحد. أصحاب الجدالات العقيمة، الأساقفة، الشمامسة، القارئون. هذا على مستوى الكنيسة بمراتبها. ثمَّ يأتي المرابون والسحرة والزناة وقاتلو الأولاد والهراطقةُ والوثنيّون. وخلال مسيرة بولس يلتقي مثلاً بأخنوخ وإيليّا وغيرهما من الآباء.
فرح بولس حين التقى بالأبرار، وبالأحرى فرحوا هم حين رأوه. فهو أرفع منهم. قال الرسول: »عبرتُ أبواب الفردوس، وحين دخلتُ أتى شيخ نحوي، وجهه مشعٌّ مثل الشمس، فضمَّني وقال لي: »سلام، يا بولس حبيب الله.« وقبلني بوجه فرح«. وسأل بولس: »من هو هذا يا سيِّدي؟« فأجاب الملاك: »هو أخنوخ كاتب البر« (ص 201). ويواصل بولس كلامه: »رأيتُ إيليّا الذي حيّاني في الحال بالفرح والبهجة« (ص 202). وسوف يرى بولس الأنبياء مثل أشعيا وإرميا وحزقيال... (ص 207) الذين حيُّوه. وأطفال بيت لحم، ثمَّ إبراهيم وإسحاق ويعقوب... (ص 208).
وفي وقت من الأوقات تلتقي رؤ بو مع رؤ يوحنّا: »شاهدتُ الأربعة والعشرين شيخًا والأحياء الأربعة ساجدين قدّام الله« (ص 222)، هذا ما يعيدنا إلى رؤية العرش في السماء كما تحدَّث عنه يوحنّا (رؤ 4: 4-8). هم يهتفون أمام العرش. وبولس أيضًا سمعهم، كما تقول رؤ بو، وظهر وجه الفردوس، وتتوزَّع رؤ بو في الفردوس الذي يجمع الفردوس الأرضيّ وأرض الميعاد مع السماء. هناك نهر العسل ونهر اللبن، هناك المنشدون ليلاً ونهارًا وعلى رؤوسهم الأكاليل.
أجل، خطف الروح يوحنّا فسمع صوتًا قويٌّا يقول: »اكتب ما تراه« (رؤ 1: 10-11). وكذلك بولس. قيل له ما لا يكتب وما يكتب. تحدَّث يوحنّا عن الكنيسة في قلب الاضطهاد وعن مصيرها في نهاية الزمن. أمّا بولس فخرج من الزمن ليرى حياة الناس على ضوء الأبديَّة. ففي نداء بولس، دعوة إلى التوبة، وتنبيه إلى مختلف الفئات في الحياة الدينيَّة والاجتماعيَّة. وصوَّر بولس السماء حتّى الطبقة الثالثة، وصوَّر الأسافل بما فيها من رذائل وما ينال الناسُ هناك من عقوبات. وفي أيِّ حال، هو يسير على رأس شعب الله في العهد الجديد، في تواصل مع العهد القديم برفقة الآباء والأنبياء.
هذا السفَر إلى الآخرة يجعلنا في إطار غنوصيّ مع إشارة إلى حياة الرهبان الذين ينشدون هللويا الذي هو لفظ عبريّ يخصُّ الله والملائكة (ص 211) وهناك توسُّع في صورة الفردوس حيث يقيم أهل التوبة والعفَّة والإماتة. قال الملاك لبولس: »ما تشاهد الآن هو نصيب الزوجين اللذين حفظا العفَّة والطهارة خلال الزواج. أمّا للبتولين الذين جاعوا وعطشوا إلى البرّ، الذين أماتوا أجسادهم باسم الربّ، فالله يمنحهم سبعة أضعاف أكثر من هذا« (ص 204).
تلك مقابلة مع رؤيا يوحنّا. وهناك مقابلة ثانية مع رؤيا بطرس. ما زال الباحثون يتساءلون: هل رؤ بو سبقت رؤ بط، أم العكس هو الصحيح؟(25) هنا نتذكَّر أنَّ رؤ بو التي دوِّنت في نهاية القرن الثاني أو بداية القرن الثالث، ليست موجودة كلُّها في اليونانيَّة. بل وصلت إلينا في القبطيَّة واللاتينيَّة والسريانيَّة والأرمنيَّة، ممّا يعني أنَّ النصَّ الأخير قد يكون نال التصحيحات ولا سيَّما حين يذكر الرهبان العائشين في مصر، لأنَّ النصَّ الأصليّ، على ما يبدو، تكوَّن في مصر وبشكل خاصٍّ في الإسكندريَّة.
حاولت رؤ بط أن تضيء على مصير كلِّ إنسان، وارتبطت بشكل خاصٍّ بالرحمة التي بها يعامل الله الخطأة. هذه الوجهة لا تكون واضحة في رؤ بو الذي يُفهمه الملاكُ عدالةَ الله قبل كلِّ شيء. عرف بطرس مصيره: »ها أنا كشفتُ لك يا بطرس وشرحتُ لك كلَّ شيء. امضِ إلى المدينة التي تُشرف على الغرب واشربِ الكأس التي وعدتُك بها من يدي ابن ذاك الذي هو في الأسافل لكي يبدأ بالزوال. أمّا أنت فمختار بسبب الوعد الذي وعدتُك. فبسلام، قمْ بإعلان اسمي في العالمِ كلِّه، بحيث يبتهج. فينبوع أقوالي رجاء حياة، وفجأة خُطف العالم كلُّه.«(26) وانتهت رؤ بط على الجبل المقدَّس، كما في مشهد التجلّي حيث يكون يسوع مع موسى وإيليّا.
مع بطرس ويوحنّا يبدأ سفر الأعمال. في الهيكل وشفاء الكسيح، أمام المجلس اليهوديّ، وفي السجن قبل أن تصلّي الكنيسة من أجلهما (أع 4: 23).
فهل يكون بولس أقلَّ منهما؟ بل هو يتفوَّق، أو بالأحرى يأخذ خطٌّا أوسع حين يُري البشر ما ينتظرهم من ثواب وعقاب، ويصوِّر للأبرار وللخطأة السماء بتشعُّباتها والأسافل بعذاباتها.