ما أحبّ مساكنك
المزمور الرابع والثمانون
1. المزمور الرابع والثمانون هو نشيد الحجّاج الصاعدين إلى أورشليم ليعيّدوا عيد المظال. يجتمعون في مكان معيّن ويسيرون معًا إلى أن يتجلّى لهم اله الآلهة في صهيون. إن مسيرة الطريق ترمز إلى مسيرة الحياة التي نلتقي في نهايتها بالرب ونقيم في دياره.
2. حنين المؤمنين إلى الهيكل لأنهم يجدون فيه سعادتهم.
آ 2- 5: ينشد المرتّل رغبته في أن يرى صهيون ويعلن حنينه إلى سعادة يحصل عليها لدى وصوله إلى الهيكل. تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. ما أحب مساكنك (أو خيامك، نتذكّر خيام الشعب في الصحراء، وخيام عيد المظال).
يتوق الإنسان بكليته إلى هذا اللقاء مع الرب. فالعصفور يمكنه أن يعشعش في الهيكل حيث يكون بأمان (عديدة هي مخاطر الطريق)، وما أسعد الكهنة واللاويين وأتقياء الرب الساكنين في بيت الرب يسبّحونه على الدوام.
آ 6- 8: يتذكّر المؤمن الطريق التي سار عليها ليصل إلى صهيون: طريق صعبة في أرض لا ماء فيها (وادي الجفاف، لا وادي البكاء)، يصعدون جبلاً بعد جبل (ينطلقون من قمة إلى قمة، لا من قوة إلى قوة) فيأخذ منهم التعب كل مأخذ ولكن النظر إلى الهدف (يرون إله الآلهة في صهيون) يجعل الإنسان ينسى التعب وينقلب الجفاف أمامه ينابيع ماء. كل شيء يتغيّر ببركة الله.
آ 9- 13: أيها الربّ استمع صلاتي، التفت إلى وجه الملك مسيحك. هذه الصلاة يتلوها الحجّاج عندما يصلون إلى الهيكل. يصلّون من أجل الجماعة التي إليها ينتمون، يصلّون من أجل الملك ليجعل السلام والعدالة في شعبه. ثم ينشدون فرحهم: يوم واحد في ديارك خير من ألف مع المنافقين.
3. القيام في الهيكل، الوقوف على باب الهيكل، يعني الحضور أمام الله واللقاء بالله الحي لقاء حقيقيّا. ولهذا فيوم واحد في ديار الرب خير من الف سنة نقضيها في الشغل أو في العائلة. أيعني هذا الكلام أن حضور الله ينحصر في الهيكل؟ كلا، فإله الكون أمين على مواعيده، وهو يلتقي الآتين إلى أورشليم المنتظرين منه أن يسمع دعاءهم.
ويتأكّد المؤمن أن لا حقّ له على الله (مهما عملتم قولوا نحن عبيد بطالون). حتى مشقات الطريق لا تجعله أهلاً لأن يقف بحضرة الله، ولا تفرض على الله أن يسمع دعاءه. نحن بعيدون عن الله التاجر: نعطيه فيعطينا. فالحج بحد ذاته فرحة ونعمة لا تجارة ومقايضة. الله يعطي النعمة والمجد مجّانًا لأنه كريم في عطاياه. الرب يغمر بسعادته السائرين في البرية ويباركهم، وها هو يحمي المسافرين من الشمس ويكون لهم ملجأ يحميهم من المطر. وهذا الخلاص الآتي من الرب يتوجّه إلى الفرد وإلى الجماعة. المرتّل الفرح عضو من جماعة أورشليم التي تلتقي ربها في فرحة العيد وتشارك في الاحتفالات الليتورجية.
4. عندما ننشد هذا المزمور نحسّ بنفحة إيمان، ونفهم أن حضور الله الحي يملأ قلب المؤمن سعادة. فالحب الذي يشعل قلب المرتّل يجعله ينسى صعوبات الطريق وأخطارها ليلتقي الرب في مدينته وفي هيكله. ونحن المؤمنين في العهد الجديد نلنا نعمة تمنّى أن يحصل عليها ملوك وأنبياء فلم يستطيعوا (لو 10: 24). فالرب ذاته حلّ فينا وسكن بيننا (يو 1: 14)، فكان لنا فيه الحياة والنور. وحضور الكلمة المتجسّد بيننا يتجدّد كل مرة في سرّ القربان المقدس فيضع فينا الرغبة بلقاء الرب، الرغبة بالسماء. وهكذا تصبح الصعوبة أمرًا سهلاً، والطريق قصيرة، والقحط بركة، والجفاف ينابيع ماء.
5. تأمّل
المزمور الرابع والثمانون هو مزمور الحج الأول. هو نشيد الحجّاج الصاعدين إلى أورشليم في عيد الفصح. وقد تكون أنشدته العائلة المقدسة، ولاسيّما حين صعدت إلى أورشليم ويسوع ابن اثني عشر عامًا (لو 12: 41- 52). ويرينا هذا المزمور مختلف مراحل الطريق التي تتقدّم شيئًا فشيئًا حتى الساعة المباركة التي فيها يصل المؤمنون إلى الهيكل فينعمون بحضور الله.
على تلّة من التلال، تنكشف أمام الحجّاج من بعيد المدينة المقدّسة التي إليه يسيرون منذ بضعة أيّام. فيتفجّر الصراخ من شفاههم، لا صراخ اعجاب ببناء شاهق عظيم كما في مزامير أخرى، بل صراخ حبّ "وغرام" لدى رؤية بيت الله.
ردّة الفعل الأولى هي عمل "عاشق" ينشد: "كم أحبّ مساكنك يا ربّ الكون". وبانتظار اللقاء مع الله، تذوب النفس. بل إن كائنه كله يبتهج ويحترق لاقترابه ممّن هو حبّ حياته. واسم الرب سيُذكر في هذا المزمور سبع مرّات، وهذا ما يدلّ على ملء الصلاة. أما الهيكل فهو مقام الربّ. لهذا يهتف المرتّل: "يا لفرحتي حين قيل لي: إلى بيت الرب ننطلق. وقفت أقدامنا في أبوابك يا أورشليم" (مز 122: 1- 2). أورشمليم هي مدينة البشر، والهيكل هو بيت الله الفريد.
وحين يقترب المؤمن من الهيكل، لا يستطيع أن ينسى أن إله الحنان والحياة الحميمة، هو أيضًا سيّد الكون كله. سيّد جيوش السماء والأرض. سيّد النجوم والكواكب التي تدور بنظام في الافلاك. وهو الله الحيّ، الذي يختلف كل الاختلاف عن الاصنام الصامتة التي يصنعها الإنسان لنفسه. هي آلهة الخشب والحجر. كما يختلف عن آلهة نصنعها لنفوسنا حين نتعبّد لأشخاص وجماعات أو نعبد ذواتنا. الله وحده يقدر أن يقول: "أنا الحياة". بل "أنا هو الذي هو". كان والكائن والذي سيكون. وحين يكون، فهو ينعل من أجل شعبه ومن أجل كل مؤمن من مؤمنيه.
أبصر المؤمن من بعيد الهيكل فتاق إلى أروقته بعد أن داس عتبة بيت إلهه. هو لا يرغب إلاّ أن يقف كالشحّاذ على الباب. فهذا ما يمنحه كل سعادة. وإذ هو قريب من البيت "يحسد" العصفور الذي يقيم في داخل البيت. فالاله الذي هو ربّ القوى الكونيّة هو أيضًا إله الصغار الذي يهتم بالعصفور الصغير "الذي لا يسقط على الأرض بدون إرادة الآب السماوي" (مت 6: 26). أجل، هكذا نذهب نحن أيضًا إلى بيت الرب فيستقبلنا الرب استقبالاً أين منه استقبال الأب لابنه العائد إلى البيت.
6. إذا كنتم تحسّون بثقل هذا العالم، حتى في سعادتكم، تفهمون أنكم في الضيق. أتظنون يا إخوتي أنه يجب علينا أن نخاف مصائب هذا العالم، لا سعاداته؟ إعرفوا أنه ليس من مصيبة تحطّم ذاك الذي لا تفسده سعادة. فكم يجب أن نخاف سحر سعادة يهلكنا مع الابتسامة! لا ترتكز على قصبة، لأن كثيرين يفعلون هكذا كما يقول الكتاب. لا تستند إلى القصبة فهي سريعة العطب. هي تنكسر وتجعلك تسقط. إذا كان العالم يبتسم لك ببعض سعادة يقرضك إياها، تذكّر أنك في الضيق وصلِّ قائلاً: "وجدت العذاب والحزن، فدعوت اسم الرب" (116: 4). هو حزن مخفيّ عن الانظار، وكثيرون يجهلونه مع أنهم يظنون نفوسهم سعداء في منفى هذه الأرض. كتب الرسول: "ما زلنا في جسدنا، فنحن نعيش بعيدًا عن الرب" (2 كور 5: 6). لو عشت بعيدًا عن والديك، ستكون تعيسًا. وهل يمكن أن تكون سعيدًا وأنت بعيد عن الربّ؟
وآخرون يفهمون أنه في وسط بحر الغنى والملذَّات، ساعة كل شيء يكون في خدمتهم، ساعة لا تصيبهم الصعوبات ولا الضجر. في ذلك الوقت يحسّون أنهم في منفى لأنه يعيشون بعيدًا عن الربّ. إنهم يرون الأمور الرؤية الحسنة، وقد وجدوا الحسرة والضيق. ندعو باسم الرب. ذاك هو الذي ينشد هذا المزمور. ومن هو؟ جسد المسيح. هو أنتم إذا شئتم. نحن إذا شئنا. جميع البشر هم في إنسان واحد لأن جسد المسيح واحد. وكيف لا يكون إنسانا واحدًا وله رأس واحد. فرأسنا جميعًا هو المسيح. وكلنا معًا جسد هذا الرأس. (أوغسطينس).