كما يشتاق الأيّل
طُرد المؤمن من الهيكل، بل من أرض الربّ، أرض فلسطين. أحسّ بعداء الناس الذين أبعدوه عن معبد الرب وحضوره، فجاء تشكّيه في ثلاث حركات (42: 2- 5؛ 42: 7- 11؛ 43: 1- 4) تفصلها ردّة تتكرّر: "لماذا تكتئبين يا نفسي... ارتجي الله فإني سأعود".
وقرأ المنفيّون هذا المزمور وتساءلوا: ألا يحقّ لهم بعد أن يعودوا ويمتدحوا الله من أجل عمله الخلاصيّ؟ بل سيرجعون لأن الله أمين لعهده. وهكذا ينتقل المرتّل من الضعف والتخاذل إلى الصلاة الواثقة.
يبدأ المزمور في مناخ من الضعف القريب من اليأس. يشبّه المؤمن نفسه بالأيّل الباحث عن المياه في أيام القحط والجفاف. وعطشه يحرقه لأنه بعيد عن الله. الله هو ينبوع حياة، وهو يفعل من هيكله. فإن ابتعد المؤمن عن الهيكل صار قريباً من الموت. فهل يستطيع العائش في المنفى أن يرافق الحجّاج ويصعد درجات الهيكل ويقف أمام الله؟
ويتذكّر الماضي فيزداد ألمه الحاضر: بدلاً من أن يشارك في ذبائح السلامة فرحاً أمام الله، صار طعامه الدموع. وبدلاً من أن ينشد مآثر الله وسط الجموع المتحمّسة، ها هو يسمع سؤالاً مقلقاً: أين هو إلهك؟ ماذا فعل لك إلهك؟
ويتشكّى المؤمن إلى الربّ، ويرفع نحو أورشليم نظرة ملؤها الرجاء. ويطرح سؤاله: لماذا نساه الله؟ لماذا يسير بالحداد؟ وفي النهاية يدعو نفسه إلى الرجاء، فينتظر العودة والاعتراف لله.
مزمور نعرفه منذ الصغر، سمعناه مراراً وقرأناه
مزمور أنشدناه ساعة الضجر والقنوط واليأس واسوداد القلب فعاد إلينا الأمل
أنشدناه فوضعنا فيه تمنّيات قلبنا: أن نلتقي وجه الربّ في هيكله المقدّس.
في الماضي أنشده الشعب العائش غريباً عن وطنه منفياً في أرض بعيدة
أنشده بعد أن أحسّ المسافات والصعوبات تفصل بينك وبينه يا ربّ
صعوبات هي أصعب من الأنهار المخيفة والبحار العميقة المرعبة.
وننشده نحن المسيحيين والكثير منا تهجّر عن ضيعته وعن بيته
تهجّرنا حتى عن وطننا وتشتّتنا في أوطان غريبة
وها نحن نحنّ إلى العودة إلى الوطن، إلى القرية، إلى كنيسة الضيعة وأعيادها
ننشد هذا النشيد يا ربّ فينتعش فينا الأمل
ننشده فنجد الشجاعة لمتابعة الطريق بعزم وثبات
ونتكل عليك أنت يا من لا يتخلّى عن الذين يترجّون خلاصك.
بهذه العواطف نقول: كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه.
نشبّه نفوسنا بالأيّل، بالغزال في أيام الصيف المحرقة
ساعة لا نقطة ماء في السواقي يحسّ بالعطش
تطلب نفسه الماء وتتحرّك فبه الرغبة والشوق
يتخيّل المياه التي يودّ أن يشربها، يتمنّى لو تعود أيام الخير
ولكنه يتحسّر فيقول: متى؟
المسافة بعيدة والصحراء واسعة
ومع ذلك يلهبه الشوق وتحرقه اللهفة فيهتف: متى آتي؟
كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه
كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله
إليك إيها الإله الحي عطشت نفسي، فمتى أجيء وأرى وجه الله؟
هذا هو صوتنا نحن المؤمنين نعبّر فيه عن اشتياقنا إليك يا الله
نحن لا نطلب ماء عادياً وأنت ترسل الشتاء في حينه والمطر في أوانه
نحن نطلب الماء الحيّ الذي هو حضورك بالذات.
نحن لا نطلب ماء من يشرب منه يعطش أيضاً،
بل نطلب ماء تعطينا إياه يا ربّ فلا نعطش أبداً.
إليك أيها الإله الحيّ، عطشت نفسي، فمتى آتي وأرى وجهك يا إلهي
نفسي عطشى، وعطشها شديد، فمتى أستطيع الحضور أمامك في هيكلك
متى أستطيع أن أرى وجهك؟
ولكن من يستطيع أن يرى وجهك ولا يموت؟
الأنقياء وحدهم، وأنت تلت: طوبى للنقية قلوبهم لأنهم يعاينون الله، يرونه بعيونهم.
دموعي خبزي نهاراً وليلاً،
ويُقال لي كلّ يوم: أين إلهك؟
بين الشوق والواقع مسافة كبيرة،
بين تطلّعي إليك والوصول حواجز وصعوبات
ولهذا لا يبقى لي إلا البكاء ليلاً ونهاراً، واحتمال الألم والعذاب.
ويزيد ألمي ألماً، يا ربّ، عندما يقول لي الذين حولي: أين إلهك، أين هو؟
إلهك بعيد عنك وأنت بعيد عنه، وهو لن يخلّصك
ولكن متى كنت بعيداً عن الإنسان، متى كنت بعيداً عنا
ملكوت الله في داخلنا، قلت لنا يا يسوع
أنت بذاتك في داخلنا، أنت عمانوئيل، الله معنا،
فكيف ننسى، فكيف نجهل؟
أتذكّر فتذوب نفسي، كيف كنت أعبر مع الجموع في موكب نحو بيت الله
أقودهم بصوت ترنيم وحمد وبهتاف كأنهم في عيد.
وأعود إليك يا ربّ، وأتذكّر الماضي فتذوب نفسي من الألم
أتذكر الاحتفالات يوم الأعياد في هيكلك وفي معابدك
أرى الجموع تسير في موكب نحو بيتك بصفوفها المتراصة وثيابها الحلوة
أسمع أصوات الترنيم والحمد والهتاف، هوشعنا، خلّص يا ربّ. يحيا الربّ.
أتذكّر هذا، وأرى نفسي بين تلك الجموع،
بل أرى نفسي على رأس هذه الجموع الزاحفة إلى بيتك يا الله
ولكن كان ذاك عهداً ومضى.
أتراه يعود، بعد أن قوّضوا معابدك وهدموا مذابحك وقتلوا مؤمنيك؟
على كل حال، كل هذا يبدو صعباً على قوانا البشريّة
ولكنك تقول يا ربّ: لا شيء مستحيل عند الله
وعلى كل حال، نحن نتألّم ونكتئب وتئن نفوسنا في داخلنا ونتساءل: متى يا ربّ؟
لماذا تكتئبين يا نفسي، لماذا تئنيّن في داخلي؟
إرتجي الله لأني سأحمده بعد، مخلّصي هو وإلهي.
لا شيء مستحيل عندك يا ربّ، وما نظنّه صعباً علينا يصبح سهلاً بنعمتك
إذاً لماذا الاكتئاب والأنين؟ لماذا القلق والاضطراب؟
لأننا بشر ضعفاء، وقوى الشرّ في العالم تكتنفنا.
ولكننا نؤمن، ولكننا متأكّدون من عونك، من حضورك
فلا تسمح أن يدخل اليأس إلى قلوبنا، ولا ترضَ لنا أن نتخاذل
أجل، سيأتي يوم نعود فيه مع العائدين ونرفع إليك يا الله آيات الحمد
أجل، سيأتي يوم نعود فيه إلى معابدنا ونهتف مع الهاتفين: هوشعنا: الرب مخلّصنا
نقول هذا الكلام بثقة رغم الصعوبات التي يمكن أن تعترضنا.
نفسي تكتئب فأذكرك من أرض حرمون وأرض الأردن، ومن مصعر الجبل الصغير
الغمر يشكو الغمر سقوط أمطارك، أمواجك وتياراتك عبرتْ عليّ.
أنا خائف يا ربّ، وأي إنسان لا يخاف
لهذا بدا الجبل الصغير أمامي شامخاً، والصعوبة الصغيرة أمراً لا أستطيع شيئاً أمامها.
وبدا الاردن، تلك الساقية، نهراً أين منه نهر الفرات ودجلة بل نهر النيل.
صعوبات الطبيعة رمز إلى صعوبات أهم، إلى الشعوب التي تستعبد شعبك يا الله
رمز إلى الذين يمنعون المؤمنين من العيش بأمان في مدينتك وهيكلك
رمز إلى الشرّ المتمثّل بالبحر الذي يريد أن يعيد العالم إلى العدم
رمز إلى إبليس، سلطان العالم، وجيوشه الذين يريدون أن يزيلوا اسمك عن الأرض.
أمام هذا الخطر لا يبقى لي إلا الصلاة والتضّرع نهاراً وليلاً.
في النهار أطلب الربّ ورحمته،
وفي الليل أنشد وأصلّي للإله الحيّ.
أنا خاطئ يا ربّ، ولكن رحمتك أكبر من خطيئتي
أنا على طريق الموت يا ربّ، ولكنك تعيد إليّ الحياة
من أجل هذا أنشد لك وأصلّي.
أقول لله خالقي: لماذا نسيتني؟
لماذا أمشي حزيناً من مضايقة العدو؟
ترضّضت عظامي فعيّرني خصومي
وقالوا نهاراً وليلاً: أين إلهك؟
هل تخلّيت عنّا يا ربّ، هل نسيتنا وما عدت تذكرنا؟
أنت الذي خلقتنا، أما تزال تحفظنا في الوجود؟
أنت الذي خلّصتنا، هل تركت عبادك والمؤمنين بك؟
لماذا تترك الناس يضايقون مؤمنيك؟
في الماضي ساق العدوّ مؤمنيك خارج بلادهم، ومنعهم من الرجوع
ورأى الخصوم ما حلّ بأجسادهم بسبب التعذيب فسخروا منهم
هزىء العدوّ بنا: أين إلهك،
وسخر بنا الخصوم: إلهك بعيد لا يأتي إلى معونتك،
وقال المبغضون: إلهك ضعيف لا يقدر أن يخلّصك.
من أجل هذا عاد اليأس إلى قلوبنا وغمرنا الحزن
عد إلينا يا ربّ، وأعد أيماننا بك، أنت يا فاعل العجائب
إنزع الحزن من قلوبنا، أعد إلينا الأمل والرجاء رغم الشدة والضيق.
لماذا تكتئبين يا نفسي، لماذا تئنّين في داخلي؟
إرتجي الله لأني سأحمده بعد، مخلّصي هو وإلهي.
نحن نعرف يا ربّ أن الشرّ يهدّدنا
يهدّد وجودنا وكياننا، ويهدّد إيماننا ومعتقدنا
نحن كالقدّيس بطرس، نسير على أمواج البحر ونكاد نغرق
ولكننا نرى يدك تمتدّ إلينا، وهي لا شكّ ستنتشلنا.
نحن نتساءل مراراً: هل تركَنا الله، هل تخلّى عنّا ونحن نتألّم من أجله؟
ونبكي: أين أنت يا الله لا تساعدنا؟
غير أنك تدعونا إلى الرجاء: ستأتي يوماً وتخلّص أتقياءك.
كل ماء الدنيا لا يُشبع قلبي أنا المؤمن
ونقطة ماء منك يا ينبوع الحياة تكفي لتروي عطشنا
ماذا ينفعنا إذا ربحنا العالم كله وخسرنا نفوسنا، وخسرناك أنت؟
سعادتنا هي أن نكون بقربك ومعك مهما كانت الظروف التي حولنا