شفاء في بيت حسدا
5: 1- 9
"قم احمل فراشك وامشِ". فتعافى الرجل في الحال.
صعد يسوع إلى أورشليم. والصعود هنا يدلّ على الحج الذي تفرضه الشريعة على المؤمن ثلاث مرّات في السنة. ولكن أي عيد هو هذا العيد؟ عيد الفطير أو عيد المظال؟ إذا وضعنا أمام كلمة عيد أداة التعريف، نكون أمام عيد اليهود الذي هو عيد الفصح.
في بعض المخطوطات لا نجد ذكراً لخاتمة آ 3 ثم آ 4: "ينتظرون تحريك الماء، لأن ملاك الربّ كان ينزل أحياناً في البركة ويحزك الماء. فكان الذي يسبق إلى النزول بعد تحريك الماء يُشفى من أي مرض أصابه". غير أن هذه الملاحظة تهيّىء الخبر الذي يتبع خصوصاً في آ 7: "ينزلني في البركة عندما يتحرّك الماء. وكلما حاولت الوصول إليها سبقني غيري".
إن تفسير العوامل الطبيعية بعمل ملاك (أو: رسول) من عند الله، يقابل النظرة اليهودية الفلسطينية إلى العالم. ولقد انطلق بعض آباء الكنيسة (ترتليان،+ 220 ب. م.) من آ 4 ليتحدّثوا عن المعمودية.
ما معنى "بيت حسدا"؟ قالوا في الماضي: بيت الرحمة والنعمة. وانطلقوا من قمران فتحدّثوا عن "موضع التدفّق". وهناك تقليد يتحدّث عن بيت زاتا أي بيت الزيتون.
إن تحدّثنا عن عيد الفصح في هذا المقطع، نكون أمام أربعة أعياد فصح في إنجيل يوحنا. ولكن إن اعتبرنا أن النصّ يتحدّث عن عيد العنصرة، نكون أمام ثلاثة أعياد: فصح اللقاء مع نيقوديمس (2: 23). فصح تكثير الخبز (6: 4). فصح الآلام (13: 1). وهكذا تكون حياة يسوع العلنية قد امتدّت على ثلاث سنين.
هذا عن الزمان. أمّا عن المكان: بركة بخمسة أروقة قرب باب الغنم. يبدو أنه كان هناك معبد وثني مكرّس لإله الطبّ عند اليونان، اسكلابيوس. وهذا يعني أن المسيحية اتصلت بالعالم اليوناني داخل أرض فلسطين. كما نقول إن كاتب هذا المقطع كان على اطلاع كامل على جغرافية فلسطين. وهذا ما تبيّنه الحفريات التي تتحدّث عن خمسة أروقة (لا أربعة).
إذا أردنا أن نتوقّف عند قرينة النصّ الذي ندرس، نلاحظ أن مضمون "اليهود" و"أورشليم" مهم جداً.
إن استعمال الإنجيلي لكلمة يهود تتوافق مع ميله إلى استعمال تأكيدات تبدو في ظاهرها متناقضة. نقرأ في 4: 22: "الخلاص يأتي من اليهود". ومع ذلك، فلفظة "اليهود" تدلّ على الرؤساء الرسميّين للشعب اليهودي الذين رذلوا الخلاص الذي حمله يسوع في شخصه (10: 31: جاؤوا بحجارة ليرجموه). وستبدأ قريباً المجادلات الكبرى مع اليهود، وستمتد حتى ف 12.
إختلف يوحنا عن الإزائيين، فلم يكن الجليل المكان المفضّل الذي فيه يعمل يسوع، بل أورشليم. ففيها ستتمّ أحداث هذا الفصل. ثم إن الأزمنة الليتورجية والأعياد وموضع العبادة الذي هو أورشليم، كل هذا هو أكثر من إطار خارجي لعرض الوقائع. إنه يدلّ على أهمية الحدث نفسه.
يرى يوحنا أنّ المعجزات هي "آيات" (علامات). وهي تلعب الدور الموجّه إلى الأمور الروحية. هذا ما رأيناه بوضوح مع الآية الأولى في قانا (2: 11). إذن، لا نقدر أن نفهم (في خطّ الإنجيلي) الآية المصوّرة هنا، إلاّ إذا ألقينا نظرة مسبقة على الأمور الروحية التي تعالجها الحوارات اللاهوتية التي تتبع. لهذا، نحن ننطلق من هنا لنفهم المقطع التالي (آ 9 ي).
إن الإشارة إلى كتب موسى في نهاية الفصل (آ 45- 47) تدفعنا إلى أن نفكّر أنه ليس من قبيل الصدفة تحدّث النصّ عن خمسة أروقة (آ 2) كان يرتاح تحتها المرضى طالبون الشفاء. إنّ اليهود يظنّون أنهم يجدون "الحياة الأبدية" في أسفار موسى الخمسة، في البنتاتوكس. وفي نظر يوحنا، صارت الأروقة الخمسة رمزاً إلى البنتاتوكس. بما أن العدد خمسة يدلّ على معنى عميق، فمن المعقول أنه إن ذكر الإنجيلي عدد 38 (آ 5)، فلكي يلفت انتباهنا إلى واقع روحي. ففي تث 2: 14، نقرأ عن 38 سنة خطىء فيها الشعب فأجبر على البقاء في البرية: "ضللنا 38 سنة إلى أن زال كل الجيل". والمريض الذي يطلب شفاءه يمثّل إسرائيل المنتظر في الضيق الملتصق بخطيئته، نهاية عقابه.
وفي المجادلات اللاحقة سنرى يسوع يشدّد على طبيعته الإلهية بشكل لا يُضاهى. إنه يؤكّد أنه يعمل مثل أبيه ومع أبيه. لقد جعل نفسه مساوياً لله (5: 17- 18). ففي كلمة يسوع "قم" يدوّي صوت قوي سيقيم الموتى من قبورهم (5: 28) وسيأمر لعازر فيقول له: "تعال إلى هنا، أخرج" (11: 43). إن يسوع يعمل مثل أبيه الذي يقيم الموتى (5: 21). وما جرى هنا لمريض حصل على شفاء جسدي، سيتمّ في النهاية، في واقع روحي وجسدي من أجل جميع البشر الذين صنعوا الصالحات (5: 29).
يحدّثنا العهد الجديد مراراً عن "حجّ" إلى أورشليم. بهذه المناسبة يصعد يسوع أو الرسل بمناسبة الفصح (أو غيره من الأعياد" إلى المدينة المقدّسة. فحسب الشريعة (خر 23: 14- 17؛ 34: 23؛ تث 16: 1- 17) يجب على كل إسرائيلي ذكر أن يدلّ على أمانته للميثاق فيذهب إلى أورشليم خلال الأعياد الثلاثة: عيد الفصح، عيد العنصرة أو الأسابيع (7 أسابيع بعد الفصح)، عيد المظال أو الأكواخ. أما سائر الأعياد التي انتظمت بعد المنفى (587 ق. م.) فلم تفرض على المؤمن الذهاب إلى الحجّ.
إذا قابلنا هذا المقطع مع ما في الإزائيين، يظهر ما يختلف به يوحنا عنهم. في كفرناحوم، حمل أربعة رجال مخلّعاً وأنزلوه أمام يسوع في فتحة في السقف. إمتدح يسوع إيمان الرجال وقال للمخلّع: "مغفورة لك خطاياك" (مر 2: 5 وز). وإذ رأى بعض معلّمي الناموس في هذا الكلام تجديفاً، برهن يسوع على قدرته العلوية، فأعلن أنه يقدر أن يقول أيضاً للمخلّع: "قم، احمل فراشك واذهب إلى بيتك" (مر 2: 11). تفرّد مرقس فاستعمل كلمة يونانية هي التي استعملها يوحنا. واختلف متى ومرقس. هذا يدلّ على تقليد قديم يسبق زمن تدوين الأناجيل القانونية، فيفسّر التقارب بين مر 2: 9 ويو 5: 8 في خبرَيْ شفاء يختلفان في أمور كثيرة.
وتعطينا المقابلة مع الإزائيين نتائج أخرى. فما يسمّيه يوحنا "آية" في لاهوته للمعجزات، يظهر بوضوح بفضل تسلسل الوقائع والحوار الذي يرافقها. فالشفاء الخارجي هو علامة (لكي تعرفوا، مر 2: 10 وز) للشفاء الداخلي الذي تحقّق أو بدأ يتحقّق. وأبرز الإزائيون إعلان يسوع وارتباطه باللاهوت. أما يوحنا فيربط الشفاء العجائبي بسلطان يسوع السامي على فريضة السبت، وهذا أمر يشير إليه الإزائيون في أماكن أخرى (مر 3: 1- 6 وز؛ لو 13: 10- 17؛ 14: 1- 6).
إنتظر الشعب العبراني في البرية 38 سنة ليدخل أر، س الموعد. وانتظر هذا المخلّع 38 سنة ليلتقي بيسوع وينال الشفاء ويسير مسيرة الإيمان. طريقنا طويلة مع الربّ. بدأنا وقد نسقط. لكن يسوع يقول لنا: "بصبركم تقتنون نفوسكم".