رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
هوية المسيحيين: مِلح الأَرض نُور العالَم الأحد الخامس من السنة: هوية المسيحيين: مِلح الأَرض نُور العالَم (متى 5: 13-16) النص الإنجيلي: (متى 5: 13 -16) 13 ((أَنتُم مِلح الأَرض، فإِذا فَسَدَ المِلح، فأيُّ شَيءٍ يُمِلحه؟ إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلاَّ لأَنْ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس. 14 ((أَنتُم نُور العالَم. لا تَخْفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل، 15 ولا يُوقَدُ سِراجٌ وَيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال، بل عَلى المَنارَة، فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت. 16 هكذا فَلْيُضِئْ نُوركُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات. المقدمة المسيحيون هم مِلح الأَرض ونُور العالَم، كما يُعرّفهم يسوع المسيح (متى 5: 13-16) معلنًا بذلك كيف يجب أن يكونوا، وذلك بمشاركتهم له في نشر النُور والعناية لكل الأرض وللعالم اجمع. وليس هناك أجمل من هذا التعريف لهوية المسيحيين ورسالتهم ودورهم في العالم، كما جاء في تعليم الكنيسة الكاثوليكية "إنهم نواة وحدة ورجاء وخلاص بالغ الفعالية للبشرية كلها " (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية رقم 782). ويُعلق البابا فرنسيس "إن عالم اليوم يحتاج لأشخاص يكونون مِلح الأَرض ونُور العالم " (عظة 16/5/2018). والمسيحيون مدعوون ليكونوا مِلح الأَرض ونُور العالم ليواصلوا دور المسيح الذي هو "نُور العالَم" (يوحنا 8: 12). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 5: 13-16) 13 أَنتُم مِلح الأَرض، فإِذا فَسَدَ المِلح، فأيُّ شَيءٍ يُمِلحه؟ إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلاَّ لأَنْ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس. تشير عبارة "أنتم مِلح الأَرض" إلى صيغة المخاطب بالجمع أي تلاميذ المسيح عمومًا، وبالتحديد الذين يؤمنون بالمسيح. هل نستحق أن نكون كمِلح الأَرض؟ أمَّا عبارة "مِلح الأَرض" فتشير إلى حاجة المِلح إلى الأَرض والعكس بالعكس؛ يرمز مِلح الأَرض هنا إلى التلاميذ الذين ينبغي أن يكون لهم مفعول المِلح في العالم. كما يكون للمِلح مفعوله في الأطعمة، إنه يُطيِّب الطعام ويحفظه من الفساد، بالإضافة إلى أنه مُعقّم ومُطهّر للجروح كذلك تلاميذ المسيح ينبغي أن يُطيّبوا عالم النَّاس ويحفظونهم من الفساد من خلال عهدهم الأبدي مع الله، إذ يذكر الكتاب المقدس عهد المِلح (عدد 18: 19) بمعنى الميثاق الأبدي (2 أخبار 13: 5). وأن المِلح يزيد من الأطعمة شهيّة (أيوب 6: 6) ويحفظ الأطعمة (باروك 6: 27). ويُستعمل في التعاقد للدلالة على ثبات قيمته، فالمِلح يُمثل العهد بين الله والبشر حيث أن إضافة المِلح للذبائح كانت تمثل العلاقة المرجوَّة مع الله. ويرمز المِلح للحكمة لما فيه من عمق التأثير حتى ولو بكمية ضئيلة. ويقصد يسوع هنا أن المسيحي الحقيقي هو الذي يعطى لحياة البشر مذاقها ومعناها. وبالرغم من أن كميته تكون قليلة إلاَّ أنه يمِلح طعامًا كثيرًا. ولكن المِلح لا يفيد الطعام شيئا ما لم يمتزج معه. وهكذا المسيحي يستطيع بقدوته الصَّالحة ومشاركته أن يؤثر في حياة الكثيرين ويجتذبهم إلى الحياة مع الله، كما أنه يمنع الفساد الروحي عن كثير من البشر. يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أنتم مِلح الأَرض" يعني أن الطبيعة البشريّة كلها قد فقدت نكهتها، وأنكم قد فسدتم بسبب خطاياكم، لذلك يطلب يسوع منكم فضائل نافعة وضرورية للعناية بالجميع"؛ التلاميذ هم مِلح الأَرض ليس من تلقاء ذواتهم أو من نظامهم، لكن من قوة المسيح العاملة فيهم؛ وأخيرا يرمز المِلح إلى الزهد في النفس، وهو صفة لا يكون التلميذ بدونها أصيلا. لهذا يُفرض على الإنسان التجرّد، ويُطلب منه أن يتبدّل كما يتبدّل الطعام حين يُوضع فيه المِلح؛ أمَّا عبارة "فإِذا فَسَدَ المِلح، فأيُّ شَيءٍ يُمِلحه؟ فتشير إلى تحذير يسوع من خطر فقدان المِلح طعمه. وبحسب تفسير متى الإنجيلي، ينبغي أن يكون المؤمن "مِلح الأَرض" (متى 5: 13)، أي أنه ينبغي أن يحفظ عالم البشر ويُعطيه مذاقا خلال عهده مع الله، وإلاَّ فإن المؤمن يُصبح عديم الجدوى، ويستحق أن يُطرح خارج الدار (لوقا 14: 35) على غرار المدعو الذي ليس عليه حُلة العرس (متى 22: 12)، وعلى غرار العبد الذي دَفن وزنة سيده (متى 25: 30). لان مِلح العهد، بمعنى أن التعاقد مع الرب يصبح ملغياً في حال فسخه. عندما يتوقف المسيحيون عن كونهم هبة من أجل الآخرين ويقرِّرون العيش لأنفسهم، هم لا يتوقفون فقط عن الخدمة بل يموتون. ويشير المِلح أيضا إلى إنذار للمسيحيين: يجب عليهم ألا يفسدوا، أي أن لا يبتعدوا عن الحكمة والنقاوة الأدبية، بل أن يكونوا مُخلصين لأنفسهم ولله وللإنجيل. وإذا لم يبذلوا جهدهم للتأثير في العالم إيجابيا فما هي فائدتهم؟ فلا قيمة لهم! ويُعلق القديس هيلاريون "من فقد طعم المِلح يُصبح بلا نفع لغيره ولنفسه". النَّاس إذا فسدوا يقوم المسيحيون بإصلاحهم، لكن إذا فسد المسيحيون فإنهم يهلكون ويُهلكون معكم آخرين. وفي هذا الصدد قال يسوع " كُلُّ شَجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمَراً طَيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار" (متّى 7: 19). وكيف يستطيع المسيحي أن يقول للناس لا تكذبوا، وهو يكذب! ويقول للناس لا تسرقوا، وهو يسرق! ويقول للناس عيشوا بالقداسة، وهو يدنّس المقدسات! يعلق الأديب والشاعر الفرنسي بول كلوديل "الإنجيل هو المِلح. إلاَّ أنَّ بعض المسيحيين قد حوّلوه إلى سُكْرٍ إن لم يعملوا بما يعلِّمون"، وعندئذ يكونوا هم سبب تجديف على اسم الرب، كما يقول بولس الرسول "يُجَدَّفُ بِاسمِ اللهِ بَينَ الوَثَنِيِّينَ وأَنتُمُ السَّبَب"(رومة 2: 24)، ويضيف القديس يوحنا الذهبي الفم "سيحاسب المسيحي لا من أجل حياته فحسب، بل من أجل العالم كله"؛ أمَّا عبارة "إِذا فَسَدَ "، في الأصل اليوناني μωρανθῇ (معناها فقدان القوة والمذاق وحماقة) فتشير إلى النصوص التي وردت فيها (لوقا 14: 34) إلى أشخاص زَعَموا أَنَّهُم حُكَماء، فإِذا هم حَمْقى (رومة 1: 22)، ويظنون انهم حكماء، لأنَّهم يوهمون أنفسهم انهم يستطيعون أن يخلَّصوا نفوسهم بأنفسهم وهذا بالتحديد حماقة، كما يصرح بولس الرسول " أَلم يَجعَلِ اللّه حِكمَةَ العالَمِ حَماقة؟”(1 قورنتس 1: 20). أمَّا عبارة "فأيُّ شَيءٍ يُمِلحه؟" فتشير إلى المِلح الذي يفقد خواصه الكيميائية بعد بضع سنوات فيُطرح. لأنه يُصبح بلا ملوحة، كما جاء في إنجيل مرقس "المِلح شَيءٌ جَيِّد، فإِذا صارَ المِلح بلا مُلوحَة، فَبِأَيِّ شَيءٍ تُمِلحونَه؟" (متى 9: 50). فإذا سار معلمو الشعب ومرشدوه على طريق الضلال، فمن الذي يُهديهم؟ وفي هذ الصدد يقول صاحب الرسالة إلى العبرانيين " الَّذينَ تلقَّوُا النُور مَرَّةً وذاقوا الهِبَةَ السَّماوِيَّة وصاروا مُشارِكينَ في الرُّوحِ القُدُس وذاقوا كَلِمَةَ اللهِ الطَّيِّبَة وقِوى العالَمِ المُقبِل، إِذا سَقَطوا مَعَ ذلِك، يَستَحيلُ تَجْديدُهم وإِعادَتُهم إلى التَّوبَة لأَنَّهم يَصلِبونَ ابنَ اللّهِ ثانِيَةً لِخُسْرانِهِم وُيشَهِّرونَه"(عبرانيين6: 4-6). ويُعلق القديس ايرونيموس "إن سقط الآخرون ربّما يستطيعون أن ينالوا العفو، ولكن إن سقط المعلّم، فإنه بلا عذر، ويسقط تحت انتقام غاية في القسوة". أمَّا عبارة " إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك " فتشير إلى المِلح الذي لا يعود مِلحا إذا فقدَ ملوحته؛ وكذا نقول عن المسيحي إن لم يشع المسيح وإنجيله فقّدَ قيمته وهويته. أمَّا عبارة " يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار "فتشير إلى التلاميذ الذين يتوقفون عن التأثير الذي أراده الله من وجودهم، فلا يكونوا بلا نفع فقط، بل يُصبحون موضوع ازدراء النَّاس أيضا. 14 أَنتُم نُور العالَم. لا تَخْفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل، تشير عبارة "أَنتُم نُور العالَم" إلى حاجة البشرية إلى النُور والعكس بالعكس مما يدل على حضور التلاميذ وارتباطهم مع النَّاس ومن أجل البشرية جمعاء. فهم وجه تلّميذ الملكوت. إنْ فُقدان هذه العلاقة يُفقد التلاميذ معنى رسالتهم. وهنا يشير يسوع إلى دور المسيحيين الذي يعكس نُور المسيح للعالم؛ إذا كان المِلح يؤثر داخلا، فالنُور يؤثر خارجاً. فهم نُور المسيح، لأنَّهم يمنحون العالم حقاً وقداسة وعلما وينقُّونه من الضلال، وهم يستمدّون نُورهم من المسيح لأنَّهم شركاء نُوره، كما جاء في تعليم بولس " فأَنتُم نُورٌ في الرَّبّ " (أفسس 5: 8). والمسيح نفسه هو نُور من نُور" الذي أشرق في قلوبهم. انه "نُور العالم" (يوحنا 8: 12). يتوجب على المسيحيين أن يشاركوا العالم في "النُور" المؤدي إلى الحياة الحقيقية لدى الآب السماوي في شخص المسيح الذي دخل بالصليب في مجد الآب؛ والمسيحيون يرسلون نُورهم إلى العالم بتعاليمهم وقدوتهم. فهل ندرك معنى أن نكون نُورا للأخرين؟ أمَّا عبارة "العالم" في النص اليوناني κόσμος, (معناها الكون) فتشير إلى جملة الموجودات التي لها مكان وزمان. ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم "لا أرسلكم إلى مدينتين أو عشرة مدن أو عشرين مدينة، ولا إلى أمَّة واحدة كما أرسلت الأنبياء، إنّما أرسلكم إلى البرّ والبحر والعالم كله، الذي صار في حالة شرّيرة"؛ أمَّا عبارة "لا تَخْفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل" فتشير إلى النُور الظاهر. فيتوجب على المسيحيين أن يظهروا بتأثيرهم وقدوتهم للعالم، وإلاَّ لا نفع من نُورهم. ولا يمكن للمضايقات أن تُخفي الحق أو تُبطل خدمة البشارة وعمل الله. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أظن أنه لا يمكن لمدينة كهذه أن تُخفي، هكذا يستحيل أن ينتهي ما يكرزون به إلى السكون والاختفاء". أمَّا عبارة " مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل" فتشير إلى أورشليم، فهي مبنية على جَبَل صهيون (رؤية 21: 10)، وأورشليم هي رمز للكنيسة وللنفس البشرية المؤسسة على صخر الدهور، ولذلك تسمى الكنيسة مَنارَة (رؤية 1، 2، 33). فالكنيسة في تاريخ العالم بمنزلة مدينة على جَبَل، لأنَّها هي مَنارَة العالم. وهناك آراء يحدِّدون مدينة صفد هي "مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل"، إذ تقع صفد في منطقة الجليل، وتُعتبر واحدة من أكثر مدن البلاد ارتفاعاً عن سطح البحر بحوالي 900 متر فوق سطح البحر. 15 ولا يُوقَدُ سِراجٌ وَيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال، بل عَلى المَنارَة، فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت. تشير عبارة "سِراجٌ " إلى وعاء كان يُصنع من فخار أو نحاس يُوضع فيه سائل قابل للاشتعال، كالزيت أو النفط أو القطران، ثم يوضع فيه فتيل يشعلونه عند حلول الظلام. وهكذا المسيحيون يوقدون بزيت النعمة ويحترقون، أي يقدِّموا أجسادهم ذبائح حية، كما ورد في توصيات بولس الرسول " إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة" (رومة 12: 1)؛ والروح القدس يُشعلهم ويجعلهم نُوراً يعكس نُور المسيح الذي فيهم؛ والسِراجٌ يرمز أيضا إلى الهداية كما يترنم صاحب المزامير "كَلِمَتُكَ مِصْباح لِقَدَمي ونُور لِسَبيلي" (مزمور 119: 104)، كلام الله هو النُور الذي يضيء طريقنا، وهو نُور لخطواتنا، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان السيد المسيح " أنا الذي أوقد النُور، أمَّا استمرار إيقاده فيتحقق من خلال جهادكم أنتم. وبالتأكيد لا تقدر المصائب أن تعطل بهاءَكم إن كنتم لا تزالون تسلكون حياة تليق بنعمته، فتكونون سبباً لتغيير العالم كله"؛ أمَّا عبارة " َيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال " فنشير في القديم إلى عادة حيث كان النَّاس يحملون محصولهم من القمح في الليل لكيلا يراهم أحد ويصيبهم بالحسد ثم يضعون السِراجٌ أي القنديل تحت المِكيال الذي يستخدم لتعيين حجم الحبوب لبيعها، وطبعا المِكيال يُخفي ضوء القنديل فلا يرى النَّاس كمية القمح! أمَّا عبارة "المِكيال" فتشير إلى وعاء ذو سعة مُعيَّنة من حديد أو خشب يُستعمل لكيل السَّوائل والموادّ الجافّة، ويرمز المِكيال إلى الحسابات البشرية المادية التي كثيراً ما تقف عائقاً أمام الإيمان (يوحنا 6: 5 – 7)، لذلك حينما أرسل السيد تلاميذه للكرازة سحب منهم كل الإمكانيات المادية" لا تَقتَنوا نُقوداً مِن ذَهَبٍ ولا مِن فِضَّةٍ ولا مِن نُحاسٍ في زَنانيرِكم" (متى 10: 9) لكي ينزع عنهم كل تفكير مادي، تاركًا كل الحسابات في يديّ الرب نفسه، كونه هو غناهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم وحمايتهم! والمِكيال يشير أيضا إلى الخطيئة التي تحجب النُور الروحي تحت وعاء حيث يغلِّف الإنسان روحه بملذات العالم، فيحبس الروح، فيتحوّل الجسد عائقا للروح؛ كما أنه يرمز إلى الانحرافات السلوكية والدينية، وكما يرمز أخير إلى إخفاء أو إهمال صوت الخير والحق، وقد يكون نتيجة الكبرياء والتمركز حول الذات. كم مكيال حاول ويحاول البعض من قادة ومن مِلحدين وناقمين من خلاله إخفاء نُور المسيح ونُور الكنيسة ونُور القديسين فيها؟ أمَّا عبارة "المَنارَة" فتشير إلى الكنيسة؛ ويُعلق يوحنا الذهبي الفم " أظن انه لا يمكن لسِراجٌ على المَنارَة أن يُخفى، هكذا يستحيل أن ينتهي ما يكرزون به إلى السكون والاختفاء". أمَّا عبارة "فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت" فتشير إلى المسيحيين الذين إذا عاشوا للمسيح وأظهروا للآخرين من هو المسيح بشهادة سيرتهم الصَّالحة، فإن حياتهم نُور يُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في الكنيسة وفي العالم؛ أمَّا عبارة "البَيْت" فتشير إلى بيت الفقراء الذي يتألف من غرفة واحدة، كما هو الحال في بلاد الشرق، ويرى القديس أوغسطينوس "إنَّ البَيْت هنا يعني مسكن البشر، أي العالم، ولكنه يشير أيضا إلى الكنيسة". يركّز يسوع في هذه الآية على قدرة النُور وحِدّته. لا يستطيع أحد إخفاءه أو مقاومة إشعاعه. نُور المسيحيين يُنير على الجميع كما ينير السِراجٌ على كل الجالسين في البَيْت. لا يجوز لتلاميذ المسيح أن يخفوا ما قبلوه من المسيح، لان الله أراد منهم أن يكونوا واسطة لنشر تعاليم الإنجيل للعالم. 16هكذا فَلْيُضِئْ نُوركُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات. تشير عبارة "فَلْيُضِئْ نُوركُم" إلى نُور الروح القدس الساكن في المسيحيين (رومة 8: 11)؛ أمَّا عبارة " لِلنَّاس " في الأصل اليوناني ἔμπροσθεν τῶν ἀνθρώπων (معناها قدام النَّاس) فتشير إلى عيون النَّاس، لا خفية عنهم. ومن هنا ضرورة أن تكون أعمال التلاميذ الصَّالحة ظاهرة لا خفيَّة. أمَّا عبارة "لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة" فلا تشير إلى أفكار وتعاليم بل إلى أعمال التطويبات وهي العيش بروح الفقر المُعتمِدة على عون الله، وعيش الرحمة والوداعة والعدالة بين النَّاس وطهارة القلب واستقامة الحياة الشخصية التي توجِّهنا نحو الله. ولذا يحثُّ القديس بطرس المسيحيِّين "أَن يَتَجَنَّبوا شَهَواتِ الجَسَد، ويسِيروا سِيرةً حَسَنةً في العالم، حتَّى إِذا افتَرَوا علَيكم أَنَّكم فاعِلو شَرّ شاهَدوا أَعمالَكمُ الصَّالحة فمَجَّدوا اللّهَ يَومَ الافتِقاد". أمَّا إذا أطفأ المسيحيون هذا النُور، تفقد حياتهم معناها، ويصبحون مسيحيين اسميا فقط. أمَّا عبارة "فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" فتشير إلى المسيحيين الذين لا يعملون الأعمال الصَّالحة لتمجيد أنفسهم وطلب مدح النَّاس لهم كما كان يفعل الفريسيُّون، إنما لتمجيد الله كي يسبِّحوه ويحمدوه تعالى. ويُعلق القديس أوغسطينوس "لم يقل " لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة " فقط، بل أضاف " فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات"، لأن الإنسان يُرضي الآخرين بأعماله الصَّالحة، لا لأجل إرضائهم في ذاته، بل لتمجيد الله في عمله، لأنَّه يليق بالذين يعجبون بالأعمال الصَّالحة أن يمجّدوا الله لا الإنسان، وذلك كما أظهر ربّنا عند شفاء المفلوج، إذ يقول متى الإنجيلي: "مَجَّدوا اللهَ الَّذي أَولى النَّاس مِثلَ هذا السُّلطان" (متى 9: 8). يقتضي أن يتَّخذ المسيحيون نُور الحق في هذا العالم المُظلم، كما يتخذ النَّاس السِراجٌ في بيوتهم فيُضيئوا للناس بقدوتهم وفضائلهم. في البَيْت المنير ليس المجد للأضواء بل لصاحب البَيْت، وفي المدينة العامرة ليس المجد للبناء بل للباني. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي وتحليله (متى 5: 13-16) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 5: 13-16)، نستنتج انَّه يتمحور حول هوية المسيحيين: أنهم مِلح الأَرض ونُور العالم. وحين يدعو يسوع المسيحييِّن "مِلح ونُور"، للدلالة على دورهم الضروري في المجتمع، شرط أن يظلوا مِلحاً حقيقياً لم يفقد طعمه، ونُوراً على المَنارَة يُضيء للناس بأعمالهم الصالحة. 1. أَنتُم مِلح الأَرض (متى 5: 13) المِلح هو مركّب كيميائي مكوَّن من الصوديوم وهو عنصر معدني فريد، والكلور وهو غاز سام. يتحد هذان العنصران ليُشكلا تركيبا مفيدا، وهو تدبير رائع من الخالق لخير الجنس البشري، كما يترنَّم صاحب المزامير "ما أَعظَمَ أَعْمالكَ يا رَبّ لقد صَنعتَ جَميعَها بِالحِكمة فاْمتَلأَتِ الأَرض مِن خَيراتِكَ" (مزمور 104: 24). المِلح في اللغة اللاتينيةSal . وفي أيام الإمبراطورية الرومانية كان الجنود يتلقون جزءا من راتبهم (salarium) مِلحا. وعندما كان يسوع المسيح على الأَرض كان المِلح متوافرا إلى حد بعيد. مثلا، زودت مياه البحر الميت مصدرا جيدا للمِلح (التكوين 19: 26) . والجميل أن عنصر المِلح لا يخدم ذاته، إذ المِلح لا يمِلح ذاته، والمِلح وحده لا يُؤكَل، فهو غير صالح بمفرده، انه وُجد لخدمة الأَرض وما عليها. الإنسان لا يقدر أن يستغني عن المِلح؛ فهو يُستعمله لحفظ الطعام ولإعطائه نكهة، وقد استخدم الله المِلح في الكتاب المقدس بصور متعددة مما يُبيِّن هوية المسيحيين ودورهم كمِلح الأَرض. المِلح هو من أكثر المواد الغذائية ضرورةً للإنسان كما جاء في تعليمات سفر يشوع بن سيراخ "رَأسُ ما تَحْتاجُ إِلَيه حَياةُ الإِنْسان الماءُ والنَّارُ والحَديدُ والمِلح"(سيراخ 39: 26)، وفي موضع آخر يقول أيوب:" أَيُؤكَلُ التَّفِهُ بِغَيرِ مِلح (أيوب 6: 6)، كذلك العالم بحاجة إلى المسيحيين كحاجة الطعام إلى مِلح، وذلك للأمور التالي: (ا) كما أنَّ المِلح هو رمز عهد الله مع البشر ودوام التعاقد في "عهد المِلح " (عدد 18: 19) ميثاق دائم، كالذي تمَّ بين الله وداود النبي (2 أيام 13: 5)، وبحسب طقوس الأضاحي القديمة ينبغي أن تكون كل التقدمات مُمِلحة لتثبيت العهد (الأحبار 2: 13)، كذلك المسيحيون يذكّرون عهد الله مع شعبه لتثبيته والمحافظة على الأمانة تجاهه سبحانه تعالى. وهذا الأمر يتطلب من المسيحيين الأمانة للعهد مع الله ومع أولئك اّلذين هم جزء من شعبه وكنيسته. ونحن بالشرق نهتم بأنّ نتقاسم "العيش والملح" كعلامة للأخوة وقبول صداقة القريب. (ب) كما أنَّ المِلح يُوضع على المحرقة المقرَّبة لله، كما ورد في سفر حزقيال "قَرَبْهُما أَمامَ الرَّبّ، ولْيُلقِ الكَهَنَةُ علَيهما مِلحا وُيصعِدوهما مُحرَقَةً لِلرَّبّ" (حزقيال 43: 24)، وذلك لإعطاء مذاق وطعم "لخبز الإله" (الأحبار 21: 6)، لان المِلح يُعطي الأطعمة نكهة وطعماً (أيوب 6: 6)، كذلك على المسيحيين أن يؤثروا في الشعب وبأعمال المحبة والرحمة والخدمة (متى 5: 13). هل نختبر في حياتنا المسيحية منطق الأمانة والعدل والرحمة. (ج) كما أنَّ للمِلح خاصية حفظ الطعام من الفساد (باروك 6: 27) كذلك على المسيحيين أن يحيوا حياة فاضلة حياة الوداعة والرحمة وطهارة القلب والسلام محافظين على حياتهم وحياة شركائهم في المجتمع من فساد الخطيئة بالصوم والصلاة ومختلف الإماتات. إن مجرد وجود إنسان مسيحي حقيقي في وسط أناس كثيرين، يمنع بلايا ومصائب كثيرة، كما قال الله لإبراهيم " إِن وجَدتُ في سَدومَ عشرة من الأبرار في المَدينة (سدوم)، فإِنِّي أَصْفَحُ عن المَكانِ كُلِّه مِن أَجْلِهم " (تكوين18: 32). المسيحيون عليهم مسئولية كبيرة تجاه خلاص الآخرين والمحافظة عليهم من الفساد الموجود في العالم. ويُعلق العلامة أريجين، أحد آباء الكنيسة قائلا "كما أنَّ المِلح يحفظ اللحم من الفساد ويجعله صالحا للأكل مدة أطول، هكذا المسيحيون يصبحون مِلحا يحفظون العالم من الخطايا والآثام ". وفي هذا الصدد يقول يعقوب الرسول " فاعلَموا أَنَّ مَن رَدَّ خاطِئًا عن طريقِ ضلالِه خَلَّصَ نَفْسَه مِنَ المَوت وسَتَرَ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (يعقوب5: 20). ومن هذا المنطلق، مطلوب من الإنسان المسيحي عمومًا أن يكون سبب خلاص وحفظ للعالم من الشرور والفساد. (د) كما أنَّ للمِلح وظيفة التطهير لدى رشّه في الماء، كما حدث مع أليشاع النبي الذي "شفى الماء الرديء (2 ملوك 2: 19-22)، ووظيفة المِلح أيضا طرد الشرير (حزقيال 16: 4)، كذلك على المسيحيين أن يشفوا المرضى ويطردوا الشياطين، كما أوصى يسوع تلاميذه "اِشْفوا المَرْضى واطرُدوا الشَّياطين "(متى 10: 8). (ه) كما أنَّ المِلح يرمز في الشرق الأوسط إلى تقاسم "العيش والملح" كعلامة للأخوة وقبول صداقة القريب، كذلك على المسيحيين أن يشاركوا الآخرين في الخدمة فيذوبون فيهم كالمِلح في الطعام، ويعطون الطعم الطيب من خلال العلاقات الصدق والأمانة والطيبة والثقة والمحبة. ويوضّح بولس الرسول أهمية المِلح في علاقة المسيحيين مع الآخرين بقوله "لِيَكُنْ كَلامُكم دائِمًا لَطيفًا مَليحًا فتَعرِفوا كَيفَ يَنبَغي لَكم أَن تُجيبوا كُلَّ إِنسان" (قولسي 6:4)؛ فكلمة مليح في الأصل اليوناني ἅλατι (مشتقة من المِلح). ومن هذا المنطلق، على المسيحيين أن يتكلموا باقتناع وحرارة وبقوة الروح القدس (1 قورنتس 2: 5) حول كلمة الله حيث يُمكنهم تحويل قلوب النَّاس إلى حق كلمة الله. فكم هو حيوي أن يكون كلامهم كريما وجذابا ولينا ومليحا. " الجَوابُ اللّيِّنُ يَرُدُّ الحَنَق والكَلامُ المُؤلمُ يُثيرُ الغَضَب"(أمثال 15: 1) . ويوصي بولس الرسول " لا تَخرُجَنَّ مِن أَفْواهِكم أَيَّةُ كَلِمَةٍ خَبيثَة، بل كُلُّ كَلِمةٍ طيِّبةٍ تُفيدُ البُنْيانَ عِندَ الحاجة وتَهَبُ نِعمَةً لِلسَّامِعين" (أفسس 4: 29 – 30). ويوصي المسيح تلاميذه " فَلْيَكُنْ فيكُم مِلح"(مرقس 9: 50) أي مليحا. (و) كما أنَّ المِلح أداة للإنذار والعقاب وعلامة لعنة بسبب الخيانة للرب ، إذ عُوقبت زوجة لوط وتحوّلت إلى نصب مِلح (تكوين 19: 26)، ويُبذر المِلح فوق المدينة المهزومة (قضاة 9: 45)، وعندئذ "لن يخرج منها شيء من العشب" (تثنية 29: 23) كذلك المسيحيون إذا فسدوا يُصبح تعاقدهم مع الرب مَلغياً في حالة فسخٍ، فهم يستحقون أن يُطرحوا خارج الكنيسة، كما يقول الرب "إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلاَّ لأَنْ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس" (متى 5: 13)، فالمِلح يُنذر المسيحيين أن لا يَفسَدوا، بل أن يكونوا مُخلصين لأنفسهم وقبل كل شيء لإنجيل التطويبات (لوقا 14: 35). فلا عجب أن يُعلق القديس يوحنا الذهبي "أنتم أيها المسيحيُّون ستحاسبون لا من أجل حياتكم فحسب، بل من أجل العالم كله". (ز) كما أنَّ المِلح الذي يوضع في الطعام يذوب ويتلاشى ويختفي، ولكنه يؤثر تأثيرًا قويًا في هذا الطعام، كذلك المسيحيُّون يفقدون حياتهم في سبيل المسيح، كما جاء في تعليم يسوع "مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متى 10: 39). يمكن للمسيحيِّين "إضفاء نكهة المسيح الطيّبة" على حياة مَن يرافقوهم فيصيروا حقًا تلّاميذ الملكوت. (ح) كما أنَّ للمِلح وسيلة واحدة لإيقاف نزيف الجروح في الجسم المُصاب وتحفظ حياة المُصاب، كذلك على المسيحيِّين إعادة الحياة لعالم مليء بالخطيئة كونوهم شركاء لعمل يسوع الذي هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). وباختصار، يريد يسوع من المسيحيِّين أن يعطوا حياة البشر مذاقتها. لم يكتف يسوع أن يقول لنا "أَنتُم مِلح الأَرض" بل يُحذّرنا لئلا نفسد، فلا نجد من يمِلحنا وينزع عنّا الفساد، فأضاف "إِذا فَسَدَ المِلح، فأيُّ شَيءٍ يُمِلحه؟ إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلاَّ لأَنْ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس". المِلح إذا فسد يصبح عقيم، هكذا التلميذ الذي يحتفظ بحياته لنفسه، خوفا من فقدانها، فلن يستطيع أن يلد حياة أخرى، بل هو نفسه يموت. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "يشفع الكاهن لدى الله من أجل الشعب الخاطئ، ولكن ليس من يشفع في الكاهن (متى أخطأ)". وفي نفس المفهوم يقول القديس ايرونيموس "إن سقط الآخرون ربّما يستطيعون أن ينالوا العفو، ولكن إن سقط المعلّم، فإنه بلا عذر، ويسقط تحت انتقام غاية في القسوة". يا لها من مسؤولية كبيرة ألقاها يسوع على عاتق المسيحيين. بناء على ما سبق، قبل أن نسعى لخلاص الآخرين، علينا أن نعتني بخلاص أنفسنا، وقبل أن ندعو الآخرين للتوبة، علينا أن نقود أنفسنا إلى حياة التوبة، على خطى بولس الرسول: " أقَمَعُ جَسَدي وأُعامِلُه بِشِدَّة، مَخافةَ أَن أَكونَ مَرفوضًا بَعدَ ما بَشَّرتُ الآخَرين" (1 قورنتس 9: 27). إنه موقف خطير ومهين أن يفسد المِلح الذي كان المفترض فيه أن يحفظ غيره من الفساد. نستنتج مما سبق أنَّ ارتباط المسيحيِّين بيسوع وبإنجيله يجعلهم جيدين كالمِلح. ولكن المِلح لا يعود مِلحا إذا فقد ملوحته، كما يقول الرب "المِلح شَيءٌ جَيِّد، فإِذا صارَ المِلح بلا مُلوحَة، فَبِأَيِّ شَيءٍ تُمِلحونَه؟" (مرقس 9: 50)، كذلك المسيحيين إن لم يبقوا أمناء للمسيح وتعليم إنجيله يطرحون في خارج الكنيسة والعالم ويحتقرهم كالمِلح الفاسد" إِنَّه لا يَصلُحُ لِلأَرضِ ولا لِلزِّبْل، بل يُطرَحُ في خارِجِ الدَّار" (لوقا 14: 35). ويخاطب يسوع اليوم قلوب المسيحيين كاشفًا عن واقعنا البسيط فنحن بالفعل كالملح، رخيص الثمن، إلّا أنّ دوره جوهري في حفظ الطعام وإعطائه نكهة... إذن طبيعة الملح تنتمي لك المسيحيين، لكلٍ منّا. ولكن الخطر هو أن يفقد الملح جوهريته. إن كلام يسوع لتلاميذه "أنتم مِلح الأَرض"، قد جاء للدلالة على إنسان التطويبات، ذاك الإنسان الفقير والوديع والطاهر والمُضطَهد والداعي للسلام والساعي إلى الكمال. هذا هو الإنسان المسيحي الحقيقي الذي يعطى الحياة البشرية مذاقها، بالرغم من أن كميته قليلة. إنه يستطيع بقدوته الصَّالحة أن يؤثر في حياة الكثيرين ويجتذبهم إلى الحياة مع الله، كما أنه يمنع الفساد الروحي عن كثير من البشر المُعرَّضين إلى خطر الانزلاق في العالم وشهواته. أمَّا إذا شابه المسيحيون العالم فلا قيمة لهم، ويُعلق القديس أوغسطينوس " إن كنتم أنتم الذين بواسطتكم تحفظ الأمم من الفساد، تخسرون ملكوت السماوات بسبب الخوف من الطرد الزمني، فمن هم الذين يُرسلهم الرب لخلاص نفوسكم، إن كان قد أرسلكم لأجل خلاص الآخرين؟" فلا داع للخوف، إن كنّا في محبتنا للبشر نشتهي أن نخدمهم ونذوب فيهم كالمِلح في الطعام لنقدّمهم خلال التوبة طعامًا شهيًا يفرح به الله، فإن الله لا يتركنا نذوب في الأَرض. السؤال أخيرا يُطرح كيف نكون "مِلحا" نعطى الحياة نكهةً وطعمًا ومعنى؟ 2. أَنتُم نُور العالَم (متى 5: 14) النُور أو الضوء هو طاقة مضيئة، في الغالب، يتَّصف على أنه شعاع كهرومغناطيسي تستطيع العين البشرية تلقيه والإحساس به، وهو المسؤول عن حاسة الإبصار. لأنه دونه لا يستطيع الإنسان أن يرى الأشياء حوله. فالنُور لا يُنير نفسه، فوُجد النور لا يخدم ذاتيه إنما يُستخدم لرؤية الأشياء التي يقع عليها؛ ودون نُور لا لون ولا بهاء ولا حياة في العالم. كما يسمح النُور لأولئك الموجودين في الظلام بأن يروا، هكذا العالم بحاجة إلى نُور الله، ونُور المسيح ونُور المسيحيين للتوجّه نحو الله. النّور له علاقة بالله، وبقوة كلمته، فإن المسيحيين مدعوين ليكونوا نّور الله ونور المسيح بعالمهم. (ا) نُور الله يحتل النُور مكاناً بارزاً بين الرموز الدينية في الكتاب المقدس. وأول عمل قام به الخالق، هو الفصل بين النُور والظلام (تكوين 1: 3-4). وفي ختام الكتاب المقدس نجد الله نفسه نُور الخليقة الجديدة "المَدينَةُ لا تَحْتاجُ إلى الشَّمسِ ولا إلى القَمَرِ ليُضيئا لَها، لأَنَّ مَجدَ اللهِ أَضاءَها، وسِراجٌها هو الحَمَل" (رؤيا 21: 23). والنُور يرمز إلى الله، على ما جاء في نبوءة أشعيا: " قومي آستنيري فإِنَّ نُوركِ قد وافى ومَجدَ الرَّبِّ قد أَشرَقَ علَيكِ" (أشعيا 60: 1). النُور علامة تُظهر بطريقة ملموسة شيئاً من صفات الله. إنه أشبه بانعكاس لمجده، كما يترنَّم صاحب المزامير "أَنتَ المُلتَحِفُ بِالنُور كرِداء الباسِطُ السَّماءَ كالسِّتارة "(مزمور 104: 2). ويعكس النُور أيضا حكمة الله، التي هي فيض مجده تعالى، " لأنَّ الحكمة إنعِكاسٌ لِلنُور الأزَليَ ومِرآةٌ صافِيَةٌ لِعَمَلِ الله وصورَةٌ لِصَلاحه" (حكمة 7: 26)، فالنُور هو من الجوهر الإلهي. يُعتبر النُور في العهد الجديد أفضل رمز لطبيعة الله كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "إِليكمُ البَلاغَ الَّذي سمِعناه مِنه ونخبِرُكم به: إِنَّ اللهَ نُور لا ظَلامَ فيه" (1يوحنا 1: 5). وبناء عليه، يتضمّن النُور حضور الله الذي صار قريباً (خروج 24: 10-11)، ويعطي إحساساً بالاطمئنان، كما جاء في صلاة المزامير "أَنِرْ بِوَجهِكَ على عَبدِكَ وخَلَصْني بِرَحمَتِكَ" (مزمور 31: 17). ويحمل حضور الله طابع الحماية فيُضيء خُطى الإنسان "كَلِمَتُكَ مِصْباح لِقَدَمي ونُور لِسَبيلي" (مزمور 119: 104)، ويُنير عينيه بإنقاذه من الخطر "أُنظُرْ واْستَجِبْ لي أَيُّها الرَّبّ إِلهي وأَنِرْ عَيَنيَّ لِئَلاَّ أَنامَ نَومةَ المَوت" (مزمور 13: 4). ويقود الله الإنسان البار إلى فرح يوم مضيء "لأنَّ يَنْبوعَ الحَياةِ عِندَكَ ونُعايِنُ النُور بِنُوركَ" (مزمور 36: 10)، وعلى هذا النحو، يُمثل النُور السعادة، وهو مصير الذي ينتظره الإنسان المؤمن، كما يترنّم صاحب المزامير "الرَّبُّ نُوري وخَلاصي" (مزمور 27: 1). (ب) نُور المسيح المسيح بصفته ابن الله هو أيضا نُور. نُور من نُور كما نعلن في قانون الإيمان. هو النُور الأزليّ، النُور الذي لا زمنَ له، والذي ظهرَ في الزمنِ، ظهرَ في جسدِه وخَفِيَ في طبيعتِه، النُور الذي أحاطَ بالرعاةِ، وقادَ المَجُوسَ في الطريق. وبإمكان كل إنسان أيا كان أصله أو وضعه، أن يستنير به لتحقيق حياته " النُور الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إلى العالَم" (يوحنا 1: 9). أعلن يسوع نفسه أنه النُور، ولاسيما بأعماله وكلامه، إنه نُور العالم "ما دُمتُ في العالَم. فأَنا نُور العالَم" (يوحنا 9: 5). وفي مكان آخر يقول " مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نُور الحَياة" (يوحنا 8: 12)، "جِئتُ أَنا إلى العالَمِ نُوراً فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام" (يوحنا 12: 46). إنه نُور العالم لأنه يمنح نُور الإيمان لمن يجهلونه (2 قورنتس 4: 6). ظل النُور الإلهي الذي كان يحمله يسوع على هذه الأَرض مُختبئاً وراء تواضع جسده. إلاَّ أنه ظهر فيها بطريقة ملموسة أثناء التجلِّي. فذاك الوجه المُشعّ كالشمس، وتلك ثِيابُه "تَلألأَت كالنُور" (متى 17: 2) تعبِّر مقدَّماً عن حالة المسيح القائم من بين الأموات. قد ظهر نُور المسيح للرسول بولس في نُور ساطع، كما جاء في قصة اهتدائه "بَينَما هو سائِرٌ، وقَدِ اقتَرَبَ مِن دِمَشق، إِذا نُور مِنَ السَّماءِ قد سَطَعَ حولَه" (أعمال 9: 3)، والنُور الذي أشعّ به وجه المسيح هو، في الواقع، نُور مجد الله ذاته "فإِنَّ اللّهَ الَّذي قال: لِيُشرِقْ مِنَ الظُّلمَةِ نُور هو الَّذي أَشرَقَ في قُلوبِنا لِيَشُعَّ نُور مَعرِفَةِ مَجْدِ اللّه، ذلِكَ المَجْدِ الَّذي على وَجْهِ المسيح "(2 قورنتس 4: 6)، فبصفته ابن الله، "هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيين 1: 3). أضاء لنا نُور المسيح كما صرَّح بولس الرسول " تَنبَّهْ أَيُّها النَّائِم وقُم مِن بَينِ الأَمْوات يُضِئْ لَك المسيح" (أفسس 5: 14) فانتعشنا بنُوره "فالَّذينَ تلقَّوُا النُور مَرَّةً وذاقوا الهِبَةَ السَّماوِيَّة وصاروا مُشارِكينَ في الرُّوحِ القُدُس"(عبرانيين 6: 4). ولذلك فان الرب يضع أمامنا خطة واضحة للسلوك وهي سيرة أبناء لنُور " بالأَمْسِ كُنتُم ظَلامًا، أَمَّا اليَومَ فأَنتُم نُور في الرَّبّ. فسِيروا سيرةَ أَبناءِ النُور" (أفسس 5: 8). كما أنَّ الإنسان من خلال النُور يستطيع رؤية الأشياء على حقيقتها، كذلك يتمكن المرء من معرفة الحق بواسطة نُور تعاليم المسيح وتبشير رسله الذين دعاهم نُور العالم؛ ولذلك فإن المسيح يطلب من أتباعه المسيحيين أن يصبحوا علامة لحبِّه وسلامه ومصالحته وفرحه وعمله في العالم. فالمسيحيين مدعوّون للعيش كأبناء النُور "أَنتُم نُور العالَم (متى 5: 14)، وبمفعولهم كمِلح يكونوا مختفين والمسيح ظاهر فيهم، لكن في كونهم نُور العالم يكونوا ظاهرين للناس ليُسدِّدوا خُطاهم لِسَبيلِ السَّلام (لوقا 1: 79) (ج) نُور المسيحيين السمة الثانية لهوية المسيحيين هي أن يكونوا نور العالم، كما جاء ف تعليم السيد المسيح: "أَنتُم نُور العالَم" (متى 5: 14). لا يمكن أن يكون هناك المسيحيِّين نورًا ر دون أن يصيروا كالملح. لان هذه السمة "النّور"، لا تستطيع الاستغناء عن حياة لها نكهة تضيف سمّة أساسيّة لهويّة المسيحيين. المسيحيون -المُعمَّدون في المسيح "نُور العالم"(يوحنا 8: 12) -هم "نُور العالم"(متى 5: 14) لأجل إعلان النّور الإلهي. فهم يسيرون وراء المعلم الإلهي كعاكس للنور الّذي يبثّه فيهم. فليس للمسيحيين نُور أخر غير نُور المسيح، أشبه بالقمر الذي كل نُوره انعكاس لنُور الشمس. بما أنَّ المسيحيين هم "شركاء مع الله الذي هو النُور" (1 يوحنا 1: 5-7)، فقد عرّفهم يسوع بقوله لهم: "أَنتُم نُور العالَم"(متى 5: 14). لذلك فهم مدعوون للعيش كأبناء النُور. وكيف يكون ذلك؟ فيُجيب بولس الرسول "إِنَّ اللّهَ الَّذي قال: لِيُشرِقْ مِنَ الظُّلمَةِ نُور. هو الَّذي أَشرَقَ في قُلوبِنا لِيَشُعَّ نُور مَعرِفَةِ مَجْدِ اللّه، ذلِكَ المَجْدِ الَّذي على وَجْهِ المسيح" (2 قورنتس 4: 6). ويُعلق أحد الكتّاب: " يُسمِّي يسوع المسيحيين نُور العالم، لأنَّهم باستنارتهم بالنُور الحقيقي الأبدي يُصبحون نُوراً في الظلام، وبإظهار نُور الحق، يُبدِّدون ظلام الضلال من قلوب النَّاس". وفي هذا الصدد يقول يعقوب الرسول: "فاعلَموا أَنَّ مَن رَدَّ خاطِئًا عن طريقِ ضلالِه خَلَّصَ نَفْسَه مِنَ المَوت وسَتَرَ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (يعقوب5: 20). يحمل السيد المسيح دعوة لكل مسيحي للخروج من الانغلاق على الذات وبالانطلاق فيما يعود عليه بالنور والخير، لأن المؤمن يسعى أن يسير بروح التلّميذ وراء الرّب ففي هذا الوقت، يُفجر الله كنز نعمه ويغدقها على تلّميذه لأنه شارك فيها القريب. وفي هذا الصدد يقول أشعيا: "حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ. حينَئِذٍ تَدْعو فيَستَجيبُ الرَّبّ وتَستَغيثُ فيَقول هاءَنَذا إِن أَزَلتَ مِن أَبْنائِكَ النِّير والإِشارَةَ بِالإِصبَعِ والنُّطقَ بالسُّوء. إِذا تَخَلَّيتَ عن لُقمَتِكَ لِلجائِع وأَشبَعتَ الحَلقَ المُعَذَّب يُشرِقُ نوُركَ في الظُّلمَة ويَكونُ دَيجوُركَ كالظُّهْر" (أشعيا 58: 8-10). إذا كان المسيحيون شركاء في نُور المسيح، فهم يُضيئون نُوره لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَهم الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباهم الَّذي في السَّمَوات (متى 5: 16). ويقول أحد الكتّاب تعليقا على هذه الآية " فمن يُعلم ويعمل بما يعلم به، يكون تعليمه نورا حقيقياً. لكن من لا يعمل بما يُعلمه، لا يُعلِّم شيئاً بل يُدان. من الأفضل له أن يعمل دون أن يُعلم، من أن يُعلِّم ولا يعمل بما يُعلمه. يُمجّد الرب على أيدي الذين يُعلِّمون ويعملون بما يُعلّمون ". فالنَّاس تنتظر الأعمال لتصديق صحة التعليم. والمسيحيِّون هم نُور العالم كله في شخصهم وحياتهم وعملهم قبل كلامهم وتعليمهم على خطى معلمهم الإلهي يسوع المسيح الذي كانت أقواله تطابق أفعاله تماماً. لذلك يستمد المسيحيُّون النُور والقوة لرسالتهم من صلاتهم مع الله بالمسيح وقوة الروح القدس. وفي هذا الصدد يوق القديس أغناطيوس دي لويولا "نُور نظرة يسوع يُضيء عيون قلبنا، ويُعلمنا أن نرى كل شيء في نُور حقيقته وشفقته على جميع النَّاس" (التمارين الروحية، 104). المسيحيّون هم نُور العالم بأعمالهم الصَّالحة خاصة من خلال شهادة المحبة وعيش روح التطويبات وبقدر انتمائهم للمسيح. ومن هذا المنطلق، لا يمكن أن نعمل الأعمال الصَّالحة إلاَّ بوساطة عملية مزدوجة، وهي خلع الأعمال السيِّئة ولبس ثوب التطويبات. فالمطلوب من المسيحيين أولا خلع أعمال الظلمة كي يلبسوا ثوب النُور كما ورد في إنجيل يوحنا " فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُور فلا يُقبِلُ إلى النُور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إلى النُور" (يوحنا 3:20). لذلك يطلب بولس الرسول من المسيحيِّين: "لنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُور، نلبس الرَّبَّ يسوعَ المسيح" (رومة 13: 12). تتضمن أعمال الظلمة كل الخطايا بأنواعها (أفسس 5: 9-14)، ويذكر بولس الرسول منها: " قَصْفٌ وسُكْر، وفاحِشَةٌ وفُجور، وخِصامٌ وحَسَد، والانشغال بِالجَسَدِ لِقَضاءِ شَهَواتِه" (رومة 3: 12-13). وأمَّا أَعمالُ الجَسَد، فهي" الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور وعِبادةُ الأَوثانِ والسِّحرُ والعَداوات والخِصامُ والحَسَدُ والسُّخطُ والمُنازَعاتُ والشِّقاقُ والتَّشيُّع والسُّكْرُ والقَصْفُ وما أَشبَه" (غلاطية 5: 19-21). أمَّا الأعمال الصَّالحة التي ينادي بها المسيح فهي ملخَّصة في عظة التطويبات (متى 5: 1-12): روح الفقر والوداعة، والرجاء والصلاح، والرحمة، ونقاوة القلب والمسالمة، والفرح في الاضطهاد من أجل المسيح وعمل كل ما هو صالح وبر وحق. ويعلق البابا فرنسيس " فقد كان التلاميذ صيَّادي سَمَك، وأناسا بسطاء غير أنَّ يسوع نظر إليهم بعيني الله، وأراد أن يقول: إذا كنتم فقراء في الروح، ودعاء، أنقياء القلوب ورحماء... ستصبحون مِلح الأَرض ونُور العالم!". يُعدِّد بولس الرسول ثَمَرُ أعمال التطويبات وهي " المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22). وهذه التطويبات هي الطريق إلى التحرُّر الحقيقي من الجشع والتحجُّر والعنف والكبرياء والدنس والبغض... ويُعلق غاندي "كلما توطّدت أواصر الصلة بيني وبين المسيحيين الحقيقيين، أي الذين يعيشون في سبيل الله، أدركت أن الموعظة على الجَبَل هي كل المسيحيَّة لمن يريد أن يحيا حياة مسيحية". هناك شهادة أخرى على المسيحين الذين أضاءوا نُورهم للناس من خلال أعمالهم الصَّالحة، وهي شهادة صبية إفريقية أمام جثمان كاهن رعيتها صرّحت "كل الفقراء كانوا عائلته، وكل البشر إخوته. أطعم الجياع، وكسا العراة، وداوى المرضى، واسى المتألمين، دافع عن المظلومين، استقبل المُشرَّدين، ساعد اللاجئين، وآوى المنكوبين. فليكن الله له رحيما". فالمسيحي ليس من يجتهد أمام كل عذاب بشري أن يخفَّف من وطأته فقط، بل يسعى أيضا بكل طاقاته القضاء على مُسبِّباته من أجل تمجيد الله وخلاص النفوس. وهذه الشهادة تذكرنا بنبوءة أشعيا النبي " أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نُوركَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ" (أشعيا 58: 7 -8). غاية المسيحين في القيام بالأعمال الصَّالحة ينبغي أن تكون في سبيل تمجيد الله لا من أجل تمجيد ذواتهم، كما كان الحال مع أهل فيلبي "كُلُّهم يَسعى إلى ما يَعودُ على نَفْسِه، لا إلى ما يَعودُ على يسوعَ المسيح" (فيلبي 2: 21. يرى النَّاس أعمال المسيحيين الصَّالحة ولكن ليس لتمجيدهم، بل لتمجيد أبيهم الذي في السماوات. وكما أن السِراجٌ لا يوقد لكي ينظر النَّاس إليه، بل لكي ينظروا بواسطته شيئاً آخر أهمَّ منه، هكذا يكون عمل المسيحيين. لأن لا قيمة للمِلح في حدّ ذاته بل في فعله، ولا قيمة للسِراجٌ إلا في نُوره. ويعلق القديس أوغسطينوس "إنه من أجل تمجيد الله يجب أن نسمح لأعمالنا أن تُعرَف". ويُشدِّد على ذلك القديس بطرس الرسول بقوله "سِيروا سِيرةً حَسَنةً بَينَ الوَثنِيِّين، حتَّى إِذا افتَرَوا علَيكم أَنَّكم فاعِلو شَرّ شاهَدوا أَعمالَكمُ الصَّالحة فمَجَّدوا اللّهَ يَومَ الافتِقاد" (1 بطرس 2: 12). وأمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيعلق "الحياة التي نقدّمها أمامهم هي أكثر بهاءً من الشمس فإن تكلم علينا أحد بشرٍ، لا نحزن كمن شُوهت صورته، بل بالأحرى نحزن إن شوِّهت بعدلٍ". يسلك المسيحيون سلوك النُور، ويُنيرون العالم بقدر ما يعكسون نُور المسيح، وبقدر ما يخترقهم نُور المسيح. وبقدر ما يبقون مرتبطين بمصدر النُور ليُقدّموا للناس نظرة جديدة إزاء الأمور والحياة والتاريخ. لذلك يوصيهم بولس الرسول " تَكونوا بِلا لَومٍ ولا شائبة وأَبناءَ اللهِ بِلا عَيبٍ في جِيلٍ ضالٍّ فاسِد تُضيئُونَ ضِياءَ النَّيِّراتِ في الكَون" (فيلبي 2: 15). وعندما يصير المسيحيّون نُور العالم، ويراهم جميع النَّاس يصبحوا كالمدينة على جَبَل، " مَعْروضينَ لِنَظَرِ العالَم والمَلائِكَةِ والنَّاس" (1 قورنتس 4: 9). فهم نُور على جَبَل، يكشفون عن الاتجاه نحو الله، ويُنيرون الطريق " للذين في الظلمات" (أشعيا 60: 2). ويُعلق القديس ايرونيموس "ما يستحق المديح ليس أنك في أورشليم، إنّما تمارس الحياة المقدّسة (كمدينة مقدّسة)، المدينة التي نبجِّلها ونطلبها، هذه التي لم تذبح الأنبياء (متى 23: 37)، ولا سفكت دم المسيح، وإنما تفرح بمجاري النهر، وهذه القائمة على الجَبَل فلا تُخفي (متى 5: 14)، يتحدّث عنها الرسول كأمٍ للقديسين (غلاطية 4: 26)، ويبتهج الرسول أن تكون له المواطنة فيها مع البرّ (فيلبي 3: 20)". فمن تطبق عليه التطويبات يكون حقاً نُوراً للعالم ومِلحاً للأرض ومواطنا لأورشليم السماوية. لذلك لا نقول ليست في كنيستي حياة. لنملأها نحن بحياتنا. لا نقول كنيستي تحتاج إلى نهضة روحية وإلى إنعاش، لننهضها نحن سوياً ولننعشها كل على قدر استطاعته. لنكن مِلحاً للأرض ونُوراً للعالم. الخلاصة أوكل السيد المسيح تلاميذه رسالة كبيرة وهي: "أَنتُم مِلح الأَرض، أَنتُم نُور العالَم". المِلح والنُور، يحدّدان هويّة تلاميذ المسيح ورسالتهم في المجتمع. أن روح المسيح وحده بإمكانه أن يجعلهم فعلاً مِلحا يعطي طعمًا ويحفظ من الفساد ونُورا ينير العالم، إذ يحملون نُور الله الحي إلى الذين يجهلونه أو يرفضونه. المِلح والنُور بلغة الإنجيل ما هو إلاَّ تعبير عن أعمال التطويبات التي يدعو إليها يسوع، والتطويبات هي السيرة المسيحية الزكيَّة بحسب قول بولس الرسول " لِتَكونوا بِلا لَومٍ ولا شائبة وأَبناءَ اللهِ بِلا عَيبٍ في جِيلٍ ضالٍّ فاسِد تُضيئُونَ ضِياءَ النَّيِّراتِ " (فيلبي 2: 15). فكل مسيحي يجب أن يكون تلميذا للمسيح، وكل تلميذ للمسيح يجب أن يكون مِلحا ونُوراً للعالمين. ولكن التلميذ لا يكون مِلحا ونُورا إلا في عيش التطويبات. حياة المِلح والنُور هي حياة يسوع المسيح، هي حياة التطويبات. ومن هنا يشير متى الإنجيلي إلى دور التلاميذ الضروري في المجتمع بان يكونوا شهوداً لحضور الله في حياتهم بان يكونوا مِلح الأَرض ونُور العالم. فإن لم نعش حياة التطويبات فلسنا نحن مِلح، ولا نحن نُور. فلنحذر لمِلحنا من الفساد، نُورنا من الإطفاء. يؤكد المجمع الفاتيكانيّ الثاني دور المسيحيين العلمانيين "هم مدعوّون بصورةٍ خاصّةٍ إلى أن يجعلوا الكنيسةَ حاضرةً وفعَّالة في تلك الأماكن والظروف التي لا يمكنها إلاّ بواسطتهم أن تكون "مِلح الأَرض" (متى 5: 13). وهكذا، فإنّ كلّ عَلمانيّ، بقّوةِ النِّعم التي أعطيها، شاهدٌ وفي الوقت عينه أداةٌ حيةٌ لرسالةِ الكنيسة بالذات "على مقدار موهبة المسيح (أفسس 4: 7)" (دستور عقائدي في الكنيسة، نُور الأمم، العدد 33). ولذلك نحن مدعوون أن نكون كالقمر عندما ينعكس عليه ضوء الشمس يصبح متألقا في السماء فيمزق حجاب الظلام. وهنا يُذكرنا بولس الرسول " لأَنَّكم جَميعًا أَبناءُ النُور وأَبناءُ النَّهار. لَسْنا نَحنُ مِنَ اللَّيلِ ولا مِنَ الظُّلُمات " (1 تسالونيقي 5: 5). ونُورنا قوي لأنه مستمد من نُور القيامة المنبثق من قبر مسيحنا الذي فيه كان انتصار النُور والحياة ونهاية الموت والظلام. الأب لويس حزبون - فلسطين |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|