رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
لماذا ينجح الرب طريق الأشرار؟ يقف المرنم في حيرة، فهو لا يشك في صلاح الله وبرّه وعدله [ع١]، لكنه عاجز عن تفسير مشكلة الشر، إذ يرى المتكبرين والمتشامخين في ترفٍ عظيمٍ. لعله كان يخشى لئلا تنحرف قدماه عن الحق، ويجتذبه نجاح الأشرار، أو يشك في عدالة الله ضابط الكل، أو أن عبادته لله وطاعته لوصاياه لا ينفعه في شيءٍ. * الآن فلنقترب من تلك الصلاة التي وجدناها في المزامير، وقد تحدث داود نفسه في عدة نصوص عن الأباطيل العالمية. يؤكد دومًا أن خيرات هذا العالم المزعومة باطلة، خاصة في المزمور الثامن والثلاثين الذي يقول فيه بالحقيقة كل الأشياء باطلة. كل إنسان حي يسير في صورة الله، إلا أنه باطلًا يضج (يقلق). يُذخر ذخائر ولا يدرى من يضمها! (مز 39: 5-7). وفي نص آخر يقول: "حتى متى الخطاة يا رب، حتى متى الخطاة يتمجدون؟" (راجع مز 94: 3)، لأن لهم هنا ظِل المجد، لكن حين يرحلون عن الحياة لا يحظون بمنفعة الفداء. ولا يزال داود نفسه يضم إلى المجموعة مزمور 72 الذي يعلن فيه، تحت عنوان آساف (مز 73: 1) أنه سقط في بادئ الأمر تقريبًا في هذا الأمر، تصارعه آلام غير قليلة، إذ رأى الأشرار أثرياء وأغنياء في هذا العالم، ينعمون بالرغد والوفرة، بينما هو، الذي يبرر قلبه (قابل مز 73: 13) [أو يزكىَّ قلبه]، كان تحت الآلام والضيقات! وها هو يستاء اِستياءً شديدًا في بادئ الأمر، لكنه يقوم فيما بعد ويستنير بضربات الرب، ويتعلم سيرة من يخضع خضوعًا حقيقيًا بموهبة معرفة الله . * لا أجد في أي مكان أن آساف البار قد اِضطرب بأية ضيقة، بينما احتمل داود فعلًا العديد من المتاعب الشديدة المحفوفة كلها بالمخاطر. لأنه يتحدث عن أتعابه هو، وعلى هذا الأساس استمد المزمور عنوانه، لا كأنه عن "آساف البار"، بل "لأجل آساف البار". كما يظهر في النسخة المتاحة. وينكشف ذلك بالأكثر من المزامير المكتوبة باللغة اليونانية، حيث يظهر داود على أنه صاحب المزمور شخصيًا، الذي كُتب للمدعو آساف ولآخرين أيضًا لينشدوه. لكنه مكتوب أيضًا في نفس العنوان، إن مزامير داود انتهت (قابل مز 72: 20)، ومع هذا فكيف انتهت أو تمت؟! لأنه بعد استمرارنا في قراءة المزامير العشرة التالية، تظهر العناوين متضمنة "مزامير لداود" بل حتى النهاية! القديس أمبروسيوس إِنَّمَا صَالِحٌ اللهُ لإِسْرَائِيلَ، لأَنْقِيَاءِ القَلْبِ [1]. قبل أن يعلن المرتل مرارة نفسه التي يجتاز فيها أحيانًا حين يرى الأشرار المقاومين لله ولمؤمنيه يعيشون في رغدٍ، ويتمتعون بسلطانٍ، يؤكد أنه واثق في صلاح الله وبرِّه وعدله. لا يكف المؤمن الحقيقي عن التسبيح لله وتمجيده، حتى وإن بدت الأمور حوله فيها كثير من الارتباك. * "يا لصلاح إله إسرائيل"، ولكن لمن؟ "لأناسٍ مستقيمي القلوب" (راجع مز 73: 1)... هكذا يقول في مزمور آخر: "مع القديس تكون قدوسًا، مع الطاهر تكون طاهرًا، ومع الأعوج تكون ملتويًا" (مز 18: 25). لا يمكن أن يكون الله بأية طريقة ملتويًا. حاشا! فما هو عليه هو عليه! ولكن كما أن الشمس تبدو لطيفة لمن له عينان نقيتان سليمتان معافتان وقويتان، فهي بالنسبة للأعين الضعيفة تبدو كالسهام القاسية المندفعة ضدها. تنعش الأولى، وتضر الأخيرة، مع أنها هي نفسها لم تتغير، إنما الإنسان هو الذي يتغير. هكذا عندما تبتدئون في الاعوجاج مع الله، يبدو الله لكم ملتويًا. فما يكون لكم عقابًا يكون بالنسبة للإنسان الصالح فرحًا. القديس أغسطينوس * "إنما صالحٌ الله لإسرائيل لأنقياء القلب" (مز 73: 1). يتضح النمو في الكمال الفضائلي (الأخلاقي) منذ بدايات المزمور. فلا يمكن حقًا لأي إنسان أن يقول إن الله صالح إلا الذي يعرف هذا الصلاح، لا من نجاحه الذاتي، ولا من ثرواته، بل من عمق الأسرار السماوية، وسمو مقاصد الله. لأنها تُقدر لا بمظاهر الأشياء الحاضرة، بل بمنافع الأشياء العتيدة (المستقبلة أو الآتية)، ومن ثم فالله صالح دائمًا للبار، سواء تعذب هذا البار بالآلام الجسدية، أو سادت عليه العقوبات المرة، فهو دائمًا يقول: "إن كنا قد قبلنا الخيرات من يد الرب، فلماذا لا نحتمل السيئات؟" (أي 2: 10 LXX ). فهو يتهلل، لأنه يتأدب (يعاقب) هنا، ليجد تعزية في المستقبل. إنه يدرك أن من نال الخيرات في هذه الحياة، قد نال جزاءه (مت 6: 2). والإنسان الذي لم يجاهد أو يُجرب في صراع متعدد الصعاب، لا يقدر أن يكون له رجاء في المجازاة العتيدة. لكن الذي يتألم ويصارع... يتهلل في هذا العالم، إما لأنه يدفع ثمن خطاياه هنا، أو لأنه يعرف أن ثمة نعمة وفيرة فائضة مع الرب، إن كان يتألم ظلمًا عن اسم المسيح، أو لأجل عمل صالح، فمكتوب: "لأنه أي مجد إن كنتم حين تُخطئون تُعاقبون وتحتملون (العقاب)، بل إن كنتم تصنعون خيرًا وتتألمون، فهذا فضل (نعمة) عند الله، لأنكم لهذا دُعيتم حقًا. فإن المسيح مات أيضًا لأجلنا تاركًا لنا مثالًا؛ لكي تتبعوا خطواته، الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يَشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد!" (1 بط 2: 20-23). هكذا البار، حتى وهو في عمق الضيقة يظل بارًا. لأنه يبرر الله ويتوب، معترفًا أن آلامه أقل من خطاياه، متعهدًا أن يبقى حكيمًا دائمًا. لأن الحكمة الحقيقية الكاملة لا تُسلب بعذابات الألم والضيق، ولا تفقد طبيعتها، لأنها تُلقي الخوف خارجًا بمقصدها الغيور المحب (قابل أي 4: 18). تمامًا كما يعرف الحكيم أن الآلام في هذا الجسد لا تقارن بالمجد العتيد، وأن جميع آلام الزمان الحاضر، لا يمكن أن تساوي المجازاة العتيدة (رو 8: 18). لهذا فإن الله بالنسبة له الذي يعرف زمان الحصاد، هو صالح دائمًا. وكمزارع صالح، يحرث حقله هنا بمحراث الامتناع الصارم عن (الشهوات) حقًا. ويُنقي أرضه هنا بمنجل الفضائل الذي يستأصل الرذائل إن جاز التعبير. وهو يُسمَّد هنا بتواضعه وانسحاق نفسه حتى الأرض، لأنه يعرف أن "الله يقيم المسكين من التراب، ويرفع البائس من المزبلة" (مز 113: 7). حقًا لو لم يُحسب بولس الرسول العالم كنفاية (dung) ما استطاع أن يربح المسيح نفسه (في 3: 8). ومثل هذا الإنسان يسهر على محصوله هنا، ليُخزِّنه فيما بعد هناك دون هَمٍ. ولهذا فالله بالنسبة له دائمًا صالح؛ لأنه يرجو دومًا الصالحات من الله. تأملوا نقطة أخرى، "إنما صالحُ الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" (مز 73: 1). فهل الله ليس صالحًا للجميع؟ حقًا هو صالح للكل، لأنه مخلص جميع البشر، خاصة للمؤمنين. لهذا أتى الرب يسوع ليخلص ما قد هلك (لو 19: 10). حقًا جاء ليحمل خطية العالم" (يو 1: 29)، وليشفي جراحتنا، لكن ليس الجميع يرغبون في العلاج! كثيرون يتجنبونه! لئلا يَحقن القُرح بالعقاقير، ويفقد سطوته. لهذا السبب يشفي الذين يريدون الشفاء ولا يرفضونه. لهذا من يرغبون في العلاج يستعيدون صحتهم، أما الذين يقاومون الطبيب ولا يطلبونه فلا يتمتعون بصلاحه، لأنهم لا يختبرونه! ومن نال الشفاء يستعيد صحته. لهذا فالطبيب صالح بالنسبة للذين أعاد إليهم عافيتهم. من ثَمّ الله صالح لأولئك الذين غفر خطاياهم، لكن إن كان لإنسان خطية لا علاج لها في روحه، فكيف يُقيِّم الطبيب على إنه صالح، بينما هو يتحاشاه؟ ولهذا كما قلت قبلًا، شرح الرسول بحق أن الله "الذي يريد أن الجميع يخلصون" (1 تي 2: 4)، هو صالح لكل الناس. أما نعمة صلاح الله الخاصة، فهي مكفولة بالأكثر لجميع المؤمنين الذين ينالون عونًا من إرادته الصالحة ونعمته. لكن حين يقول المرتل أيضًا: "إنما صالحُ الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" فإنه ينقل مشاعر الذين لا يعرفون كيف يتمتعون بما يخص الله، عدا أنه صالح نحو كل شيء وهو في الكل . القديس أمبروسيوس لعل المرتل هذا يقصد أن الله صالح لكنيسته (إسرائيل الجديد)، التي يليق بها أن يكون أعضاؤها أنقياء القلب. الله صالح ومحب لكل البشرية، خاصة الذين يتمتعون بنقاوة القلب. أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي [2]. إن كان المرتل يُزكي نفسه، أنه يؤمن بصلاح الله، ويراه صالحًا، لكنه يبقى حذرًا من نفسه، لئلا تزل قدماه عن استقامة القلب ونقاوته، فيتشكك في صلاح الله. "من كان قائمًا فليحذر لئلا يسقط". * تقال الأقدام والخطوات عن الأفكار. هذه استعارة لطيفة، لأنه كما أن الأقدام والخطوات تنزلق في الطريق الشاقة، كذلك الأفكار إذ تتعلق في وقت الشدائد، تنزل إلى ما لا يليق. الأب أنثيموس الأورشليمي * متى تتحرك القدمان إلا عندما لا يكون القلب مستقيمًا... تتحرك القدمان لتسلكا في الضلال، وتزل الخطوات للسقوط، ليس بالكامل وإنما "كادت" أن تسقط. القديس أغسطينوس * فيما يلي حقًا يضع داود خبرته الشخصية حين يقول: "أما أنا فكادت تزل قدماي، كادت تزلق خطواتي، لأني غرت من الخطاة، إذ رأيت سلام الأشرار!" (مز 73: 2-3)، وهو بالتأكيد لا يتحدث عن أقدام جسدية، ولا عن خطوات جسدية، بل عن استقامة القلب التي يقول عنها في مزمور آخر: "لا تأتني رجل الكبرياء، ويد الأشرار لا تزحزحني" (مز 36: 11). لهذا يجب علينا دائمًا أن نسأل الرب، ليرشد خُطى أرواحنا، لئلا تقسط وتنزلق في نوعٍ ما من مستنقع الخطأ! فلا نقوى على الثبات. أيضًا سبب سقوط داود أنه غار من سلام الأشرار (الخطاة). لكننا ينبغي أن نغير في الحُسنى (في الصالحات)، لا بما هو ملآن خزيًا، كما يقول الرسول بولس أيضًا: "حسنة هي الغيرة في الحسنى كل حين" (غل 4: 18) . القديس أمبروسيوس يرى القديس جيروم أن الحديث هنا بخصوص الهراطقة الذين وإن كرروا اسم المسيح، لكن الله لا يسكن في وسطهم، إذ يكرمون الله بشفاههم وقلوبهم بعيدة عنه. إنهم يتآمرون ضد الكنيسة. * لنسرع بالعبور خلال فضيلة الصبر واحتمال الاضطهادات... لكننا إذ ننتهي من هذا العبور نكون قد بلغنا مرامنا، وعندئذ يليق بنا أيضًا أن نكون في يقظةٍ وحذرٍ لئلا خلال الإهمال الزائد في سيرتنا نتعثر: "أما أنا، فكادت تزل قدماي" [ع2]. كأن النبي يقول: يلزمنا ألاَّ نكون أقل حمية في الاحتفاظ بالفضائل عنه عندما كنا نبحث عنها . العلامة أوريجينوس لأَنِّي غِرْتُ مِنَ المُتَكبِرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ [3]. يقدم لنا المرتل السبب لخوفه من أن تزل قدماه وتنزلق خطواته، ألا وهو ما يتمتع به الأشرار المتكبرون من سلام. إنه سلام العالم وليس سلام المسيح الداخلي. * ألاحظ الخطاة وأراهم في سلامٍ. أي سلام؟ سلام وقتي، زائل، ساقطً، أرضي، ومع هذا فأنا أطلب هذا من الله. أرى الذين لا يخدمون الله ينالون ما أشتهي لكي ما أخدم الله. القديس أغسطينوس * لا ترتبكوا لحقيقة أنه حسب السلام شرًا. فإنكم تجدون حقًا في الإنجيل أيضًا سلامًا يرفضه المسيح، كما يقول هو نفسه: "سلامي أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطي العالم، أعطيكم أنا" (يو 14: 27) لأن هناك سلام لا يكون حجر عثرة، وسلامًا يكون! أما الذي لا يكون حجر عثرة فهو سلام الجسد، والذي يعثر هو سلام التظاهر (الرياء). لهذا أيضًا يقول النبي: "سلام سلام، وليس سلام" (حز 13: 10). فليهرب إذن من سلام الأشرار، لأنهم يتآمرون ضد البريء ويجتمعون على مضايقة البار (حك 2: 12)، ويقهرون الأرملة ويسحقون تواضعها! القديس أمبروسيوس |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|