رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كيف تفنَّن نيتشه في فقدان الأصدقاء، وعاش متقلب المزاج؟ ج: تفنَّن " نيتشه " في كيفية فقدان الأصدقاء، فقد كان يعيش حياة الاستعلاء، فكتب لشقيقته يقول "عندما أتكلم عن أفلاطون وبسكال وسبينوزا أشعر أن دمهم يجري في عروقي.. سأقيم الحواجز حول أفكاري لئلا تدوس الخنازير بستاني، ومن جملة الخنازير أولئك الثقلاء المعجبون بي من غير تفهُّم" (41) فبعد أن كان نيتشه معجبًا أشد الإعجاب بفاجنر، وأستمر يصادقه لمدة ثمان سنوات، وقال عنه " أن روحه تسودها مثالية مطلقة، وإنسانية عميقة، وفيها جلال رائع، وكل هذا يشعرني وأنا بالقرب منه، بأني في حضرة إله" (42). ولكن عندما ظهرت الروح المسرحيَّة الهزليَّة لفاجنر في مسرع بايْروْيت سنة 1876م فقد نيتشه إعجابه به وأنتقده قائلًا " هل رجل عظيم؟ أنا لا أدري فيه دائمًا إلاَّ إنسانًا قد مثَّل مهزلة مَثَلهِ الأعلى" (43) وأفترق عنه، مع أنه أراد أن لا يفقد صداقته، حتى قال " نحن كأصدقاء لا يجمعنا شيء، ولكن كلًا منا يجد سعادته عند الآخر، إلى درجة أن الواحد منا يعين الآخر على السير في اتجاهه ويغذيه، حتى ولو كان هذا الاتجاه مضادًا لاتجاهه" (44) كما قال " لقد أحببت فاجنر وأعجبت به أكثر من أي إنسان آخر في العالم.. ما كان لي القدرة على احتمال أيام شبابي لولا موسيقى فاجنر.. وإني لأُسمي فاجنر أعظم من أفادني في حياتي" (45) ورغم هذا فإن نيتشه قد فارق فاجنر وفقد صداقته، وفي سنة 1878م أصدر كتابه " إنساني، إنساني جدًا " فأعلن فاجنر اشمئزازه منه. وإنصرف الناس عن " نيتشه " وعن كتاباته، حتى أنه عندما أصدر الجزء الرابع من "زرادشت" لم يطبع أكثر من 40 نسخة، ولم يُباع منها إلاَّ سبعة نسخ فقط، بالرغم من استخدامه الأسلوب الأدبي ذو الموسيقى الساحرة، حتى أن نيتشه أظهر ألمه من هذا قائلًا " أن لا أسمع، بعد دعوة صادرة من أعماق نفسي مثل كتاب "زرادشت" أية إجابة أو كلمة رد أو صدى، لا شيء، لا شيء مطلقًا، وإني لا أجد دائمًا غير وحدة صامتة يتضاعف ألمها آلاف المرات، في هذا كله ما يفوق كل ما يستطيع المرء تصوُّره من فزع وهلع. وأن أعظم الناس قوة وأشدهم جلدًا وصبرًا ليمكن أن يُقضَى عليه منه" (46). وكلما أصدر نيتشه كتابًا جديدًا كلما فقد أصدقاء جدد، حتى دخل في وحدة رهيبة، وكان يسلي نفسه قائلًا " كل من قُدّر له أن يذيع شيئًا جليلًا في يوم من الأيام، لابد أن يظل وقتًا طويلًا مطويًا في داخل صمته. وكل من قُدّر له أن يشعل البرق يومًا ما، لابد وأن يظل سحابًا لمدة طويلة" (47) كما قال أيضًا " آه لو كان في استطاعتي إعطاؤك فكرة عن إحساسي بالوحدة، فلست أجد من بين الأحياء ولا الأموات من أحسُّ بأن بيني وبينه شبهًا وقرابة، وهذا مخيف، مخيف جدًا جدًا" (48) وكان يسلي نفسه أيضًا عن وحدته بأنه متميز عن جميع البشر فقال: " أجل! إني لا أعلمُ من أنا، ومن أين نشأتُثم أرسل نداءًا أخيرًا جاء فيه: "هؤلاء أنتم يا أصدقائي - آه!.. ولكن هل أنتم لا تسيرون إليَّ..؟ ماذا!! هل تغيرتُ فأصبحت إنسانًا آخر، غريبًا حتى عن نفسي..؟ أتبتعدون؟ - أيه أيها القلب، لقد عانيت من هذا الشيء الكثير! ولكن أمَلكَ لا يزال قويًا بعد: فدع أبوابك مفتوحة لأصدقاء " جديدين "!.. إنهم أصبحوا " قدماء " - وهذا ما أبعدهم عني: فإن من يتطوَّر هو وحده القريب مني، ذو الصلة بي.. إيه يانهار الحياة! أيها الشاب الثاني!.. إيه أيها السرور القلق، الذي فيه ينتظر المرء واقفًا يراقب ويترصَّد!.. أصدقائي، إنني لأنتظرهم إناء الليل وأطراف النهار.. أي أصدقائي " الجديدين " تعالوا إليَّ، فهذا وقتكم" (49) وقال " نيتشه": "أيتها الوحدة أنتِ وطني" (50) وفي أواخر حياته العقلية كتب لأخته متألمًا يقول "أوَّاه! لم يبقَ لي صديق ولا من إله" (51). وكان " نيتشه " متقلب المزاج بحدة، فقد كان يسجل خواطره وأفكاره التي أشبه بالصواعق، وبعد قليل يتخلى عنها، فتجده يقول "مهما يكن الشيء الذي أخلقه عظيمًا ومهما يبلغ حبي له، فلا ألبث أن أنقلب عليه وأن أصير خصمًا لحبي.. إن هذا المفكر العظيم (يقصد نفسه) لا يحتاج إلى من يهدمه لأنه يهدم نفسه" (52). ويعلق " بولس سلامة " قائلًا " ومن جملة الأسباب التي جعلت نيتشه لغزًا على نفسه قلة تعمقه في التاريخ العام، ونقص مداركه القانونية، وضآلة معارفه اللاهوتية، وتطرفه في كل شيء إلى حد التهور" (53) ولذلك ليس بالأمر العجيب أن نيتشه الذي طالما أنتقد الإيمان المسيحي عاد يعترف بفضله، فيقول "حتى نحن رواد المعرفة اليوم ومضادو الميتافيزيقيين، والذين نفخر بأنه لا وجود لله، فنستمد نارنا من لهيب عمره ألفي عام - هذا الإيمان المسيحي الذي نادى به أفلاطون من قبل - والذي خلاصته أن الله حق، وأن الحق إلهي" (54) ومما يذكر أنه بعد أن جدف على سر التجسد الإلهي، عاد وقال: قد يكون التجسد مظهرًا من مظاهر العظمة الإلهية، وفي كتاب " هكذا تكلم زرادشت " يقول "المرأة التي تحب تضحي بشرفها، والفيلسوف الذي يحب يضحي بإنسانيته، وإله أحبَّ فجعل نفسه يهوديًا" (55) فهذا نوع من الحب الكاره أو الكراهية المُحبَّة. ونستطيع أن نقول أن القرن التاسع عشر الذي أفرز لنا نيتشه هو القرن الذي رفع فيه الإنسان لواء العقلانية، ولا شيء غير العقل وعبادته، ويقول "دكتور عبد الرحمن بدوي": "فعبادة العقل إذًا هي الطابع الرئيسي لهذا القرن ومبادئ العقل هي وحدها التي يجب أن يقوم عليها بناء الجماعة الإنسانية ومبانيها الروحية" (56) كما تميز ذلك القرن بالروح الإنكارية، فيقول "الدكتور عبد الرحمن بدوي " ثم تستمر المدنية " في سيرها حتى تصل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حالة من الشك والانحلال، فيها يطرح الناس ما كان لهم بالأمس من مُثل عليا: دينية وسياسية وفنية وأخلاقية، وتصبح كل القيم المقدَّسة حتى ذلك الحين أوهامًا وأباطيل، ولا يجدون بعد معنى للحياة، وغاية لهم من الوجود، ويشعرون بأنهم قد خُدعوا في كل القيم التي اتخذوها حتى الآن، وينقلب هذا الشعور إلى يأس في كل شيء، وإنكار لكل شيء، فالشك إذًا والإنكار المطلق هو الطابع السائد لهذه الحالة، ولذلك سُميت " الروح الإنكارية " وهذه الروح الإنكارية هي التي وصفها نيتشه وصفًا دقيقًا.. وبعد أن تم له هذا حمل عليها حملة شعواء" (57). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
كيف كانت نهاية نيتشه |
كيف أُغرم نيتشه بالترحال |
كيف تشبع نيتشه بفكرة موت الله |
من هو فريدريك نيتشه |
فقدان الشغف و الإحساس مثل فقدان الروح |