البابا شنودة الثالث
توجيه الطاقات والغرائز والمواهب
خلق الله الإنسان وفى طبيعته طاقات كثيرة، منها الغرائز، والتي يبدوا بعضها هادمًا، أو يستخدمه الكثيرون استخدامًا سيئًا خاطئًا. بينما كل شيء في طبيعة الإنسان يمكن استخدامه للخير، حتى ما يظنه البعض خاطئًا..! وسنضرب لذلك بعض أمثلة:
- العناد
- الغضب
- الطموح
- القوة
- محبة النفس
- المواهب
- كل شيء طاهر للطاهرين
العناد
يقع الإنسان في يد مرشد قاس، فيحطم طاقاته، ويحطم معها نفسيته. بينما تتناوله يد مرشد حكيم، فيحول طاقاته إلى الخير.
ويمكن أن نطبق هذه القاعدة على العناد مثلًا..
هل العناد خطيه أم طاقة؟
أم هو طاقه في الأصل، انحرفت فصارت خطية؟
نسمى العناد خطية، إن كان عنادًا في خطأ.
ومع ذلك يمكن استخدامه في الخير.
وحينئذ يسمى إصرارًا وصمودًا وثباتًا في الخير.
*خذوا مثالًا لذلك أبطال الإيمان..
لاشك أن القديس أثناسيوس الرسولي كان خصمًا عنيدًا جدًا للأريوسية، لو صح هذا التعبير.. فقد وقف في صلابة نادرة، وبإرادة حديدية، يدافع عن الإيمان السليم ضد أريوس، وضد الأريوسيين في عنفوان قوتهم وسلطتهم.. حكم عليه أكثر من مرة. ونفى عن كرسيه أربع مرات. وقيل له "العالم كله ضدك يا أثناسيوس" فقال "وأنا ضد العالم".
يتحول الآمر إذن إلى تصميم وصمود وثبات،لا تراخى فيه ولا تساهل.. مادام على حق.
* نفس الوضع نقوله عن الشهداء والمعترفين..
رسوخ عجيب في الإيمان.. على الرغم من كل الإغراءات، ومن كل التهديدات، ومن السجن والنفي وألوان التعذيب المرعبة. ولكن القلب كان راسخًا لا يتزعزع. ربما مضطهد وهم وصفوهم بالعناد، وبصلابة الرأي. ولكنه كان (عنادًا) مقدسًا، هو ثبات على الإيمان..
* نفس الصلابة نجدها في الإقدام على الرهبنة.
يعاند الإنسان نفسه التي قد يحاول العالم إغراءها بكل السبل، ويعاند كل أفكار العدو ولا يأبه بها. بل ربما يقف ضده والده وأهله، ويؤثرون عليه بعواطف متعددة وضغوط شديدة، تصل إلى البعض إلى حد العنف..! ومع ذلك يبقى طالب الرهبنة راسخًا في فكره، لا يتحول عنه..
* ونفس الوضع قد يحدث في التكريس على متنوع صوره.
محاربات عديدة قد تقوم لتمنع التكريس، ويقابلها قلب صلب، وفكر راسخ، وإرادة ثابتة، لإنسان لا يتحول ولا يتزعزع..
قد يٌسمى البعض هذا عنادًا، ولكنه تصميم..
* أيضًا العناد مع النفس في الجهاد الروحي.
في الصوم وحفظ العفة، وحفظ الفكر والحواس، وضبط اللسان، وضبط الأعصاب.. وفى التدريبات الروحية وفى ما يسمونها التغصب.. بل في كل الحروب الروحية ومقاومة الإنسان للخطية، حسبما وبخ القديس بولس الرسول المتراخين بقوله "لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية" (عب12: 4).
كل ذلك يحتاج إلى عناد ضد الشيطان والخطية والجسد..
فيجد الشيطان نفسه أمام إنسان قوي، ليس سهلًا. يعجم عوده، فيجده صلبًا.. يحاول الدخول إلى قلبه وإلى فكره، فإذا هو "جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش4: 12)،
يقف أمامه رجل الله بكل عناد وتصميم، كصخرة جامدة لا تلين..
لماذا أذن أخذ العناد صورة سيئة أمام الناس؟
* هذا العناد السيئ هو التصميم على الخطأ.
بحيث يسلك الإنسان في طريق خاطئ ويصمم عليه، ويرفض كل تفاهم وكل نصيحة مخلصة، بعقل مغلق عن كل إصلاح لمساره، حتى لو صدرت النصيحة عن صديق وفى، أو أب روحي، أو مرشد موثوق به.. ومهما كان الحق واضحًا..
هنا يكون العناد تصلبًا في الفكر والإرادة، وليس ثباتًا على حق.
وعلينا في إفراز وحكمة، أن نفرق بين الأمرين، ولا نخلط بينهما في حكم واحد..!
ونلاحظ هذا الآمر جيدًا في تربية النشء، في تربية الأطفال وتوجيه الشباب.
* إن وجدنا عناد، صادرًا عن إرادة قوية، نحاول توجيه هذه الإرادة إلى الخير.
تبقى الإرادة في قوتها وصلابتها وتصميمها، ولا نحطمها. ولكن نغير مسارها، بحيث تتجه نحو الخير، بنفس القوة. فنستفيد منها، وينتفع صاحبها أيضًا. ولا يخطئ..
الغضب
الغضب طاقة، مهما أستخدمه الإنسان كخطية.
* يعتبر خطية إن أخذ طابعًا جسدانيًا نفسانيًا.
جسدانيًا: إن تحول إلى نرفزة، بتوتر الأعصاب وثورتها، وعلو الصوت وهياجه، وعدم انضباط الملامح والحركات، مع أخطاء اللسان وعنف وقساوة الألفاظ.. ونفسيًا من حيث الغيظ والكراهية، والانتقام للنفس، وثورة القلب والفكر بأسلوب غير روحي، وربما يصل إلى أخطاء أشنع كالشتائم والإهانات وجرح إحساس الآخرين أو إلى الضرب..
* ومع ذلك فالغضب طاقة يمكن استخدامها للخير.
وقد شرحت لكم في كتابي عن (الغضب) كيف يكون الغضب أحيانًا غضبًا مقدسًا.. وكيف أن موسى النبي الذي قيل عنه "وكان الرجل موسى حليمًا جدًا، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد12: 3).. موسى هذا لما رأى الشعب يعبد العجل الذهبي، "حمى غضبه"، وأخذ هذا العجل الذهبي، وحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا، وذراه، وانتهر هرون رئيس الكهنة ووبخه (خر32: 19-21).
إذن الطاقة الغضبية يمكن تحويلها إلى الخير.
ونلاحظ أن يوحنا كاسيان كتب بابًا عن الغضب في كتابه (المعاهد) وشرح فيه أقوال الآباء في شرح الآية "اغضبوا ولا تخطئوا" (مز4). وقال في ذلك:
يمكنكم أن تغضبوا ولا تخطئوا، إذا غضبتم على خطاياكم.
أي أن الإنسان إذا غضب على خطاياه ونقائصه وضعفاته وسقطاته، لا يكون مخطئًا أثناء غضبه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كما أن هذا الغضب المقدس يقوده إلى أنه لا يخطئ في المستقبل. وهكذا يكون قد قام بتوجيه الطاقة الغضبية في اتجاه سليم، ضد نفسه، لإصلاح نفسه وليس ضد غيره..
ألا يدخل في هذا قول الرب أيضًا "إن كانت عينك اليمنى تعثرك، فاقلعها والقها عنك" (مت 5: 29).
نحن لا نحطم الطاقة الغضبية، إنما نحسن توجيهها.
الطاقة الغضبية يمكن أن تنتج الحماس، والغيرة المقدسة، والنخوة. وإن تحطمت، صار الإنسان خاملًا.
بها يغضب الإنسان على الشر، كما غضب فينحاس الكاهن، وطوبة الرب وكافأه" (عد25: 6-13). وكما غضب داود ووقف ضد جليات يقاومه. وأراح الأرض من غروره وتحدياته(1صم17: 26-51).
ولا يمكن للإنسان الروحي أن يرى الشر أمامه، ولا يتحرك قلبه من الداخل! فقد قيل عن القديس بولس الرسول إنه لما ذهب إلى أثينا "احتدت روحه فيه إذ رأى المدينة مملوءة أصنامًا" (أع17: 16).
ولكن إذا غضب الإنسان من أجل هدف روحي، ينبغي أن تكون وسيلته روحية.
لأن الهدف المقدس تناسبه وسيلة مقدسة. فلا يشتم، ولا يتكبر ويتعالى على غيره، ولا يتجاوز حدوده ولا ينساب لسانه أو قلمه بغير انضباط وفى أسلوب خارج عن الأدب واللياقة..!! وهكذا كما وجه هدف الغضب توجيها مقدسًا، يوجه وسيلته أيضًا توجيهًا مقدسًا..
الطموح
ليس الطموح خطية. بل هو طاقة مقدسة.
به يتجه الإنسان إلى الكمال كصورة لله.
لقد خلقنا الله على صورته ومثاله (تك1: 26)، والله غير محدود. لذلك وضع فينا الاشتياق إلى غير المحدود. وقال لنا "كونوا كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت5: 48).
ويمكن توجيه الطموح في مسار روحي.
وهكذا فأن بولس الرسول الذي صعد إلى السماء الثالثة (2كو12: 2-4). والذي تعب في خدمة الرب أكثر من جميع الرسل (1كو15: 10).. بولس هذا يقول "أنا لست أحسب نفسي أن قد أدركت. ولكنى أفعل شيئا واحدًا: إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض.." (فى 3: 13).
هذا الامتداد إلى قدام، مصدره الطموح الروحي.
الطموح إذن يؤدى إلى النمو الروحي.
والطموح أيضًا يشمل الحياة كلها..
فى كل عمل تمتد أليه يد الإنسان: في دراسته، وفى وظيفته، وفى كل مسئولياته العالمية والعائلية، وكما قال القديس يوحنا الحبيب "في كل شيء أروم أن تكون ناجحًا وصحيحًا، كما أن نفسك ناجحة" (3يو2).. "في كل شيء "كما يقال أيضًا في المزمور الأول عن الإنسان المطوب "وكل ما يعمله ينجح فيه" (مز1: 3)، ونفس الكلام قيل عن يوسف الصديق (تك39: 3).
والطموح روحيًا، ليس معناه أن تتفوق على الآخرين، إنما أن تتفوق موضوعيًا.
ليس أن تتغلب على غيرك في العمل، إنما أن تتقن العمل إتقانًا مثاليًا. وفى نفس الوقت تتمنى أن كل منافسيك يتقنون نفس الإتقان المثالي. فالطموح لا يضيع فيك محبتك للناس.
الطموح إذن هو طموح روحي، يشمل النمو الروحي المستمر في كل فضيلة. وهو أيضًا طموح روحي، يشمل النمو الروحي المستمر في كل فضيلة. وهو أيضًا طموح في كل أعمالك ومسئولياتك لتصل فيها إلى كل كمال ممكن، دون أن تصطدم بعوامل شخصية.
ولا يأخذ الطموح أسلوبًا ماديًا أو عالميًا.
كالطموح في الغنى والمناصب والألقاب والسلطة، ومحبة العالم، وتعظم المعيشة.
القوة
أولاد الله ينبغي أن يكونوا أقوياء،لأنهم صورة الله القوي على أن تتجه القوة اتجاها روحيًا..
وما أجمل قول الرب "ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لي شهودًا" (أع1: 8). وقال الكتاب:
"وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع. ونعمة عظيمة كانت على جميعهم" (أع4: 33).
فإن كان واحد من أولادك يريد أن يكون قويًا، لا تحطم فيه هذه الرغبة..إنما وجهها توجيهًا سليمًا بأن يكون قويًا في خدمته، في إقناعه، في معلوماته، في محبته، في بذله، في تأثيره على الآخرين.. قويًا في تداريبه الروحية، في صلاته، في تأملاته..
ولا تأخذ قوته أسلوبًا شمشونيًا أو عالميًا.
ولا تعنى قوته انتصاره على غيره، إنما كسبه للغير..
محبة النفس
هل محبة النفس خطية؟
كلا، فقد قال الكتاب "تحب قريبك كنفسك" (مت21: 39).
ولكن المهم أن تتجه محبتك لنفسك اتجاها روحيًا.
فتحب لنفسك النقاوة والقداسة. وتحب لنفسك أن تكون هيكلًا مقدسًا للروح القدس، وأن تنال نصيبها في الملكوت، وتكون بلا لوم أمام الله.. نفسًا منتصرة، تنضم إلى جماعة الغالبين، ويقودها الله في موكب نصرته (2كو2: 14).
ولا تكون محبتك لنفسك، أن تتركها لتسلك حسب هواها.
أو أن تقول كما قال سليمان "ومهما اشتهته عيناي، لم أمنعه عنهما" (جا2: 10). فمن الفضائل المعروفة، ضبط النفس. وأيضًا محاسبة النفس ولوم النفس أي تبكيتها على أخطائها.. بهذا تظهر محبتك الحقيقية لنفسك..
وليست محبة النفس هي الأنانية، أو تفضيل نفسك على غيرك.
فالرب يقول "من يرفع نفسه يتضع. ومن يضع نفسه يرتفع" (مت23: 12). ويقول الكتاب "مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو12:10).
أتحب نفسك؟ حسنًا تفعل. بهذه المحبة، قومها لترجع كما كانت صورة لله.
واحترس من أن تحب نفسك محبة خاطئة..!
إن كنت تحبها، أصعدها على الصليب، حتى كما تتألم معه، تتمجد أيضًا معه (رو8: 17)،وحتى تستطيع أن تتغنى قائلة "مع المسيح صُلبت. فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل2: 20).
إذا أحببت نفسك، أوصلها إلى إنكار الذات، فتكون مثل المسيح الذي "أخلى ذاته" (فى 2: 7).
فليست محبة النفس أن تدللها. بل أنت بهذا تضيعها. بينما العكس هو الصحيح، كما قال المسيح:
"من وجد نفسه يضيعها. ومن أضاع نفسه من أجلى يجدها" (مت10:39).
المواهب
لنفرض أن إنسانًا له موهبة في الرسم أو النحت أو الشعر أو الموسيقى أو التلحين، أو حتى في التمثيل أو الغناء أو ما أشبه..
هل نكبت عنده هذه الموهبة، ونقول له اتجاها روحيًا، على رغم أن هذه الموهبة تبعده عن الله!!
كلا، بل يمكن توجيه كل هذه المواهب توجيهًا روحيًا.
ونحن نحتاج إليها كلها داخل الكنيسة. نحتاج إلى أشخاص يؤلفون لنا تراتيل، وإلى آخرين يتقنون التلحين لكي يلحنوا هذه التراتيل، وأشخاص لهم مواهب صوتية وآخرين لهم قدرة على العزف، لتكوين كورال روحي..
بل نحتاج إلى إنشاء مسرح قبطي.
ينتج لنا مسرحيات جميلة عن سير الشهداء وآباء البرية وباقي القديسين. ويجسم لنا تاريخنا بأسلوب مؤثر.
ويمكن تسجيل ذلك كله على أفلام أو أشرطة فيديو، تعرض على الشباب والعائلات، وعلى القرى في الخدمة الريفية. وكل ذلك يلزمه مواهب التأليف والتمثيل والتلقين والإخراج، وفى المكياج والتصوير، وفى دراسة ملابس العصر وتصنيعها.. ولا نحسب أن في ذلك شيئًا من الخطأ..
إنما الخطأ هو في سوء استخدام الموهبة..
أما استخدامها بأسلوب روحي، وبهدف إنجاح الخدمة، وجذب أولادنا من حول الأفلام تتعبهم إلى أفلام أخرى تشبعهم بمشاعر روحية.. كل ذلك نافع ومفيد، وليس فيه أي خطأ، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. بل الخطأ هو في نقص هذا المجال..
الخطأ ليس في الفن، وإنما في الانحراف بالفن.
إذن نحارب الانحراف، ولا نحارب الفن، ولا نكتب المواهب. وفى كل ذلك، فلنتذكر قول الرسول "كل شيء طاهر للطاهرين" (تى1: 15).
كل شيء طاهر للطاهرين
نستخدم كل موهبة بطهارة، وكل صفة بطهارة.
نستخدم الفن بطهارة، فيصير طاهرًا معنا.
ونستخدم الغضب بطهارة، فيتحول إلى حماس روحي، وإلى غيرة مقدسة.
حتى المخدرات يستخدمونها في العمليات الجراحية، فتصير في هذا المجال الطبي طاهرة للطاهرين.
الخوف قد يكون نقصاَ، وقد يتحول إلى مرض نفسي. ولكن إذا حولناه إلى مخافة الله، صار طاهرًا للطاهرين. وهكذا يتحول الخوف إلى فضيلة تقي من السقوط في الخطية.
الذكاء أيضًا يكون طاهرًا للطاهرين. أما لغير الطاهرين فيتحول إلى طاقة مدمرة، وإلى دهاء ودسيسة وتأمر، الحب يكون طاهرًا للطاهرين، ويتميز بالوفاء والعطاء وبالإخلاص والبذل ولكنه لغير الطاهرين قد يتحول إلى دنس، أو إلى تدليل، أو إلى أنانية مدمرة..
كل شيء نحكم عليه حسب استخدامه وحسب هدفه ووسيلته.
ويمكننا بالهدف الروحي والوسيلة الخيرة، تحويل جميع الطاقات إلى الخير، وإلى بناء الإنسان وبناء الملكوت.