اعرفها وحصّن تفكيرك منها
مصائد نسقط فيها بأدمغتنا!
لوتشيانو باسيللو
بأدمغتنا نسير نحن البشر إلى كثيرٍ من أنواع المزالق والشراك. وما لم نبذل جهداً واعياً لرؤيتها واجتنابها فإنّها يمكن أن تعيق إعاقةً فادحةً مقدرتنا على التفكير العقلاني وتؤدّي بنا إلى إجراء محاكمات مغلوطة واتخاذ قرارات حمقاء.
إنّ ما يراد له أن يكون مزيةً مفيدةً في أدمغتنا يمكن أن ينقلب بترك الحرص إلى سببٍ من أسباب الزيغ والخطأ، وفي سبيل أن لا تتحوّل النعم نقماً علينا فإننا نعرض في هذه المقالة (بجزأيها) مجموعةً من أشدّ فخاخ الفكر ضرراً كما نعرض سبل الاحتراز منها.
1- مصيدة المرساة: التعلّق بالأفكار الأولى
ترى هل يتجاوز عدد سكان تركيا خمسةً وثلاثين مليوناً؟ ما أقرب تقديرٍ لديك؟
قامت مجموعة من الباحثين بطرح السؤال السابق على مجموعةٍ من الناس وفي النتيجة كانت التقديرات لا تتجاوز الخمسة والثلاثين مليوناً تجاوزاً معتبراً إلاّ نادراً.
ثمّ طرح السؤال نفسه على مجموعةٍ أخرى بعد تغيير نقطة التقدير المبدئية إلى مئة مليون ليصبح السؤال:
ترى هل يتجاوز عدد سكان تركيا مئة مليون نسمة؟ ما أقرب تقديرٍ لديك؟
على الرغم من أنّ كلا التقديرين المبدئيين (35 و100 مليون) كان اعتباطياً فإنّ تقديرات المجموعة الثانية كانت في أغلبيتها الساحقة تزيد عن تقديرات المجموعة الأولى زيادة كبيرة.
(ولأجل الفضوليين فإننا نخرج عن موضوعنا لنذكر أن عدد سكان تركيا يبلغ نحو 73 مليون نسمة).
والعبرة المستفادة؟
إن نقطة بدايتك يمكن أن تسبّب انحيازاً بالغاً في تفكيرك. الانطباعات الأولى، والأفكار، والتقديرات، أو المعطيات يمكن أن تشكّل مرساةً تربط الأفكار اللاحقة وتحدّد نطاقها.
إنّ هذه المصيدة خطيرةٌ جداً وخصوصاً عندما نرى استخدامها استخداماً متعمّداً مخطّطاً في مواقف مختلفة. ومن هذه المواقف ما تراه لدى البائع عندما يعرض عليك في البداية سلعةً بسعر مرتفعٍ جداً وهو يرجو تحديد نطاق البحث والاختيار في تفكيرك قريباً من ذلك السعر.
كيف تكتشف المراسي المقيّدة للفكر وتتخلّص منها؟
• تمسّك بمشاهدة المسائل والمشكلات من مناظير مختلفة، تجنّب الالتصاق بنقطة انطلاق واحدة، واعمل على تمحيص بيان المشكلة قبل المضيّ في أحد مسارات الحل.
• فكّر بنفسك قبل استشارة الآخرين. جمّع ما ينبغي من المعطيات واستكشف بعض الاستنتاجات بنفسك قبل أن تتعرّض لتأثيرات الآخرين ومراسيهم.
• اطلب المعلومات من نطاق مصادر واسع متنوّع. اطلع على آراء كثيرة ووسّع إطار مرجعيّاتك.
2- مصيدة الركون إلى الحاضر المألوف
في إحدى التجارب المستكشفة لهذه المصيدة قدّمت لأفراد المجموعة واحدةٌ من هديّتين: تلقّى نصف أفراد المجموعة كوب قهوة مزخرفاً، وتلقّى النصف الآخر لوح شوكلاتة سويسرية. وبعد ذلك قيل لأفراد المجموعة: بإمكان أيّ منكم استبدال هديته بالصنف الآخر إن كان يفضّله دون أيّ تكلفة أو إحراج.
منطقياً، نحن نعرف أنّ نصف أعضاء المجموعة لم يحصلوا على الهدية التي يفضلون وبالتالي ينتظر منهم استبدالها، ولكنّنا رأينا في الواقع أنّ عشرةً بالمئة وحسب قاموا باستبدال هداياهم!
أجل، نميل نحن البشر إلى تكرير السلوكات المعتادة واستبقاء الأحوال الراهنة ما لم تقدّم لنا المحفّزات الملائمة التي تحثّنا على التغيير. إنّنا نكنّ للحاضر المألوف أفضلية افتراضية دائمة ترجّحه على أيّ خيار آخر.
كيف تواجه الركون إلى المألوف؟
• فكّر وتصرّف وأنت تراعي الأفضلية الأتوماتيكية التي ينسبها البشر انحيازاً للحاضر المألوف واجتهد في تعديل ذلك الانحياز والنظر إلى الوضع الراهن باعتباره خياراً عادياً لا يختلف عن بقية الخيارات.
احذر من الوقوع أسيراً في عقلية "المصارعة بين ما نحن عليه الآن وبين كلّ ما يمكن أن نكون عليه نحن أو الآخرون" بل انظر إلى الخيار الراهن وسل نفسك: كيف كنت ستختاره إن لم يكن هو الحاضر المألوف؟
• اعرف مطالبك وغاياتك. حدّدها بوضوح وبساطة ثمّ اتجه إلى التقييم الموضوعيّ حتّى تقرّر كيف يخدم الخيار الراهن تلك الغايات.
• احذر من المبالغة في تقدير تكاليف وأعباء التحوّل. إنّ تكلفةَ التغيير نادراً ما تطابق في الواقع ما نرسمه لها قبل الدخول فيها، تذكّر: تكلفة التغيير في مرآة البشر تبدو أضخم بكثير ممّا هي عليه في الواقع.
3- مصيدة التعلّق بالتكلفة الهالكة: الإصرار على حماية الاختيارات السابقة
قبل أيّام من مباراة كرة السلّة المنتظرة اشتريتَ تذكرةً غير قابلة للاسترجاع. وفي ليلة المباراة وجدت نفسك محاصراً بين إرهاقٍ في جسدك، وعاصفةٍ ثلجية قاسية تزمجر في شوارع البلدة.. يملؤك الندم على شراء التذكرة، ويبدو لك المكوث في دفء المنزل وراحته ومتابعة المباراة على التلفاز أكثر تفضيلاً وجاذبية.. فماذا ستصنع؟
الإقرار بالحقيقة مرّ وطيّ صفحة الماضي شاقّ على النفس، وعندما نفعل ذلك فإنّنا سنجدُ بسرعةٍ وثقة أنّ المكوث في المنزل هو الخيار الأفضل تلك الحالة. والنقود؟ النقود المدفوعة من أجل التذكرة قد ذهبت ولن تعود بغضّ النظر عن الخيار الذي ستأخذ به الآن: إنّها تكلفة هالكةٌ.
التشبّث بالتكلفة الهالكة والسعي إلى تبرير أو إنجاح قرارات وتصرفات الماضي مهما كان الثمن ما هو إلاّ استعبادٌ يفرضه المرء على نفسه، وتجميدٌ للمستقبل في زنزانة الماضي.
كيف تتخلّص من مصيدة التكلفة الهالكة:
• كن واقعياً، لا تخشَ الوقوع في الأخطاء ولا تضخّم عواقبها في نفسك. وإن كان الإقرار بالأخطاء الماضية يصيبك بالإحباط أو الشعور بالعار فابحث عن الأسباب الجذرية وعالجها. لا عصمة لمخلوق من ارتكاب الأخطاء فلا تخشَ شيئاً والمهمّ أن تتعلّم من أخطائك.
• اصغِ إلى وجهات نظر الذين لم يكن لهم يدٌ في صناعة القرارات السابقة. ابحث عن أناسٍ خالين من المشاعر الخاصة تجاه الاختيارات الماضية واطلب آراءهم.
• ركّز على أهدافك، تمسّك بالغاية وليس بالمسار. إنّنا نصنع القرارات من أجل تحقيق الغايات، وإذاً إيّاك أن يصبح التزامك متوجهاً إلى الخطوات المختارة لتحقيق الهدف. بما أنّك تعرف الهدف وتتقن قراءة الخريطة فإنّ التزامك الأوّل لن يكون التمسّك بالطريقة وإنّما السعي الدائم إلى تغيير تلك الطريقة وتحسين مقدرتها على تحقيق الهدف.
4- مصيدة التوكيد الذاتي: رؤية ما تريد أن ترى
تشعر أنّ سوق الأسهم سوف ينحدر قريباً وأنّ من الأفضل في هذا الوقت الإسراع إلى بيع أسهمك! ولتأكيد تخميناتك فإنّك ترفع سماعة الهاتف وتتصل بصديق باع أسهمه كي تسمع منه ما الذي حمله على ذلك..
شكراً عزيزي القارئ! لقد قدّمت لنا بتصرّفك المذكور مثالاً على مصيدة التوكيد أو التصديق الذاتي:
إنّها البحث عن معلومات يغلب على الظنّ تدعيمها لوجهة نظرك الأولى، وفي الوقت ذاته تحويل الوجه والعينين عن المعلومات التي يمكن أن تناقض أو تخالف وجهة نظرك.
لا يقتصر أثر التوكيد الذاتيّ على التدخّل في توجيه عينيك الباحثتين وحصرهما في نطاقٍ معيّن، بل هو يمتدّ ليتدخّل في تفسير قراءتك للمعطيات ورؤيتك للمشاهدات من كل الجهات. وهكذا تجدنا نحن البشر أقلّ دقةً واجتهاداً في تمحيص الحجج التي تبدو داعمةً لأفكارنا المستقرة مسبقاً، كما تجدنا أشدّ مقاومةً وتمحيصاً وتحدّياً في وجه الحجج التي تبدو مخالفةً لأفكارنا.
مهما كان أحدنا يظنّ نفسه حيادياً عند تناول قرار معيّن فإنّ أدمغتنا البشرية تنطلق على الدوام إلى انتقاء خيارٍ معين انتقاءً حدسياً، وتضعنا تحت تأثير مصيدة التوكيد أو البرهان الذاتي في كل الأحوال تقريباً.
كيف تبتعد عن مصيدة التوكيد الذاتي؟
• عرّض ساحة تفكيرك لرياح معلوماتٍ متعاكسة من كل الاتجاهات. افحص كل الأدلّة بدرجةٍ واحدة من الدقّة والصرامة، ولا تستخفّ بالأدلّة المخالفة لافتراضاتك. حدّد مطلبك: هل تبحث عن بدائل محتملة أم إنّك تبحث عن تطمينات وحسب؟!
• ابحث عن محامي النقيضين: جد لنفسك شخصاً تحترمه وتقدّر معرفته واجعله يناقش ويجادل ضد القرار الذي تفكّر في اتخاذه. إن لم تجد مثل هذا المحامي فقم بالدور بنفسك وابحث عن الحجج المعاكسة للقرار بنفسك. انظر إلى موقف الطرف الآخر "المعاكس" بعقل منفتح، وانفتاح العقل هنا يشمل بالتأكيد مراعاة أنّ الطرف الآخر قد يكون واقعاً في واحدٍ أو أكثر من مزالق التفكير التي نتحدّث عنها.
• لا تطلب مشورة الآخرين وأنت تدفعهم أو تزيّن لهم أن يقولوا لك ما تحب أن تسمع: أحكم صياغة أسئلتك بحيث تكون حياديةً غير مؤثّرة حتّى تتجنّب قدر الإمكان انزلاق الناس إلى تأكيد تفصيلاتك. وهكذا فإن السؤال بصيغة: ماذا ينبغي أن أفعل بأسهمي؟ هو خير من السؤال بصيغة: ألا ينبغي أن أبيع أسهمي اليوم؟
5- مصيدة المعلومات الناقصة: إكمال الفراغات بتصوّرات سريعة جاهزة
تقول الحزّورة: هاري شخصٌ انطوائي. إذا أخبرتك بأنّه إمّا مشرف مكتبة أو بائع فأيّهما تتوقع أن يكون هاري؟
بالتأكيد، يميل معظمنا إلى اختيار هاري مشرف المكتبة اختياراً شبه مؤكّد. وهذا الاختيار ليس بمستغرب فنحن تربّينا conditioned على التفكير بأن البائعين يتمتّعون بشخصيات انبساطية منطلقة بل واقتحامية، أليس كذلك؟
مبارك يا عزيزي! إن اخترت هاري أمينَ مكتبة فأنت -مثل كل البشر تقريباً- تتبع محاكمةً خاطئةً (أو هي ناقصة على الأقل). كيف ذلك؟
إن هذه النتيجة التي اخترتها تتجاهل حقيقة أن من يتخذون البيع مهنةً لهم يتجاوز عددهم عدد مشرفي المكتبات مئة مرّة. وإذاً، قبل أن تراعي السمات النفسية لهاري وتحدّد اختيارك بناءً عليها ينبغي أن تضع في الحسبان الاحتمال الضئيل لكونه مشرف مكتبة (واحد في المئة فقط).
ما يعنيه الكلام السابق هو أنّه حتّى لو كان كل مشرفي المكتبات أناساً انطوائيين فإنّه يكفي أن يوجد بين البائعين أناسٌ إنطوائيّون بنسبة 1% وحسب حتّى تصبح فرصةُ أن يكون هاري بائعاً أكبر من فرصة أن يكون أمين مكتبة.
ما سبق كان مثالاً واحداً بسيطاً على كيف تؤدّي الغفلة أو التغافل عن عنصرٍ بسيط من المعطيات إلى ترك حدسنا وتفكيرنا التلقائي يمضي بنا بكل ثقة وعزم في طريقٍ خاطئ كل الخطأ.
نحتفظ نحن البشر بتصوّرات ذهنية –تصوّرات مبسّطة للواقع- تجعلنا نقفز إلى النتائج قفزاً سريعاً واثقاً قبل مسائلة كل الافتراضات أو قبل التحقّق من استكمال كل المعلومات اللازمة للتوصّل إلى النتيجة.
كيف تتجنّب مصيدة الاستنتاج من معلومات ناقصة
• عبّر عن افتراضاتك تعبيراً صريحاً، ارسمها بصيغٍ واضحةٍ محدّدة ثابتة. هناك فرّق بين المشكلة وبين البيان الكلاميّ المعبّر عنها، وإنّك –ككل البشر- تستخدم في فهم ومعالجة كلّ مشكلة معلوماتٍ ضمنيّة (افتراضاتك المسبقة). ليس من الصعب تمحيص مقبولية أو صحّة هذه الافتراضات ولكن حتى يمكن ذلك لا بدّ أوّلاً من تمييزها تمييزاً واضحاً.
• قدّم المعطيات القابلة للإثبات على التبسيطات المرسومة ذهنياً: أجل، إنّ تصوّراتنا المسبقة (مثل النماذج التي نرسمها لظواهر العالم المختلفة) تفيد فائدةً عظيمةً في الكثير من المواقف، ولكن ينبغي الحرص من المبالغة في الاعتماد عليها. حيثما يكون الخيار متاحاً عليك أن تختار الاعتماد على المعطيات القابلة للإثبات والفحص.
منقوووووول