رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الكنيسة والفكر التكويني لنيافة الأنبا رافائيل "أنعم لنا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم، لنهرب إلى التمام من كل أمر رديء للمضاد" (تحليل الآب بعد القسمة) "نَظَرَ يوحَنا يَسوعَ مُقبِلاً إليهِ، فقالَ: هوذا حَمَلُ اللهِ الذي يَرفَعُ خَطيَّةَ العالَمِ! هذا هو الذي قُلتُ عنهُ: يأتي بَعدي، رَجُلٌ صارَ قُدّامي، لأنَّهُ كانَ قَبلي. وأنا لم أكُنْ أعرِفُهُ.... لكن الذي أرسَلَني لأُعَمدَ بالماءِ، ذاكَ قالَ لي: الذي ترَى الرّوحَ نازِلاً ومُستَقِرًّا علَيهِ، فهذا هو الذي يُعَمدُ بالرّوحِ القُدُسِ. وأنا قد رأيتُ وشَهِدتُ أنَّ هذا هو ابنُ اللهِ" (يو1: 29-34). إن الله عندما أرسل يوحنا.. لم يُلقنه المعرفة بطريقة مباشرة، ولكن أعطاه علامة يكتشف بها مَنْ هو (ابن الله). ونفس المنهج استخدمه يوحنا مع تلاميذه، فبعد أن شهد للمسيح حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم.. "أرسَلَ اثنَينِ مِنْ تلاميذِهِ، وقالَ لهُ: أنتَ هو الآتي أم نَنتَظِرُ آخَرَ؟" (مت11: 2-3). بالتأكيد لم يكن يوحنا متشككًا في المسيح، وقد سبق أن شهد بلاهوته، ولكنه أراد أن يتذوق تلاميذه بأنفسهم، ويختبروا ويدركوا أن يسوع هو المسيح الآتي إلى العالم بالحق، وهكذا أيضًا جاءت إجابة الرب يسوع على سؤاله.. لم يجب بالإيجاب أو بالنفي، ولكنه استبقاهم معه لوقت قصير، ليكشفوا بأنفسهم مَنْ هو يسوع.. ثم عقّب الرب يسوع بقوله: "اذهَبا وأخبِرا يوحَنا بما تسمَعانِ وتنظُرانِ: العُميُ يُبصِرونَ، والعُرجُ يَمشونَ، والبُرصُ يُطَهَّرونَ، والصُّمُّ يَسمَعونَ، والموتَى يَقومونَ، والمَساكينُ يُبَشَّرونَ. وطوبَى لمَنْ لا يَعثُرُ فيَّ" (مت11: 4-6). ولعل السيد المسيح أيضًا أراد أن ينبه أذهانهم إلى النبوة التي تتحدث عنه في إشعياء: & "حينَئذٍ تتفَقَّحُ عُيونُ العُميِ، وآذانُ الصُّم تتفَتَّحُ. حينَئذٍ يَقفِزُ الأعرَجُ كالإيَّلِ ويترَنَّمُ لسانُ الأخرَسِ" (إش35: 5-6). & "روحُ السَّيدِ الرَّب علَيَّ، لأنَّ الرَّبَّ مَسَحَني لأُبَشرَ المَساكينَ، أرسَلَني لأعصِبَ مُنكَسِري القَلبِ، لأُناديَ للمَسبيينَ بالعِتقِ، وللمأسورينَ بالإطلاقِ" (إش61: 1). وكأنه يقول لهم: & "فاذهَبوا وتعَلَّموا ما هو" (مت9: 13). & "تضِلّونَ، إذ لا تعرِفونَ الكُتُبَ ولا قوَّةَ اللهِ؟... أفَما قَرأتُمْ في كِتابِ موسَى..." (مر12: 24، 26). & "فتشوا الكُتُبَ لأنَّكُمْ تظُنّونَ أنَّ لكُمْ فيها حياةً أبديَّةً. وهي التي تشهَدُ لي" (يو5: 39). لم يكن السيد المسيح تلقينيًا في نقل المعرفة إلى تلاميذه وسامعيه، بل كان محفزًا للفكر والبحث والاطلاع والاستنتاج، ومشيرًا للحوار والمناقشة وإعمال الفكر والعقل. وقد تبنت الكنيسة هذا المنهج التكويني لبناء شخصيات أبنائها، وتسليمهم الإيمان والتقوى والمعرفة، بطريقة حياتية تطبيقية، عبَّر عنها القديس كليمنضس السكندري بقوله: "لأن الرب عملي وليس نظريًا، فهو يهدف إلى الرقي بالروح، مؤدبًا إياها لتسمو إلى الحياة الفاضلة وليس لمجرد التلقين الذي يكسبها فضيلة ذهنية (فقط)" (عن كتاب المربي). وهذا المنهج التكويني تعبِّر عنه الكنيسة في مجالات خدمتها وطبيعة ممارستها في ثلاثة محاور: (1) سلطان التقنين لقد منح السيد المسيح الكنيسة سلطانًا وقوة للتقنين، واستنباط الأنظمة، واتخاذ قرارات لحل المشاكل، وذلك عندما قال: & "الذي يَسمَعُ مِنكُمْ يَسمَعُ مِني، والذي يُرذِلُكُمْ يُرذِلُني، والذي يُرذِلُني يُرذِلُ الذي أرسَلَني" (لو10: 16). & "ها أنا أُعطيكُمْ سُلطانًا لتدوسوا الحَيّاتِ والعَقارِبَ وكُلَّ قوَّةِ العَدو، ولا يَضُرُّكُمْ شَيءٌ" (لو10: 19). & "مَنْ غَفَرتُمْ خطاياهُ تُغفَرُ لهُ، ومَنْ أمسَكتُمْ خطاياهُ أُمسِكَتْ" (يو20: 23). وقد مارست الكنيسة منذ البداية هذا السلطان وهذه الحرية المقدسة.. فمَنْ ذا الذي أمر الرسل أن يختاروا بديلاً ليهوذا؟ وكيف اختاروا متياس؟ (أع1: 15-26)، وعندما أثيرت مشكلة أرامل اليونانيين.. استخدم الآباء الرسل سلطانهم في استباط طغمة جديدة للخدمة وهي الشمامسة، لخدمة احتياجات الفقراء والأرامل، ليتفرغ الرسل للصلاة وخدمة الكلمة (أع6: 1-6). وهكذا وعلى مدى تاريخ الكنيسة كانت تعقد المجامع لبحث الأمور اللاهوتية والإيمانية، وبعد الحوار والمناقشة والتداول الطويل يستقر رأي المجمع على فكر ما، ويضعونه في صورة قانون تلتزم به كل الكنيسة الواحدة الجامعة في كل العالم. وقد انعقد أول مجمع من هذا النوع في أورشليم لتدارس قضية التهود.. "فاجتَمَعَ الرُّسُلُ والمَشايخُ ليَنظُروا في هذا الأمرِ. فبَعدَ ما حَصَلَتْ مُباحَثَةٌ كثيرَةٌ قامَ بُطرُسُ وقالَ لهُمْ:.... وكانوا يَسمَعونَ بَرنابا وبولُسَ يُحَدثانِ.... وبَعدَما سكَتا أجابَ يعقوبُ قائلاً:.... لذلكَ أنا أرَى.... حينَئذٍ رأَى الرُّسُلُ والمَشايِخُ مع كُل الكَنيسَةِ أنْ يَختاروا.... وكتَبوا بأيديهِمْ هكذا:.... رأينا وقد صِرنا بنَفسٍ واحِدَةٍ.... لأنَّهُ قد رأَى الرّوحُ القُدُسُ ونَحنُ...." (أع15: 6-29). لا توجد أروع من هذه المباحثة التي استقر فيها رأي الكنيسة برأي الروح القدس، وتم تقنين وضع لم يكن قد بُحث من قبل، ولم يأخذوا فيه أمر مباشرًا من الرب – وإلاّ ما كانوا قد تباحثوا. وقد قال معلمنا بولس الرسول عندما سئل في أمر العذارى: & "وأمّا العَذارَى، فليس عِندي أمرٌ مِنَ الرَّب فيهِنَّ، ولكنني أُعطي رأيًا كمَنْ رَحِمَهُ الرَّبُّ أنْ يكونَ أمينًا" (1كو7: 25). & "ولكن أقولُ هذا علَى سبيلِ الإذنِ لا علَى سبيلِ الأمرِ" (1كو7: 6). وكذلك في قضية الزواج المختلط قال: "وأمّا الباقونَ، فأقولُ لهُمْ أنا، لا الرَّبُّ..." (1كو7: 12). وبنفس الوضع عندما شكك أريوس في لاهوت السيد المسيح، واجتمع مجمع في نقية لتداول الأمر، وقيض الله للكنيسة الشاب المصري التقي أثناسيوس، وكان قد شرب الإيمان من أبيه الكسندروس البطريرك، ورضع التقوى من معلمه أنطونيوس أب الرهبان.. وقف هذا الشماس القبطي ليحاور أريوس، ويهدم حيله، ويفضح أفكاره النجسة.. وأخيرًا استقر المجمع على حقيقة لاهوت السيد المسيح، وأنه من نفس جوهر الآب، وقد نحت المجمع هذا المصطلح اللاهوتي (أومواوسيوس)، وصار قانونًا ثابتًا في الكنيسة نتلوه في الصلوات وتتأسس عليه المعمودية والإفخارستيا وكل المسيحية. وتكرر الوضع في القسطنطينية بشأن الروح القدس، ونوقش مقدونيوس، وتقرر في الكنيسة صفات ولاهوت الروح القدس، وتم تقنين الحوار وإكمال قانون الإيمان. ثم في أفسس نوقشت قضية الثيؤطوكوس (والدة الإله)، وأيضًا استقر المجمع على قانونية المصطلح. لم تكن هذه القضايا تحديثًا في الإيمان أو اختراعًا في اللاهوت أو تعييرًا في المسلمات، ولكنه كان توضيحًا وتقنينًا وشرحًا يحفظ سلامة الإيمان وصحة التسليم الرسولي من جيل إلى جيل. وفي نفس الوقت أبرزت هذه القضايا دور الكنيسة الفعلي والإيجابي في حفظ الإيمان، وتقنين المصطلحات، وفرز الفكر المنحرف واستبعاده، وأوضحت أن المسيحية لا تلغي العقل بالإيمان، وإنما تؤمن أن العقل عطية من الله للإنسان، يجب أن يستخدم في شرح الإيمان وتثبيته وحفظه من الانحراف. إن ما وصل إلينا من التراث المسيحي الأرثوذكسي، إنما هو محصلة تراكم خبرة الآباء وشروحاتهم، وتفاعلهم الشخصي مع مسلمات الإيمان ومفردات العقيدة.. وعلينا – الشباب – أن نعي هذا التراث ونعيشه لنأخذ دورنا في الإضافة الخاصة بجيلنا، لكي نسلم هذا الإيمان سليمًا مشروحًا معاشًا للجيل القادم بنعمة المسيح. (2) روح المشاركة إن المعنى الأولي للكنيسة هو أنها جماعة المؤمنين المتحدين معًا، ليكونوا جسد المسيح.. حسب تعبير معلمنا بولس الرسول: "لأنَّهُ كما أنَّ الجَسَدَ هو واحِدٌ ولهُ أعضاءٌ كثيرَةٌ، وكُلُّ أعضاءِ الجَسَدِ الواحِدِ إذا كانَتْ كثيرَةً هي جَسَدٌ واحِدٌ، كذلكَ المَسيحُ أيضًا. لأنَّنا جميعَنا بروحٍ واحِدٍ أيضًا اعتَمَدنا إلَى جَسَدٍ واحِدٍ.... فالآنَ أعضاءٌ كثيرَةٌ، ولكن جَسَدٌ واحِدٌ.... وأمّا أنتُمْ فجَسَدُ المَسيحِ، وأعضاؤُهُ أفرادًا...." (1كو12: 12-29). وهذه الوحدة التي تجعل الكنيسة (واحدة وحيدة مقدسة جامعة رسولية)، مصدرها المعمودية الواحدة التي وُلد منها كل المؤمنين.. "لأنَّنا جميعَنا بروحٍ واحِدٍ أيضًا اعتَمَدنا إلَى جَسَدٍ واحِدٍ" (1كو12: 13). وأيضًا الجسد الواحد على المذبح الذي يأكله جميع المسيحيين.. "فإنَّنا نَحنُ الكَثيرينَ خُبزٌ واحِدٌ، جَسَدٌ واحِدٌ، لأنَّنا جميعَنا نَشتَرِكُ في الخُبزِ الواحِدِ" (1كو10: 17). هذه الوحدة المقدسة التي لا تلغي تمايز الأعضاء.. (فالعين غير الأذن)، هي أيضًا تضمن لكل عضو – مهما صغر تضمن له مساهمته بوظيفته في خدمة كل الجسد.. لذلك لا يوجد عضو بلا عمل أو بلا رأي.. بل الجميع محسوب في ضمير الكنيسة أنه خادم.. "عبيدك يارب خدام هذا اليوم: القمامصة والقسوس والشمامسة الاكليروس وكل الشعب" (تحليل الخدام). إن مؤهل الخدمة في كنيستنا القبطية ليس هو فصول إعداد الخدام، ولا هو حفظ الإنجيل، أو الدراسة في الإكليريكية.. إنما المؤهل هو المعمودية التي بها نصير "فلستُمْ إذًا بَعدُ غُرَباءَ ونُزُلاً، بل رَعيَّةٌ مع القِديسينَ وأهلِ بَيتِ اللهِ،0مَبنيينَ علَى أساسِ الرُّسُلِ والأنبياءِ، ويَسوعُ المَسيحُ نَفسُهُ حَجَرُ الزّاويَةِ" (أف2: 19-20). وكل صلوات الكنيسة تسمى (ليتورجيا)، أي (العمل الجماعي) أو (العمل الشعبي)، لأنها يتحتم فيها أن يشارك الشعب في الصلاة والطلبة، لذلك تجد أن كل الصلوات التي يصليها الكاهن – بلسان الجماعة المقدسة – تكون بصيغة الجمع: "نسأل ونطلب"، "نشكرك"، "نمجدك"، "نقدم لك"، "لكي ننال".. الخ. وكلمة (آمين) التي يرد بها الشعب بعد كل صلاة يصليها الكاهن تعني الموافقة والاتفاق والمشاركة في الصلاة. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: الإفخارستيا هي شركة للكل، فهي لا تقام بالكاهن وحده بل بالشعب مع الكاهن، لأنه يبدأ قداس الإفخارستيا بقوله: (فلنشكر الرب)، فقط بعد أن يعطيه الشعب الموافقة باعلانهم بأنه (مستحق وعادل). وتعبر الكنيسة في صلواتها عن هذه الروح الجماعية بأن تصف المؤمنين بـ "جعلنا له شعبًا مجتمعًا"، أي أن سمة هذا الشعب الاجتماع والمشاركة، لذلك يصير لكل شعب الله كرامة متساوية ومكانة سامية، ومشاركة فعالة بسبب الاتحاد بالثالوث في وحدة على مثال وحدة الثالوث.. "ليكونوا واحِدًا كما نَحنُ..... ليكونَ الجميعُ واحِدًا، كما أنَّكَ أنتَ أيُّها الآبُ فيَّ وأنا فيكَ، ليكونوا هُم أيضًا واحِدًا فينا، ليؤمِنَ العالَمُ أنَّكَ أرسَلتني" (يو17: 11، 21). ويعلمنا القديس يوستينوس الشهيد بنفس الفكر: "هذا الشعب – الكينسة – التي فيها كل الناس يصيرون واحدًا، يشتركون في اسمه. فإلى هذه الكنيسة أتى المسيح مانحًا كرامة متساوية لكل من يحفظ وصاياه". "فلا يقل عضو شعب الله إني خروف ولست براع وليس لي عمل" (الدسقولية). نخلص من هذا جميعه أن الكنيسة بمعناها اللاهوتي الدقيق، تكرس روح المشاركة بين جميع أعضائها.. مشاركة في الصلاة والعبادة، ومشاركة في الخدمة، والعمل والتعليم، ومشاركة في تدبير احتياجات الكنيسة، وفي حل مشاكل الشعب، وفي اختيار الاكليروس سواء اختيار القس أو الأسقف أو البابا، ومشاركتها في نشر الإنجيل والكرازة.. هذه المشاركة هي إعلان عن الثالوث، وتطبيق وانعكاس له في حياتنا الكنسية، وهذه المشاركة تدفع كل عضو أن يكون له مساهمته وفكره، مما ينمي شخصيات شعب الله بطريقة تكوينية، تجعلهم يقبلون أثناسيوس ويرفضون أريوس، وتجعلهم يتركون الكنيسة عندما يستولى عليها البطريرك الملكاني الدخيل، ويذهبون إلى الصحراء ليشاركوا بطريركهم الأرثوذكسي المنفي والصلاة. (3) روح التلمذة التلميذ هو مَنْ يستقي المعرفة عن طريق معاشرة معلمه.. ليس بالدروس والمحاضرات كالطلبة ولكن بالممارسة والمعايشة، وهذا هو منهج ربنا يسوع المسيح في تلمذة تابعيه: "وأقامَ اثنَيْ عشَرَ ليكونوا معهُ، وليُرسِلهُمْ ليَكرِزوا" (مر3: 14). لذلك سمي المسيحيون في البداية تلاميذ الرب.. & "أمّا شاوُلُ فكانَ لم يَزَلْ يَنفُثُ تهَدُّدًا وقَتلاً علَى تلاميذِ الرَّب، فتقَدَّمَ إلَى رَئيسِ الكهنةِ" (أع9: 1). & "وكانَ في يافا تِلميذَةٌ اسمُها طابيثا، الذي ترجَمَتُهُ غَزالَةُ. هذِهِ كانَتْ مُمتَلِئَةً أعمالاً صالِحَةً وإحساناتٍ كانَتْ تعمَلُها" (أع9: 36). والسيد المسيح نفسه أمر تلاميذه: "فاذهَبوا وتلمِذوا جميعَ الأُمَمِ" (مت28: 19)، حتى إنه بعد كرازة الرسل "تكاثَرَ التلاميذُ" (أع6: 1). والتلمذة في مجالات الحياة العامة تظهر بأجلى وضوح في مجال الحرف اليدوية، التي فيها يجتهد (الصبي) أن (يشرب الصنعة) من (الأسطى)، فيقف ليلتقط منه أصول الحرفة، ويستلم منه خبرته وطريقته ليمارسها، ويضيف عليها خبرته الخاصة (أقصد خبرة التلميذ نفسه).. وعلى قدر براعة التلميذ في الالتقاط، وعلى قدر أمانة المعلم في التسليم تكون الثمرة رائعة والخبرة مضاعفة. إن سر بقاء الرهبنة إلى اليوم بقوة عظيمة هو قيامها على منهج التلمذة، التي يستقي فيه الأخ المبتدئ روح الشيخ معلمه.. يعيش معه ويخدمه كأليشع مع إيليا، وكيشوع مع موسى، هكذا تادرس مع باخوميوس، وويصا مع شنوده، وبولا مع أنطونيوس، وبيشوي مع بموا.... والتلمذة لا تلغي شخصية ولا تميز ولا فرادة التلميذ، وإنما تكسبه مهارة وخبرة معلمه لتكون له بداية من حيث انتهى المعلم، فيكسب ضعفين من روحه. والحياة الكنسية عمومًا – وليست الرهبنة فقط – تقوم على هذا التسليم الآبائي في ممارسة الصلوات والأصوام وحفظ الألحان، وفي فهم الإيمان والتعليم به، وفي فهم الإنجيل والعيش به. ولعل ما يضمن تسلسل روح التلمذة في الكنيسة من جيل إلى جيل هو سر الاعتراف.. حيث يتتلمذ المعترف على أبيه الروحي، يشرب منه روح المسيح، حتى ولو بدون كلام.. كما قال الراهب للقديس: "يكفيني النظر إلى وجهك يا أبي". والتلمذة في سر الاعتراف تضمن للإنسان عنصر مراعاة الفروق الفردية والعوامل الجسدية والنفسية والبيئية وغيرها.. والتي تؤثر في مستوى تحصيله الفكري، ومستوى ممارسته الروحية.. مما يشعر الفرد العضو بخصوصيته، وتميزه وانتمائه العميق للكنيسة بقناعة ومساهمة وممارسة فعالة. وهكذا تصير التلمذة وسيلة رائعة لتنمية قدرات ومواهب وتفرد كل عضو مع اعتبار أنه يجب على المعلم والأب أن يبذل أقصى جهد ممكن في سبيل خدمة أبنائه وتلاميذه، بحيث لا يفقد شخص وسط الزحام.. وذلك مسوقًا بنعمة الله ومؤازرة بقوة الروح القدس العامل فينا وفي الخدمة لمجد اسم الله القدوس. مشكلة الاغتراب ? أولاً: بهذا المنهج التكويني الرائع تقضي الكنيسة على مشكلة الاغتراب التي يعاني منها الشباب، فنحن شركاء في اتخاذ القرار، لأن الكنيسة التي أنا عضو فيها لها سلطان التقنين والتشريع واستنباط الأنظمة. ? ثانيًا: لأن هذا السلطان ليس حكرًا على جماعة الإكليروس، وإنما الكنيسة كلها بجميع أعضائها مدعوة للمشاركة، تعبيرًا وتحقيقًا لمعناها وجوهرها ووجودها.. فهي (جماعة متحدة مجتمعة). ? ثالثًا: لأن الكنيسة توفر لي المعلم الذي يسلمني أصول الحياة بالروحية، لأنمو بطريقة سوية فيها خبرة الآباء وتحديث الأبناء، فيها أصالة التراث وحداثة الممارسة، فيها الجذر وفيها أيضًا الثمرة الحلوة .. "يخرج من كنزه جددًا وعتقاء". إن الاغتراب الذي يعاني منه بعضنا يرجع حتمًا إلى أننا لم نعي بعد دور الكنيسة في حياتنا، ولم نتقن بعد روح المشاركة والانتماء، أو يرجع إلى ندرة المعلم القبطي والأب الذي يسلم الخبرة باتقان. إنها دعوة للشباب أن ينتمي ويشارك ويتتلمذ ويتلمذ، حتى نكون معًا كنيسة الله الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية، وحتى تنمو شخصياتنا وتزدهر مواهبنا.. فنكون نافعين لأنفسنا وأسرنا وكنيستنا، وأيضًا لوطننا بل وللعالم كله. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الكنيسة تكمل الإنسان وتبنى الروح والفكر والمشاعر |
الكنيسة والفكر السياسي |
البعد التكوينى |
الكنيسة القبطية والفكر الرسولي |
ما جاء بالكتب الغنوسية والفكر الغنوسي وموقف الكنيسة منها |