تسليم يهوذا الإسخريوطي ليسوع كانت نتيجة تطور تدريجي
مع أن الدراسة الكاملة لشخصية يهوذا، لا بد بالضرورة أن تتضمن المشاكل العويصة المتعلقة بحرية الإرادة والخطية الأصلية (كما يقول وستكوت) والتي لم تستطع أي نظرية أن تحلها حلًا كافيًا، إلا أن النظرية التي تعتبر تسليم يهوذا ليسوع، كان نتيجة تطور تدريجي داخل نفسه، تبدو أكثر واقعية. فمما تجب ملاحظته أن يهوذا كان الوحيد بين التلاميذ من المناطق الجنوبية، ولذلك فاختلافه في المزاج والنظرة الاجتماعية، بالإضافة إلى ما يمكن أن تؤدي إليه من اتجاهات دنيئة، قد يفسر جزئيًا عدم وجود التعاطف الصادق بين يهوذا وبقية التلاميذ، وإن كان هذا لا يبرر مطلقًا خيانته التي حدثت فيما بعد. لقد كانت له كفاءة خاصة في إدارة الأعمال، ولذلك اختير أمينًا للصندوق، ولكن قلبه لم يكن منذ البداية نقيًا، فقد كان يقوم بمسئوليته بدو ن أمانة، وامتد سرطان الجشع هذا من الأمور المادية إلى الأمور الروحية، فلم تحدث لأحد من التلاميذ خيبة أمل نتيجة انتهاء الحلم بمملكة أرضية ذات مجد وبهاء مثلما حدث ليهوذا. ولم تكن ربط المحبة التي جذب بها يسوع قلوب التلاميذ الآخرين، وكذلك التعاليم التي بها سما بأرواحهم فوق الأمور الأرضية، لم تكن إلا قيودًا أثارت أنانية يهوذا. ولأنه كان مكبلًا بأطماعه، ولخيبة أماله، ثارت فيه الغيرة والحقد والكراهية، ولم تكن كراهية إنسان قوي بل كراهية إنسان ضعيف أساسًا، فبدلًا من أن ينفصل صراحة عن سيده، بقى في الظاهر واحدًا من أتباعه، كما أن تفكيره المستمر في توبيخات سيده، جعل الباب مفتوحًا أمام الشيطان "فدخله الشيطان"، فهو إذًا كان قد علم الصلاح ولكنه لم يفعله (يو 13: 17). كما كان أيضًا ضعيفًا في تنفيذ خططه الدنيئة، لقد حمله هذا التردد -أكثر من حقده الشيطاني الخبيث- على أن ينتظر في العلية حتى اللحظة الأخيرة، مما دفع يسوع لأن يقول له: "ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة " (يو 13: 27). وبهذا التفكير الضعيف حاول أن يلقي باللوم على رؤساء الكهنة والشيوخ (مت 27: 3 و4)، لقد حاول أن يبرئ نفسه ليس أمام يسوع البار الذي أسلمه، بل أمام شركائه في الجريمة. ولأن العالم الذي -بأنانيته- اتخذه إلهًا له، تخلى عنه أخيرًا، مضى وخنق نفسه. إنها النهاية التعيسة لإنسان اعتنق بكل طاقاته روح المساومة والأطماع الذاتية، فلم يزن النتائج القاتلة التي قادته إليها تلك الدوافع الرديئة.