رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نوح شخصيات الكتاب المقدس "اصنع لنفسك فلكاً" (تك 6: 14) مقدمة قد لا يعرف الكثيرون أن قصة نوح كانت من أجمل القصص الكتابية وأعمقها وآثرها وأدناها إلى قلب الواعظ المشهور مودي، وقد لا يعرفون أن مودي لم يكن يمل على الإطلاق من ذكر تأثير هذه القصة عليه في الكثير من مواعظه وأحاديثه وكتاباته، وقد ألف مودي أن يفعل هذا، لأن هذه القصة أراحته وعزته، وكانت بمثابة نقطة التحول في خدمته، في لحظة من أدق وأحرج اللحظات التي مرت به في حياته كلها!!.. كان مودي في ذلك الوقت فاشلاً في الخدمة على أرهب وأدق ما يمكن أن تشتمل عليه كلمة الفشل من معنى، وإذ زاره أحد الأصدقاء ممن يقومون بالتعليم في مدرسة من مدارس الأحد، ورآه مهموماً كئيباً، استفسره عن سر كآبته وحزنه، وإذ أدرك أنه حزين لجدوب خدمته، وعقمها، وعدم إثمارها، أشار عليه أن يعيد تأمله في قصة نوح، قصة ذلك الإنسان الذي ظل يكرز، دون ملل، بين الناس مئة وشعرين عاماً، دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ما خلا بيته!! وإذ قرأ مودي القصة من جديد، هاله الفرق الكبير بين إيمان نوح وشجاعته وصلابته وصبره وكفاحه في مواجهة عالم شرير آثم، وإيمانه هو وصبره وجهاده، في عالم مهما يكن شره، فلا يمكن أن يكون ضريباً للعالم قبل الطوفان!! وفعلت القصة فعلها الرائع العجيب فيه، إذ زودته بإدراك ووعي جديد للخدمة، وارتفعت به من وادي الاتضاع واليأس والمذلة والقنوط الذي هبط إليه، إلى قمة النجاح والتقدم والانتصار والعظمة التي بلغها في خدمته فيما بعد!! ولم يعد من ذلك اليوم، كما ألف أن يقول، يعلق عوده على شجر الصفصاف!! وفي الواقع أن هذه القصة ليست خصبة حية عميقة الأثر في حياة الوعاظ فحسب، إذ تتحدث عن أول واعظ وكارز حدثنا عنه الكتاب، بل لعلها من أمتع وأجمل وأقوى القصص التي تتحدث عن رجل لم يكن من صناع التاريخ فحسب، بل كان هو بذاته نقطة بدء جديدة، في التاريخ، والحياة البشرية!!.. من يكون إذاً هذا الرجل العجيب؟!! وما كرازته؟!! وفلكه؟!! وميثاق الله معه؟!! هذا ما أرجو أن نضعه أمامنا ونحن نتناول شخصيته العظيمة!!. نوح من هو وما طباعه وحياته؟!! لعلنا نستطيع أن ندرس الرجل، ونتفهم طباعه وصفاته وأخلاقه في دعة وحق وجلال، إذا أتيح لنا أن نتتبعه من الداخل إلى الخارج، أو من علاقته مع الله في السريرة والنفس، إلى علاقته مع البيت، إلى علاقته مع المجتمع الخارجي، في العالم الذي يحيط به، ويبدو نوح في هذه جميعها وقد اتسم بالخلال التالية: نوح البار القديس وهنا يبدو قلب الرجل وجوهره وأعماقه، بل هنا يبدو أساس ما فيه من عظمة ورغادة وجمال ومجد: "كان نوح رجلاً باراً.. وسار نوح مع الله" "لأني إياك رأيت باراً لدي في هذا الجيل" والبر قبل كل شيء، هو الموقف البريء، غير المدان، من الله، أو في لغة أخرى، هو الموقف السليم، من الوجهة القانونية، إزاء حق الله وبره وعدالته وقداسته، ولكن كيف يتاح للإنسان أن يقف هذا الموقف، والكتاب يشهد: "إنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاعوا وفسدوا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد"؟! لا سبيل لنا إلا بالبر النيابي: "بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو بالإيمان بيسوع" وقد كان نوح من المؤمنين بالذبائح التي ترمز إلى هذا الفداء، وهذه الكفارة، وما من شك بأنه درج على تقديم هذه الذبائح كما كان يفعل آدم، وهابيل، وشيث، وأخنوخ، وموسى، وهرون وداود وسائر المؤمنين قبل الصليب!! وما من شك بأنه تعلم من الله كغيره من الأقدمين الذين جاءوا قبل ناموس موسى، الفرق بين الطاهر وغير الطاهر من البهائم والطيور، وكيف تقدم الذبائح من البهائم والطيور الطاهرة دون سواها!! وقد وضح هذا فيما صنعه بعد أن خرج من الفلك إذ بنى مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور وأصعد محرقات على المذبح!!.. والبر أيضاً يعني الحياة المتميزة المستقيمة المنفصلة عن العالم، والمتصلة بالله، وقد كان نوح بهذا المعنى، باراً لدى الله في جيله، إذ لم يعش الحياة التي كان يعيشها معاصروه، وأهل جيله، إذ انفصل عن شرهم ومجونهم وطغيانهم واستبدادهم، وسار مع الله، ولعل سيره مع الله كان بمثابة الامتياز والوقاية والعلاج له من السير مع العالم!! كان نوح هنا أشبه بتلك الشجرة من الصفصاف التي لاحظ البستاني أنها تميل إلى جانب، وحاول عبثاً أن يجعلها مستقيمة منتصبة، وأخيراً ادرك السر، إذ كان هناك مجرى صغير يندفع تحت سطح الأرض، وكانت الشجرة تميل نحوه إذ هو ينبوع ريها ومصدر انتعاشها وقوتها، وما أن عرف البستاني هذا، حتى سارع إلى قفل هذا الينبوع، وتحويله إلى الجانب الآخر المهمل من الشجرة، وما أسرع ما اعتدلت واستقامت بعد ذلك!!.. وليس هناك شيء يحررنا من إغراء العالم ولهوه ومتاعه ومجونه ولذاته سوى الاتصال بالله، والالتصاق به، والسير معه، والحياة والانتعاش والري بالشركة معه!! نوح الحلو الشمائل وما من شك بأن نوحاً كان حلو الشمائل، دمث الأخلاق، رقيق المشاعر، جذاب الشخصية، أطلق عليه أبوه بروح النبوة الاسم "نوح" أي "راحة" إذ قال: "هذا يعزينا عن عملنا وتعب أدينيا من قبل الأرض التي لعنها الرب" وهي لغة إن تحدثت عن شيء، فإنما تكشف لنا الطباع الحلوة الجميلة التي وجد عليها ذلك الإنسان فيما بعد، في علاقته بالناس، على وجه العموم، وعلاقته بأبويه وبيته، على وجه الخصوص، ولعل أفضل مكان يكتشف فيه الإنسان على حقيقته هو بيته، بين أبويه، وأهل منزله، حيث يسقط قناع التكلفة والتظاهر والمواراه، وحيث يبين على الطبيعة دون زيادة أو نقص،.. وقد كان نوح لأبويه بمثابة الابتسامة العذبة في أرض الدموع أو النسمة الرقيقة في الجو اللافح، أو الزهرة العطرة في البرية القاحلة، أو الينبوع الحلو في القفر المجدب!! فكلما ضاق لامك بالتعب والكدح في الأرض وجد في ابنه راحة وعزاء، وكلما اضطرب في علاقته بالأشرار في العالم الذي يحيط فيه، وكادت أنفاسه تختنق، وجد في ابتسامة ابنه وشركته وحلو شمائله ما يغنيه وينسيه عن كل ما في العالم من متاعب!! وكلما أحس الإرهاق يأتيه من هذا الجانب أو ذاك، ونظر إلى ابنه العظيم الغنى بالفضائل إلى جواره ارتقى وارتفع فوق كل تعب وعنت وضيق ومشقة!! وهل هناك في الواقع أفضل من الابن المحب المطيع السامي الأخلاق عندما يتمشى مع أبيه ويشاطره الحياة في ألوانها المختلفة المتعددة!! نوح ذو الشخصية القوية وهذا يعني أن نوحاً لم يكن إنساناً عاطفياً حلو الشمائل فحسب، بل كان أكثر من ذلك إنساناً "كاملاً في أجياله" والكلمة "كاملاً" تفيد توازن الشخصية وتمامها، أي أن شخصيته لم تكن تنمو في جانب على حساب جانب آخر، أو في لغة أخرى، إن عاطفة نوح لم تنم على حساب فكره أو إرادته، والعكس صحيح، أي أن فكره لم يقو على عاطفته مثلاً فيضحى جامداً، أو على إرادته فيمسى متخلفاً!! والكمال هنا كأي كمال بشري كمال نسبي غير مطلق، إذ هو كمال بالنسبة للأجيال التي عاش فيها، وفي الحدود التي يمكن أن يبلغها الإنسان على الأرض، فالصبي عندما يأخذ درجة الكمال في الامتحان، فذلك ليس معناه أنه أصبح مثل معلمه وأستاذه، وأنه ليس في حاجة إلى كمال آخر، بل معناه أنه كامل في حدود سنه واستعداده وإمكانياته وملكاته، وكلما استعت هذه وزادت كلما طولب بالصعود في مدارج الكمال!! وبهذا المعنى يمكننا أن نقول، ونحن في أمن واطمئنان، أن نوحاً كان من أعظم رجال عصره حكمة وأصالة وفكراً، بل لعله كان من أعظم رجال التاريخ ذكاء وصفاء والمعية وهل يمكن أن يكون غير هذا وقد رفعه الله في التاريخ ليكون أبا البشرية كلها من بعد الطوفان؟!! وهل يسمح الله أن يكون مورث البشر إنساناً محدود المدارك ساذج التفكير؟!! وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أيضاً أنه كان من أعظم رجال الأجيال وأقواهم إرادة وعزماً، بل لعل التاريخ لا يعرف شخصيات كثيرة كانت لها صلابة هذا الرجل وقوة إرادته!! كيف لا وقد كانت له الشجاعة والصلابة والقوة التي تجعله يقف في جانب، والعالم كله في جانب؟! كان عصر نوح عصراً بشعاً مريعاً اتسم بخطايا متعددة، إذ كان عصر الشهوة والمجون، العصر الذي سقط فيه أبناء الله –وهم النسل المنحدر من شيث، وليس الملائكة الذين سقطوا كما يظن البعض –تحت إغراء بنات الناس- وهذا النسل المنحدر من قايين- فاتخذوا لأنفسهم منهن نساء كما قادتهم طبيعتهم الجامحة ورغبتهم المدنسة، وكان عصر التمرد والعصيان، أو العصر الذي لا يسترشد فيه الناس بفكر الله، بل كان لهم: "كل ما اختاروا" العصر الذي قيل فيه: "إن شر الإنسان قد كثر وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" وكان أيضاً عصر الظلم والطغيان، العصر الذي فيه: "امتلأت الأرض ظلماً" و "كان في الأرض طغاة في تلك الأيام" وكان أخيراً عصر التعالي والمجد العالمي، العصر الذي كان يسعى الناس إليه وراء العظمة والسؤدد والمجد ومنهم: "الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم".. في هذا العصر عاش نوح، ولو أنه كان أضعف إرادة، وأسلسل قياداً، لانهزم وانهار أمام ما لا يعد ولا يحصى من التجارب والمشاكل والصعوبات التي كانت تواجهه، ولا شك، كل يوم . لكن الرجل عاش، في وسط هذه الظروف القاسية المروعة، وكأنما يجيب ذات الإجابة التي أجاب بها فيما بعد القديس أثناسيوس عندما قالوا له: "إن العالم كله ضدك" فأجاب: "وأنا ضد العالم".. كان نوح من الأبطال وصناع التاريخ الذين إذ يؤمنون برأي أو عقيدة أو مبدأ يقفون إلى جواره، ويعيشون له، ويموتون في سبيله، حتى ولو لم يقف إلى جوارهم أحد على وجه الإطلاق، لأنهم يؤمنون بغلبة الحق، يوماً ما، طال الزمان أو قصر، وسواء رأوا هم هذه الغلبة، أم رأتها أجيال أخرى تأتي بعدهم !! نوح الصبور وهذه سمة بارزة واضحة في طبيعة هذا الرجل وأخلاقه وكان لابد أن توجد فيه، ويكون عليها، وقد خالف جميع الناس الذين عاصرهم وعاش معهم، ونهج في الحياة بأسلوب يتباعد ويتباين عن أسلوبهم على أن صبر الرجل، يتضح بأجلى بيان في كرازته المستمرة لمن عاش بينهم مدة مائة وعشرين عاماً دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ومع ذلك لم ييأس أو يقنط أو يكل في مجهوده معهم وهل يمكن أن يوجد بعد ذلك بين الناس من يضارعه في الصبر والاحتمال والأناة؟ إذا استثنيناه لا شك ذاك الذي لم يعش بيننا صابراً فحسب، بل حمل في صبره آلام الأجيال وخطاياهم في جسده على خشبة العار، ومن ثم استحق أن ينفرد وحده بلقب ابن الإنسان، وأن يكون المثال الأول في الصبر، حتى ليمكن أن يقال: "والرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح" (2تس 3: 5 ). نوح وكرازته ونوح هو أول وأقدم كارز حدثنا عنه الكتاب، وهو يمكن أن يدعى، من هذا القبيل، أبا الكازين والوعاظ، وقد ذكر الرسول بطرس في معرض الحديث عنه نوع الكرازة التي كان ينادي بها إذ كان "كارزاً بالبر" ولا أحسب أن هناك كلمات أروع وأجل من كلمات الكسندر هوايت، وهو يتحدث عن كرازته إذ قال ما موجزه: "لقد أعطانا الرسول بطرس إضافة هامة عن حياة نوح بعد الأربعة الأصحاحات التي ذكرها موسى عنه عندما قال: "حفظ نوح ثامناً كارزاً للبر".. وكواعظ يهمني جداً –بطبيعتي كواعظ، ولأسباب أخرى كثيرة- أن أعرف لماذا لم ينجح نوح في خدمته كواعظ؟ ألأنه كان يكرز بالبر؟ قد يكون هذا فبخبرتي أعرف أن البر هو الشيء الوحيد الذي ينفر منه السامعون، فقد يرحب بعض الناس بأنواع أخرى من الوعظ، كالوعظ الجدلي، والوعظ الدفاعي، والوعظ التاريخي والقصصي، والوعظ العقائدي، والوعظ التبشيري، وقد يطلبونها، ولكنهم جميعاً يتفقون في مقاومة ورفض الوعظ بالبر، الوعظ بالتوبة والإصلاح الوعظ بالأخلاق والتصرف الحسن.. أجل فهذه لا يقبلونها أو يرحبون بها، ويوسيفوس يتبع موسى والرسول بطرس إذ يخبرنا أن نوحاً وعظ الناس وألحف في الحديث معهم إلى درجة أنه خاف من أن يقتلوه، وهناك شيء واحد ينبغي تأكيده، وهو أن نوحاً لم يفسد وعظه بحياته كما يفعل الكثيرون من الوعاظ، إذ له هذه الشهادة طوال كرازته ووعظه أنه سار مع الله، إذ قال له الرب وهو يأمره بصنع الفلك: "لأني إياك رأيت باراً لدي في هذا الجيل" على أن هوايت يستطرد فيقول أنه ربما كان لحام بن نوح أثر في إفساد رسالة أبيه إذ أنه بحياته وتصرفاته وأعماله كان يضعف من قوة تأثير هذه الرسالة على الآخرين ومع أننا نقر هذا الواعظ العظيم والكاتب الألمعي، إلى حد بعيد، في أنه ليس هناك ما يفسد أثر رسالة الكارز والواعظ أكثر من تصرفات بنيه وبناته وأهل بيته، إلا أننا لا نستطيع أن نبلغ هنا مبلغ الجزم في تحديد الأثر الذي تركه حام في رسالة أبيه وكل ما نستطيع أن نقوله هنا هو أن الناس تختلف باختلاف الأجيال في قبول الرسالة أو رفضها، والحياة الدينية موزعة بين المد والجزر باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة والأجواء التي تعيش فيها البشرية، وليس أدل على ذلك من قول السيد المسيح وهو يوازن بين المدن التي صنعت فيها أكثر قواته والمدن القديمة عندما قال: "ويل لك يا كورزين. ويل لك يا بيت صيدا لأنه لو صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديماً في المسوح والرماد.. وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم".. إن مأساة نوح الكارز هو أنه عاش في العصر الذي قال فيه الرب: "لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد" نوح وفلكه وهل يمكن أن يذكر نوح دون أن يذكر الفلك أيضاً؟ وأليس قصة نوح مرتبطة إلى حد بعيد بقصة ذلك الفلك الذي كان حداً فاصلاً بين عالم قديم وآخر جديد ولعله من اللازم أن نقف قليلاً منه لنسمتع إلى ما يمكن أن يعظ به يتحدث!! وأغلب الظن أنه سيكشف لنا عن هذه الحقائق العظيمة التالية: فلك نوح وعدالة الله وهل هناك في التاريخ ما هو أعلى صوتاً وأقوى عبارة في الحديث عن عدالة الله كفلك نوح؟ لقد أمر الله ببناء هذا الفلك لأن الأرض امتلأت ظلماً، ومن ثم كان لابد أن يضع الله نهاية لهذا الظلم، وهو السيد والملك والحاكم والديان العادل، وكان لابد في الوقت ذاته من أن يصنع تفرقة بين البار والأثيم. فلا يهلك البار مع الأثيم، وإذ وجد لديه إنساناً واحداً باراً مع بيته، أمر بصنع الفلك والدخول فيه، ليقيم بذلك حكم العدالة فلا يقال: "أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً" وإذا كانت الطبيعة البشرية الناقصة، إذا أوتيت شيئاً من النبل وسمو الخلق، تمقت الظلم، وتكره الطغيان، وتنشد العدالة، وتفخر بها، وإذا كان الإغريق قد رمزوا إلى العدالة بامرأة معصوبة العينين، تمسك بيدها ميزاناً للحكم بالعدل بعيداً عن الهوى والحيز والميل، وإذا كان الرومان قد ألفوا بأن يباهوا بأنهم رجال العدالة في كل التاريخ، حتى لقد وجد بينهم بروتس القاضي الروماني، الذي حكم على ولديه بالإعدام، إذ ثبتت خيانتهما، وعصب عينيه ساعة تنفيذ الحكم لكي لا يرى موتهما وإذا كانت العصور الحديثة تعتبر العدالة أعلى مقياس للرقي والتقدم والحضارة في أمة من الأمم فهل يكون الله الكامل العادل بطبيعته أقل إحساساً بها من البشر الناقصين؟ إن عدالة الله هي الملاذ الذي يلجأ إليه كل تعس شقي مظلوم في الأرض، وهو العدالة التي تجعلنا نغني مع فيبر قائلين: إن عدالتك يا رب هي الفراش الذي تهجع إليه قلوبنا القلقة، حيث تنام متاعبنا، وتنتهي ضيقاتنا!! فلك نوح وقداسة الله وقد تحدث الفلك أيضاً عن قداسة الله، إذ أنه تعالى قدوس يكره الخطية، ولا يتصورها، وإذا كانت السماء ليست بطاهرة أمام عينيه، فهل يعقل أن يسكت على الأرض وقد امتلأت بالفساد أمام عينيه؟! لقد كانت الأرض أشبه بالثوب المتسخ، أو الوعاء القذر، الذي لابد أن يغسل وينظف؟! وقد غسلها الله بالطوفان، ليبدأ مع نوح وبيته من جديد!!.. وإذا كان داود دينس الرجل الذي أوتي شيئاً من القداسة –في قصة قلب مدلوثيان لسرولترسكوف- قد حزت في أعماق قلبه خطية ابنته، وكان يتمنى في باديء الأمر أن تظهر بريئة، ولكن لما ثبتت إدانتها اكتسى وجهه بالغضب، وظهر فيه الرجل الإلهي المقدس، فقال لأختها: "لقد ذهبت عنا، لأنها ليست منا، فلتذهب إلى حال سبيلها، وليعمل الرب معها ما يشاء!! كانت ابنة الصلاة، وكانت لا تستحق أن تطرد من ذكرانا!! ولكن لا تدعي من الآن اسمها يجري على لسانك بيني وبينك" إذا كان داود دينس يقف هذا الموقف من الخطية مع ابنته، فهل يكون موقف الله القدوس من الأرض الفاسدة أضعف وأقل؟!! حاشا وكلا!! فلك نوح ورحمة الله وقد كان الفلك أيضاً إعلاناً عن رحمة الله، لا بالنسبة لنوح فحسب بل بالنسبة أيضاً للذين هلكوا، كيف لا وقد أبى الله أن يباغت الناس بالطوفان بل أمهلهم مئة وعشرين سنة صنع في أثنائها الفلك، وكان كل مسمار فيه، وكل قطعة خشب، تنادي الناس وتحذرهم من الغضب الرهيب الآتي؟! وهل يمكن أن يجد المرء عذراً للعدد الكبير الهائل ممن اشتركوا في بنيانه وصنعه، من عمال وصناع ونجارين وحدادين وغيرهم، ممن كان من المحال أن يصنع الفلك بدونهم؟!! أليس هؤلاء مثالاً لمن يعيشون في جو الخدمة الدينية، أو يقومون بحكم المهنة والعمل بخدمات كثيرة في الكنيسة، والمساعي، ومدارس الأحد، وجمعيات الشبان، والشابات، والنشر، والإذاعة وغيرها من أوجه النشاط الديني، ولكنهم يطرحون آخر الأمر في جهنم النار، حيث دودهم لا يموت، والنار لا تطفأ، ولسان حالهم يقول "ويحنا وبئساً لنا أبعد ما كرزنا للآخرين نصير نحن مرفوضين؟!!". فلك نوح ومحبة الله على أن الفلك إن تحدث آخر الأمر فإنما يتحدث قبل كل شيء، وبعد كل شيء عن محبة الله العميقة العجيبة غير المتناهية للناس!! كيف لا والفلك ليس إلا رمزاً للخلاص المجاني الكامل المجيد الذي لنا في المسيح يسوع!! لقد صنع الفلك بترتيب الله وحكمته دون أن يكون وليد فكر الإنسان ورأيه ومشورته وتدبيره، وهكذا كان الخلاص منبعثاً من أعماق المشورة الإلهية الأزلية من دون فكر أو شركة للناس!! يضاف إلى هذا أن الخلاص من الطفوان لم يكن إلا بشيء واحد لا غير، ألا وهو الاتجاء إلى الفلك، والدخول فيه، والاحتماء به، وهكذا خلاصنا الأبدي لا يمكن أن يكون سوى بالاندماج في المسيح، فلكنا العظيم، والاحتماء به والاختباء في جنبه المطعون!! وكما احتمل الفلك جميع التيارات واللجج والأمواج المتلاطمة التي كانت تصفعه، وتحيط به من هنا ومن هناك، هكذا احتمل المسيح يوم الصليب جميع تيارات الله ولججه التي طمت عليه!! فإذا كان نوح قد غني، ولا شك، هو وأولاده وبيته، وهم داخل الفلك، لرحمة الله وجوده ومحبته التي أعدت لهم هذا الخلاص العظيم!! أفلا يجمل بنا أن نغني في المسيح لرحمة الله ومحبته الأبدية التي لا تدرك أو توصف!! نوح وميثاق الله معه وآخر ما نختم به الحديث عن نوح هو ذلك الميثاق الذي أقامه الله معه ومع نسله إلى الأبد عندما قال: "وضعت قوسي في السحاب. فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض" وقد دعا الكسندر سملي هذه القوس "مبشر الله في الجو" وفي الواقع أنها إن تحدثت عن شيء فإنما تتحدث أولاً قبل كل شيء عن وجود الله ولطفه وحنانه ورحمته.. خرج نوح من الفلك، وتأمل هنا وهناك، فإذا به يرى من المناظر ما يملأه رعباً وخوفاً وهلعاً، لقد أبصر الدنيا حوله خراباً يباباً، أبصر الله وقد قضى على كل حي!! أين الرجال الذين رآهم مراراً؟!! أين المدن المرتفعة أين الجمال والحياة البشرية العامرة الزاخرة؟!! لقد انقضت هذه كلها، وأضحت أثراً بعد عين، وانتاب نوح، ولا شك، الإحساس الغامر الرهيب بالخوف والقلق والاضطراب!! ألا يمكن أن يتكرر الطوفان مرة أخرى؟!! وألا يمكن أن تحدث هذه المأساة بين بنيه وأحفاده في المستقبل القريب أو البعيد؟!! وصلى نوح، كما يقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي، وتضرع إلى الله، ألا يحدث مثل هذا الطوفان مرة أخرى؟!! وأجاب الله على هذه الصلاة "بأن رفع عينيه إلى فوق، وأراه قوس قزح الجميلة المنظر، وكأنما يقول له لا تفزع يا نوح أو تخف، فأنا لست الإله المنتقم القاسي الرهيب الذي تظنه، بل أنا الآب المحب العطوف الجواد؟!! تأمل قوس قزح هذه، وهل تجدها تشابه قوس الحرب والقتال؟!! كلا فإنك لن تجد في هذه القوس سهماً، بل ستجد القوس نفسها، وقد تجردت من الوتر، وانحنت إلى أسفل لتمس الأرض مساً رقيقاً خفيفاً!!.. وهكذا كان عهد الله وميثاقه مع نوح، عهد الصداقة والمودة والرفق والجود والمحبة التي لا يمكن أن تقهرها خطية أو إثم!! على أن قوس قزح تتحدث مع ذلك عن كمال الله وقداسته، إذ أن هذه القوس مكونة من سبعة ألوان، والسبعة تكون مجتمعة معاً، اللون الأبيض الذي يرمز إلى القداسة والكمال، أو في لغة أخرى أن كل صفات الله تعبر مجتمعة معاً عن قداسته ونقاوته الكلية وأنه مع محبته للخاطيء، ورحمته له، لا يمكن أن يشق الطريق إليه إلا بطلب القداسة والسعي ورائها: "القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" عب 12: 14 . وآخر الكل أن هذه القوس تتحدث عن جمال الله وحلاوة الشركة معه؟!! وهل رأيت مثل قوس القزح في الجمال؟!! وهل أدركت أن الميثاق مع الله يأسر القلب، ويملك اللب، ويخلب المشاعر، ويرفع النفس إلى لذة لا توصف أو تداني؟!! وهل علمت أن الحياة مع المسيح لها متعة دونها كل متع الحياة ومسراتها وملاهيها ومباهجها؟! وهل تبينت أن الوجود كله يرقص ويغني أمام عيني من عرف المسيح وعرف منه أو كما قال يوناثان ادواردس بعد تجديده: "لقد بدا جلال الله البارع أمامي في كل شيء، في الشمس، في القمر، في النجوم، في الحياة، في الطبيعة كلها،.. لقد خلق ابن الله العالم لهذه الغاية: أن يظهر من ورائه بصورة ما عظمته ومجده، فعندما نبتهج بالزهر المونق والنسيم الرقيق يمكننا أن نكتشف إحسان المسيح!! وعندما نتأمل الورود العطرة وزنابق الحقل البيضاء يمكننا أن نتبين محبته ونقاوته، وهكذا الأشجار وأغاني العصافير ليست إلا إعلاناً عن فرحة وجوده، والأنهار وتموجات المجاري ليست إلا مظهراً لوقع أقدام نعمته وجماله. وحين نلحظ لمعان الشمس والشفق الذهبي أو قوس قزح الجميلة يمكننا أن نرى جلاله وطيبته، ولهذا دعى المسيح شمس البر، وكوكب الصبح، ونرجس شارون، وسوسنة الأودية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
شخصيات من الكتاب المقدس |
شخصيات الكتاب المقدس |
من شخصيات الكتاب المقدس-نوح |
شخصيات الكتاب المقدس 1 |
شخصيات من الكتاب المقدس |