رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يخيم الليل على الأرض كلها ويلقي بستار أسود على المسكونة من الخوف ، ليتحكم في النور الداخل إلى القلوب، ويفرض قانوناً ثقيلاً من الرعب والموت. وفي ظل عنفوان البشرية المتغطرسة والتي تظن أن سباق التسلح يحميها ويعطيها القوة يأتي فيرس لا يُرى بالعين وخارج حسابات البشر ليتحكم في الشعوب برؤسائها وجيوشها ويفرض طريقة للحياة بلا حياة. وقد مر على البشرية أزمات أوبئة وأمراض كثيرة، على سبيل المثال ما حدث عام 165ق.م حين انتشر وباء في الشرق وانتقل إلى الجيش الروماني. وكانت حالات الوفاة حسب كلام المؤرخ الروماني "كاسيوس ديو" (235-155ق.م) وصل لألفين حالة يومياً ومات فيها خمسة ملايين شخص، وسُمي الطاعون الأنطوني نظراً لأنه في عصر السلالة الأنطونية لأباطرة روما. ثم عام 1347 حتى عام 1352م انتشر ما يسمى بالطاعون الأسود أو الموت الأسود، وتسبب في موت ثلث القارة الأوروبية . ثم انتشر في آسيا وأفريقيا، وظل أربعة عشر عاماً يحصد أرواح البشر. وهاجم مصر ومات منها مائتي ألف وكانت الجثث تتناثر في كل مكان على طول الطريق ما بين القاهرة وبلبيس، وكان يدفن يومياً في القاهرة فقط ثمانمائة مصري، وكانوا يدفنوا دون تغسيل أو صلاة حتى لا ينتقل الوباء. وفي أبريل 1918م وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى انتشرت نوعية من الأنفلونزا القاتلة سميت الإسبانية تتميز بسرعة انتشارها، وأصابت مليار شخص، ومات فيها مائة مليون أي أكثر مما قتل في الحرب العالمية الأولى، واستمرت عامين، واختفى فجأة كما جاء فجأة. وفي رواية الطاعون للكاتب الملحد "ألبير كامى" التي تصف حال مدينة وهران الجزائرية على لسان طبيب ملحد اسمه "ريو" يقول قد صار سكان المدينة يأخذون العبر من حاضرهم، أعداء لماضيهم، محرومون من مستقبلهم. فكان الطاعون ينصب حراساً على الأبواب ليغلق المدينة، والحيوية المألوفة ماتت بالطاعون. وبدأ الناس في إغلاق الأبواب والشبابيك فقد كان الطاعون نفياً وتفريقاً، وانتزع من الجميع القدرة على الحب بعد أن أدرك الجميع أن المستقبل لم يعد باقياً. وقد طرح "كامي" على لسان الطبيب أفكاره الإلحادية حين سأل أحدهم الطبيب لماذا تظهر هذا القدر الكبير من الإخلاص ما دمت لا تؤمن بالإله؟، فأجاب: "لو كنت أؤمن بالإله القدير لكففت عن شفاء الناس تاركاً له هذا الأمر، ولما كان نظام العالم محكوماً بالموت. فربما خيراً لهذا الإله ألا يؤمن به الناس ويكافحون الموت بكل قواهم دون أن يرفعوا أعينهم إلى السماء حيث هو صامت". وهنا ندرك مغزى القصة التي تتكرر في كل زمن. وبعيداً عن النظريات والتحليلات التي قد تكون حقيقية من نظريات المؤامرة في انتشار الميكروب، أو قد لا تكون حقيقية وأنه من فعل الطبيعة. ولكني أرى إن هذا أو تلك بسماح من اللـه الذي يرى تدهور إيماني واضح على كل المستويات. وتكون هذه الحالة بمثابة غربلة ومحك واضح في رؤية كل واحد حقيقة إيمانه. وبنظرة عابرة على حالات انتشار الموت الحادث من الأوبئة نرى أنها تأتي دائماً في أزمنة شعر فيها الإنسان بغروره وسيطرته على الكون، فكان الموت الخفي هو بمثابة غربلة لكل البشرية لكي ترفع عيونها نحو السماء وتدرك أن الأرض ما هي إلا وقت مؤقت. فبينما الإلحاد المباشر الذي يعني رفض وجود الإله أو الغير مباشر الذي ينادي بعدم جدوى وجوده في حياتنا ينتشر ويطالب الإنسان بالبحث عن مصيره وبنفسه بعيداً عن الإله، نجد الموت يضع علامات استفهام حادة لمعنى الحياة ومعنى الإنسانية. فالحالة الإلحادية المنتشرة هذه الأيام تتمثل في غرور الإنسان وشعوره بأنه قادراً أن يحل محل الرب في إدارة شئون الحياة. فهناك مؤسسات وكيانات سياسية تضع خططاً لقيادة العالم تقسم وتسقط دولاً وتنشر أفكاراً وتحاول أن تحول البشرية إلى عبيد لديهم بالسيطرة على أفكارهم وطريقة حياتهم وتهميش دور اللـه والأديان والإيمان. كما قال "فويرباخ" الفيلسوف الألماني (1872م) الذي كتب كتاب "الإله والحرية والخلود"، وكتاب "الجوهر الحقيقي للدين" قد قال: "الإنسان الشقي يبحث عن السعادة المنشودة وإذا لم يجدها في ذاته وعلى الأرض أوهم نفسه أنه وجدها في شخص غريب عن الدنيا اختلقته مخيلته وسماه اللـه". ويقول أيضاً: "أن نقطة التحول في التاريخ ستكون حينما يدرك الإنسان إنه إله نفسه". ويقول أيضاً: "الإنسان الذي يؤمن باللـه لا يؤمن بنفسه، فالإله الحقيقي هو الإنسانية. والدين يجب أن يموت لكي يقوم على أنقاضه عالم على مقاييس الإنسان الذي يلزم أن يكون هو إله نفسه". ويقول "سارتر": إذا انفجرت الحرية في روح الإنسان لم يبق للآلهة أي سلطان على الإنسان"، ويقول أيضاً: "المخلوق لا يمكن أن يؤكد ذاته إلا ضد الخالق، فإذا كان اللـه موجود فالإنسان عدم". ويقول "نيتشه": "سأفتح لكم قلبي يا أصدقائي لو كان هناك إله فكيف أطيق ألا أكون أنا إلهاً". تلك هي الأفكار التي انتشرت في القرن الماضي وسط المفكرين والمثقفين ولكن لم تجد سبيلاً في الأوساط الشعبية المتمسكة بالإيمان في سلوكهم اليومي. ولكن هذا الإيمان الشعبي أحياناً يكون سطحياً ومجرد كلمات أو طقوس دينية تحتاج إلى غربلة حقيقية هي تجربة وأزمة لكل البشر ليرى الرب من يؤمن حقيقية ومن لا يؤمن؟ من يظن أن الموت والحياة في يد بشر وعلماء، ومن يؤمن أن الموت والحياة في يد اللـه فقط؟ فقد تكون هذه المأساة التي نعيشها قاسية ولكنها إيجابية إذ تنكشف الوجوه الزائفة، ويرى كل منا ما يؤمن به حقيقة وليس مجرد كلمات. من يرى أنه مخلوق لإله هو الذي يعتني، ومن لا يثق إلا في المادة والأرض وأحكام البشر. من كانت صلاته مجرد كلمات، ومن يصلي وهو له إيمان بأن الرب يسمع وينظر ويحكم لأنه ضابط الحياة وربها وإننا خليقة صنعته ونحتاج إليه. القمص أنجيلوس جرجس |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|