رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
هنا نرى كارثة مزدوجة، الأولى هي حالة الفلس المُريع المؤدي للفقر إذ لم يعد لديه مال يُعينه أو يكفيه ليسنده في حالة الجوع الشديد الذي أدى للعوز والحاجة التي وضعته تحت المَذَلّة، والثانية الالتصاق بواحد (ومن الظاهر انه غني) من أهل تلك الكورة في حالة اتكال عليه[1]، والالتصاق يُعبِّر دائماً عن رغبة الصداقة بسبب الثقة في الشخص نفسه، كما أننا أحياناً كثيرة نلتصق بمن لا يستحق أن يكون صديق لأنه مكتوب: يتكلمون بالكذب كل واحد مع صاحبه بشفاه ملقة بقلب فقلب يتكلمون، لأنهم لم يؤمنوا بالله ولم يتكلوا على خلاصه (مزمور 12: 2؛ 78: 22)[2]، ومن هنا تظهر الخطورة، لذلك تم تطويب الرجل الذي لا يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف في المزمور الأول؛ ولو دققنا في هذا المثل سنلاحظ أنه لم يُذكر بأنه ذهب ليعمل عند واحد من الناس ليستطيع أن يأكل، بل التصق التصاقاً بواحد من الناس لكي يتكل ويستند عليه، هذا الذي لم يُشفق أو يتحنن، بل بكل جفاء أرسله ليرعى الخنازير ووضعه في حالة من الخزي العظيم: بتضرعات يتكلم الفقير والغني يجاوب بخشونة (أمثال 18: 23)
كصديق أو حتى ليحيا كمجرد عامل عنده بالأُجرة، لأنه اشتهى طعام الخنازير الذي لم يستطع أن يحصل عليه، فالجوع جعله يهبط لهذا المستوى المُريع ولم يجد لهُ مُعين أو سند، فالكل تخلى عنه تماماً وتركه وحيداً ليواجه مصيره.
هَبط من مستوى طلب طعام الإنسان الطبيعي لتصير شهوة جوعه تجاه طعام الحيوان نفسه، وليس أي حيوان، لأنه ينبغي أن نفهم لماذا قال الرب الخنازير، لأن اليهودي حينما يسمع كلمة خنزير يشمئز، لأن الخنزير عنده من الحيوانات النجسة جداً[4]، ولا يقبل يهودي أن يقع على ملابسه ظل خنزير، والعمال الذين يعملون في هذه الحظائر يعتبروا مُحتقرون من الناس جداً لأنهم يعملون في الدنس والنجاسة (فاليهودي الأصيل لا يعمل في تلك الأماكن)، فكم يكون حال الذين يشتهون طعام الخنازير، وهذا يوضح حالة الهوان الشديد والهبوط المريع الذي وصل له حال هذا الابن ذو المكانة الرفيعة للغاية، الشريف الأصل، لأنه كان في بيت أبيه مُكرَّم، عنده من يخدمه ويعتني به عناية فائقة، لكنه الآن أصبح بلا كرامة. + قَدْ أَخْطَأَتْ أُورُشَلِيمُ خَطِيَّةً مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَتْ رَجِسَةً. كُلُّ مُكَرِّمِيهَا يَحْتَقِرُونَهَا لأَنَّهُمْ رَأُوا عَوْرَتَهَا وَهِيَ أَيْضاً تَتَنَهَّدُ وَتَرْجِعُ إِلَى الْوَرَاءِ. (مراثي 1: 8)
الحاضر الشرير ويترك بيت أبيه السماوي ويذهب يركض وراءه، فأنه يجذبه بشدة حتى يتمكن منه تماماً، ويملك على قلبه، ومن ثمَّ يسحقه سحقاً حتى يجعله يشتهي ما هو دنيء ولا يجده، فيقع تحت سلطانه كسيد يستعبده بالموت، لذلك أتى شخص ربنا يسوع: (لـ) يُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ (عبرانيين 2: 15)، فالخوف من الموت يجعل الإنسان يُذل تحت نير العبودية المُرة، لأنه واقع تحت حركات شهوات الجسد التي تُحارب النفس[5]؛ فالرب قصد يتكلم عن الجوع، لأنه سبب جوهري لضياع النفس، لأن الجوع هو الذي يجعل الإنسان يُذل، لذلك مكتوب: النفس الشبعانة تدوس العسل وللنفس الجائعة كل مُرّ حلو (أمثال 27: 7)، لأن من الجوع يُزل الإنسان، حتى أنه ممكن أن يأكل أي شيء ولو كان من المزبلة، ومن هنا يأتي الصوم لتربية وتهذيب الجسد لكي نخضعه للروح: أُقمع جسدي واستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً؛ أعرف أن اتضع، وأعرف أيضاً أن أستفضل في كل شيء، وفي جميع الأشياء قد تدربت أن أشبع وأن أجوع وأن أستفضل وأن أنقص[6]. (1كورنثوس 9: 27؛ فيلبي 4: 12)
فأنه يُذل ذُلاً، لأن كل ما يلتصق به الإنسان يصير معه واحداً، يتبعه ويسير وراءه منقاداً تحت تصرفه، لأنه سلَّم نفسه إليه بالتمام، فأصبحت إرادته مُقيده، مثل من ربط حبلاً برقبة البقرة أو الثور ليسحبه لأي مكان يُريد كما شاء، وهو يستنزف قوته في استغلاله في الأعمال الشاقة والحقيرة التي لا يقوى عليها أو يقبل بها أي إنسان، وفي النهاية يذبحه ويأكله أو يبيعه ويتربح منه، لأن متى سُلبت الإرادة بسبب الحاجة والعوز، فأنها لا تُسترد طالما الحاجة هي المسيطر الأول على النفس ومُحركها، لأن بسب احتياجنا تُسلب منا إرادتنا ولا تُسترد، إلا في حالة انتهاء الحاجة وانتفاء الشهوة، والشهوة لا تنتفي إلا بموت الجسد، لذلك مكتوب: الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ (غلاطية 5: 24)، ومن هنا لا يوجد سبب لسلب الإرادة وفقدان الحكمة، لأن الإنسان ميت عن الخطايا والذنوب، فلا يوجد حاجة عنده (من جهة الأهواء في داخل قلبه) لتداعبه الخطية وتجذبه منها، لأن الإنسان ينخدع إذا انجذب من شهوته، لأنها الحَبل الذي يُقيده ويسحبه نحو استهلاك طاقاته واستنزاف قدراته الروحية، حتى يفقد التعقل والاتزان فينسى نفسه تماماً، ويسير في الظلمة أعمى مُنساقاً إلى هاوية الموت بكل جهل وطياشة لأن الشهوة تجعل الحكيم جاهل. + هذا طريقهم اعتمادهم (أو هذا هو مصير الجُهال الواثقين في أنفسهم) وخلفاؤهم يرتضون بأقوالهم (يستحسنون أقوالهم ويتبعون طرقهم)، مثل الغنم للهاوية يساقون، الموت يرعاهم (أو راعيهم) ويسودهم المستقيمون غداة (يسود المستقيمون عليهم)، صورتهم تبلى، الهاوية (تصير) مسكن لهم. (مزمور 49: 13، 14)
بل هي أيضاً قصة الإنسان المسيحي المختبر حياة التبني، حينما يعوَّج قلبه ويسير وفق حاجاته مرتداً عن حياة التقوى ليعود لحماقته الأولى مُشتهياً حياة العالم ومسراته ليحيا مثل باقي الناس، وبكون طبيعته ليست من هذا العالم لذلك يُسلب منه كل شيء سريعاً، التقوى والأخلاق الرفيعة تنهار، ويتعرى من النعمة وكساء مجده في المسيح الرب، لأن العالم مثل الإسفنجة التي تمتص الماء بسرعة مذهلة، هكذا كل من يندمج ويضع قلبه في الشهوات والمسرات والأشياء التي في العالم ويحبها ويحاول أن يكتنزها ويُعطيها شرعية أنها من الله، فأنها سرعان ما تأكله أكلاً وتبتلعه بلعاً، فتمتص منه كل فضيلة، وتسلبه التقوى وكل العطايا الإلهية وطاقاته الروحية، وحتى المحبة الإلهية تُسلب منه والإيمان نفسه يبدأ في الانهيار، ثم يبدأ في الانعزال التام عن الكنيسة وينفصل عن الرأس، ومن ثمَّ يظهر الارتداد عن الله الحي في عدم إيمان.
يبدأ الإنسان في حالة من الفتور وهو في داخل الكنيسة أو سط إخوته المؤمنين بالمسيح الرب، فهو ليس بارداً ولا حاراً، لكنه يصير في حالة من الميوعة الغير مقبولة لا لنفسه ولا عند الله ولا حتى عند الناس، لأنه سيكون مثل هذا الابن الذي يعيش في بيت أبيه قبل أن يخرج منه، فهو يُطالب بميراثه، ثم يشعر أن ليس له حاجة لأبيه، ولا معنى أن يمكث في نفس ذات البيت إلى الأبد، فلا بُدَّ من أن يخرج، وذلك بكونه صار غنياً وقد استغنى لأنه حصل على العطايا، فانعزل وطلب شهوته، وكل مشورة صالحة رفضها رفضاً لأنه لا يستطيع أن يسمع لآخر سوى نفسه وطالباتها المُلحة، لأن من طلبات النفس وشهوتها يُمسك لجام الإنسان فينساق وراء مشورة نفسه، لذلك مكتوب:
[1] من يتكل على غناه يسقط اما الصديقون فيزهون كالورق (أمثال 11: 28) [2] طوبى للرجل الذي جعل الرب متكله ولم يلتفت إلى الغطاريس والمنحرفين إلى الكذب (مزمور 40: 4) [3] صَارَ مُضَايِقُوهَا رَأْساً. نَجَحَ أَعْدَاؤُهَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَذَلَّهَا لأَجْلِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا. ذَهَبَ أَوْلاَدُهَا إِلَى السَّبْيِ قُدَّامَ الْعَدُوِّ (مراثي 1: 5) [4] والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم فمن لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا (تثنية 14: 8) [5] أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تُحارب النفس (1بطرس 2: 11) [6] أَعْرِفُ كَيْفَ أَعِيشُ فِي الْعَوَزِ، وَكَيْفَ أَعِيشُ فِي الْوَفْرَةِ فَإِنِّي، فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، مُتَدَرِّبٌ عَلَى الشَّبَعِ وَعَلَى الْجُوعِ، وَعَلَى الْعَيْشِ فِي الْوَفْرَةِ أَوْ فِي الْعَوَزِ (فيلبي 4: 12) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|