رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الكتاب المقدس ليس بمجرد قراءته أو دراسته حسب القدرات والإمكانيات الإنسانية الطبيعية، تُعطي القدرة لأي شخص أن يشرح ويفسر كيفما شاء وحسب ما يتأمل أو يدرس من أصول لغوية وقواميس وفهارس ومعاجم متنوعة مختلفة، مهما ما كان له من قدرات عقلية جبارة وفزة، لأن التفسير والشرح هنا ليس للناس ولا لأفكارهم، بل لأقوال الله ونطقه الخاص [أن كان يتكلم أحد فكأقوال الله (فَمَنْ يَتَكَلَّمُ، عليه أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يُوَافِقُ أقوال الله) وأن كان يخدم أحد فكأنه من قوة يمنحها الله (وَمَنْ يَخْدِمُ، عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ بِمُوجِبِ الْقُوَّةِ الَّتِي يَمْنَحُهَا اللهُ) لكي يتمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح – 1بطرس 4: 11)]
لكي نتعرَّف على تاريخ الناس ونعرف أفكارهم اللاهوتية ولا حتى حضاراتهم الإنسانية، ولا نتعرف على آرائهم وخبراتهم الشخصية، بل فيه نتعرف على إعلان الله عن ذاته، ونعرف إرادته وقصده وتدبيره الخلاصي، لأن الله يُعلن بره فيه مظهراً مشيئته وإرادته وقصد تدبيره الأزلي.
إنما يُظهر ويُعلن عن شخص، وليس عن مجرد كلمات منطوقة مثلما ننطق الكلام العادي الخراج من الشفتين، لأن الكتاب المقدس يُعلن الله شخص حي، لذلك فهو الوحيد الذي يُحرك من يكتب حسب مشيئة الله ليُعلن ويُظهر تدبيره الخاص في الابن الوحيد شخص المسيح يسوع محور الكتاب المقدس كله.
فأنهم لا يستندون على معرفة مشيئة كل واحد للآخر بالاستنتاج والتخمين والتأمل وسمو الأفكار وسردها، بل بالتعامل الشخصي المباشر، هكذا بالمثل أيضاً فالله وحده المسئول أن يوصل فكره وإرادته بنفسه وبشخصه، لكي يعرفها للإنسان ليعيش ويحيا بها، أي دعوة الله للإنسان نجدها في الكتاب المقدس واضحة بغرض الدخول في شركه معهُ بالتقديس والاتحاد:
لذلك فأن موهبة الشرح والتفسير تُعطى (بإلهام الروح القدس، روح الإعلان والقوة)، للإنسان المدعو من الله، بعد نضوجه وبلوغه لمستوى الروح وإدراك ما لا يُدرك بالتفكير الدماغي الفلسفي، وهذه الهبة لا تُأخذ عنوة أو بقدرة شخصية أو عن استحقاق أو بسبب كثرة الاضطلاع والمعرفة والدراسة المتخصصة، بل هي هبه وعطية مجانية من الله حينما يدخل الإنسان في شركة الابن الوحيد، إذ هي موهبة من مواهب الروح الواحد لأجل البنيان على مستوى التعليم في الكنيسة، وعلى المستوى الشخصي بالنسبة للنمو.
وتجميع أقوال آباء وكلام عُلماء، ولا مجرد تأملات وأفكار حسب مفهومنا وفلسفتنا وإدراكنا العقلي، لئلا يُصبح تأويل للكلام، وهذا بالطبع سيكون على خلاف القصد الأساسي منه، وسوف يتم – في تلك الحالة – إظهار المعنى حسب رأينا الشخصي وقوة ملاحظتنا الخاصة، فيصير مُجرد إظهار ما هو ظاهر أمامنا من كلمات ندرسها ونفهمها بمفهومنا الإنساني المقنع، والذي يختلف من عقلية شخص لآخر، ويختلف مع اختلاف الإحساس والعُمر والخبرة والحالة النفسية والمزاجية ونوع الدراسة التي تتغير من حين لآخر، وفي هذه الحالة سنخرج حتماً عن النص بإظهار ما لنا من إمكانيات ومفاهيم شخصية حسب خبراتنا ومعلوماتنا التي نحصلها من قراءتنا وقناعتنا الشخصية وفلسفاتنا ومنطقنا الخاص، هذه التي نؤمن بها ونصدقها ونحاول أن نُقنع الآخرين بها على أساس أنها الحق، لأن الإنسان عادةً يرى نفسه على صواب وخاصة لو كان مقتنع قناعة تامة بما تعلمه وفهمه وقرأه في حياته على المستوى الشخصي لا على مستوى انفتاح الذهن بالروح، وبالتالي سنخرج حتماً عن أمانة النص بالنسبة لصاحب النص، وبالطبع سنخرج بصورة عن ذاتنا وشخصيتنا، وبالتالي سننقلها للآخرين.
ومعرفة بحسب ما توصلنا إليه من أبحاث وقناعة شخصية، حتى ولو كانت صحيحة لا تُخالف الكتاب المقدس وشروحات الآباء والتسليم الرسولي، لأننا – في واقع معرفة الكتاب المقدس – لا ننقل علم ومعرفة ولا حتى خبرة شخصية على مستوى الفرد لنُشبع بها عقلية الناس وميولهم المزاجية، أو لكي نقنع الآخرين بأصولية الكتاب المقدس وتفوقه من جهة أنه إلهي يُعبر عن مشيئة الله بإعلان، بكل طريقة علمية وفكرية وبحثية، مع أن هذا ليس خطأ في ذاته، لكن الخطأ فقط في عدم وجود موهبة الروح والحياة بالكلمة في سرّ الشركة حتى ينطق الإنسان بشهادة الله ببرهان الروح والقوة، وليس بكلام الحكمة الإنسانية المقنع ولا ببرهان الفكر والوثائق التاريخية، لذلك يقول بولس الرسول: وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المُقنع بل ببرهان الروح والقوة. (1كورنثوس 2: 4)
من معرفة نصوصه الأصلية، فمعنى النص لا بُدَّ من أن يرتبط بالنص الأصلي نفسه، ولا يخرج عنه لا بالمعنى اللفظي في حرفه بل في روحه، مع العلم بأن الارتباط بالنص هنا هو ارتباط أمانة بإخلاص من يعرف الرب برؤيا وإعلان، وبالتالي هو صادق في التعبير عن مقاصد الله كما يحتويه النص الأصلي، وليس حسب رأيه أو قناعته الشخصية.
ينبغي علينا أن نعرف أن ما قبل النص المكتوب، هناك صاحب النص نفسه، أي المصدر، ولكي يكون الشرح صحيحاً ينبغي التعرُّف الشخصي الخاص على صاحب النص، لنحصل على قوة النعمة التي تفيض منه في القلب وعلى الذهن لنستنير ونفهم الكتب في نور القصد الإلهي المستتر بالسرّ فيها بكل تدقيق مُتبعين الروح الواحد عينه التي كُتبت به: لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أُناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس (2بطرس 1: 21)
بالتشرب من ينبوع الماء الحي والجلوس تحت أقدام صاحب النص نفسه، والإصغاء – بآذان مختونة ومفتوحة وذهن مستنير – لكاتب النص بنفس ذات الروح الذي كتب به، وإقامة علاقة شركة تبدأ بالتوبة والانعزال عن الشرّ والانفصال القلبي عن الأشرار، والجلوس الطويل في جو الصلاة وقراءة الكلمة بكل صبر ومثابرة وتأني شديد، بدون العجلة في الاستنتاج أو حتى الدراسة من الكتب المفسرة والشارحة حتى لو كانت دقية للغاية ومشهوداً لها من كثيرين.
ليس مثل أي كلام فلسفي أو علمي أو كلام راقي وعالي القيمة الإنسانية، بل هو عميق للغاية (عمق الله نفسه) وذات سلطان إلهي فائق يحمل قوته، ولا يُمكن بل ومن المستحيل أن نرتفع لمستوى الكلمة وندخل في الوعي الكامل وندرك قوتها، إلا إذا دخلنا في سرّ الكلمة بنعمة الله وقوة الروح القدس، لأن بدون هذا سنصير غاشين كلمة الله.
فأننا نرى بأعين أجسادنا في الكتاب المقدس كلام منظور مكتوب بحروف ولغة إنسانية طبيعية، نفهم شكلها الخارجي ومعنى نصوصها كألفاظ وكلمات وتعبيرات، ومع ذلك ينبغي أن نَعبُر من الظاهر الحرفي إلى السرّ المستتر في الكلمات، نعبر من المنظور الحرفي إلى الغير منظور الذي يفوق الحرف، لأن الحرف يقتل ولكن الروح يُحيي (2كورنثوس 6: 3)، فما وراء النص هو الله، والله شخص حي وحضوره مُحيي وشافي للنفس وفاتح ومُنير لذهنها، ونحن نجلس أمام كلمته بهدوء ونسأله ماذا يُريد أن يقول لنا عبر الدهور ومن خلال تعامله مع الأجيال السابقة، وننتظر بهدوء وصبر أن يفتح ذهننا لنفهم المكتوب، نفهمه فهم عالي فائق في قوة الحكمة الإلهي لندخل في حالة إدراك حقيقي بكامل وعينا.
بإخلاص وإلحاح لندرك الهدف الحقيقي من كتابة الأنبياء والقديسين الرسل لهذه الكتابات الملهمة بالروح القدس: حينئذٍ فتح ذهنهم ليفهموا الكُتب (لوقا 24: 45)، وعند هذه اللحظة وفي هذا الوقت فقط نكون قادرين بالنعمة أن نستوعب أسرار الله ونفسر ونشرح بأمانة الحق ما هو مكتوب بدقة وتدقيق شديد، غير مختلفين مع الآباء الذين مروا بمثل هذه الخبرة الرائعة جداً، بل لا نبدأ من حيث بدأوا، بل نأخذ من خبرتهم ونتوسع بالروح معهم، لأن معرفة كلمة الله كالبناء الذي يرتفع ويمتد، فلا يعود أحد يضع أساس جديد، بل يبدأ من حيث انتهى من سبقه.
العملي حينما نرتفع ونتلامس مع الله كروح وحياة، يتقدس العقل جداً وينفتح الذهن بوعي سماوي عميق واسع للغاية، يُصبح الإنسان فيه حُرّ حُرية مجد أولاد الله، مرتفعاً فوق كل ضعف بشري بروح الله القدوس، فيتعرف على الأسرار الإلهية فاهماً مشيئة الله برؤية إيمان حي، فيصير الإنجيل في القلب والفكر والوجدان مسيطر على كل ملكات الإنسان، فيعيد تشكيل شخصيته حسب صورة المسيح الرب، فيخرج منه كسيمفونية لله ذات حركتين:
|
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|