رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أعيادنا تخبر عن هويتنا يحتفل المسيحيون في هذا الأسبوع بعيد يسمى عيد الغطاس وهو تذكاراً لنزول السيد المسيح في نهر الأردن ليعتمد فيه تقديساً للمياه، وهذا هو ما نسميه في الكنيسة المعمودية التي فيها نسير على نفس النهج. وفي تاريخ مصر تختلط الحضارة المصرية القديمة بحياتنا الاجتماعية لتشكل وجدان الهوية المصرية دون تفرقة سواء دين أو حالة اجتماعية. فالأعياد المصرية القديمة كانت ولا تزال تشكل جذور في هويتنا ومصدر فرح ووحدة خاصة بين أبناء الوطن. وقد كان المصريون القدماء يعيشون حالة فرح دائم بفكرة الأعياد ويقول المؤرخ اليوناني "بلوترك": "أن أعياد المصريين كانت كثيرة لدرجة أنه لم يفرق بين العيد والأخر سوى أيام معدودة. فما كان ينتهي في مدينة حتى يبدأ في مدينة أخرى". وقد كانت الأعياد تأخذ أشكال مختلفة منها أعياد الانتصارات، أو عيد فيضان النيل، أو أعياد الحصاد التي كانت كثيرة، بجانب الاحتفالات التي كانت لها صبغة روحية. وكان المصريون القدماء يحتفلون بالأعياد بنفس الطريقة التي لا نزال نحتفل بها الآن فكانوا يلبسون ثياباً جديدة ويوزعون المال على الأطفال (العيدية) ويخرجون للتنزه ويأكلون ويمرحون بالغناء والرقص. وكانت مصر كلها تعمها البهجة والفرح في تلك الأيام. وكان النيل يمثل قيمة خاصة عند المصريين لأنه يعتبر شريان الحياة فقدسوا النيل وصاغوا حوله أساطير دينية لترسيخ فكرة روحانية مرتبطة بمياه النيل. وكانوا يصنعون عيداً كبيراً يسمى عيد وفاء النيل يخرج الكهنة يحملون تمثالاً من الخشب لإله النيل حابي، وكانت الجموع تخرج إلى النيل وهم يرددون الأناشيد والترانيم الروحية في مراكب على النيل لمشاركة الكهنة وفرعون مصر. كما كانوا يعيدون للنيل بليلة تسمى "ليلة الدموع" وهي ليلة فيضان النيل حيث تصوروا أنه في تلك الليلة جلست إيزيس وهي حزينة على زوجها أوزوريس فسقطت قطرة من دموعها في النيل فامتزجت بمائه وحدث الفيضان. وكانوا اعتادوا في الاحتفال بالنيل أن يلقوا دمية تمثل عروس النيل وكانوا يغطسوا في النيل وهم يرددون الأغاني ويظلوا في حالة الفرح طيلة الليل. وحينما دخلت المسيحية مصر وأخذ المحتوى الروحي للمصريين عمقاً جديداً بالمسيحية وأصبحت الطقوس المسيحية هي طريقة العبادة للمصريين في تلك الأزمنة، ولكن المصريون كانوا قد اعتادوا آلاف السنين أن تمتزج أعيادهم الاجتماعية بأفكار روحية. وكانت من استنارة الكنيسة القبطية أنها لم تلغي تلك الصور الاجتماعية ولم تنظر للحضارة المصرية القديمة بنظرة العداء بل وجدت في أنها تمثل حالة إشراق وارتقاء روحي تهيئ النفوس لاستقبال إشراق أعلى، فامتزجت الأعياد المصرية القديمة بصورة روحية جديدة. وكان عيد الغطاس هو نتاج هذا الامتزاج فلم تلغي الكنيسة الاحتفال بالنيل بل كانت في ليلة الغطاس يخرج البابا والأساقفة والكهنة والشعب وهم حاملون الشموع والفوانيس في تلك الليلة والتي منها في أيام الفاطميون انتقلت فكرة الفوانيس للاحتفال في ليالي رمضان. ثم بعد تلاوة الصلوات على النيل يغطس الأقباط في النيل ثم يخرجون وهم فرحون ويظل هذا الاحتفال بالأغاني والأناشيد طيلة الليل. وارتبط عيد الغطاس بمظاهر أخرى للفرح وهي القصب والقلقاس. وبالرغم من أن هذا الوقت كان موافق للاحتفال بهذه المحاصيل إلا أنها دخلت في نسيج العيد اجتماعياً وأصبحت من طقوس عيد الغطاس. ويقول الرحالة علي بن الحسن في كتاب "مروج الذهب" - وهو من بغداد عام (957) - حين جاء إلى مصر رأى في ليلة عيد الغطاس "يخرج الناس إلى النيل وقد وجد أكثر من ألف مشعل وشموع وفوانيس وآلاف المسيحيين والمسلمين يخرجون من بيوتهم في تلك الليلة ويأتون بالمشرب والملبس ويعزفون الموسيقى ويغنون وهي أحسن ليلة في مصر لا تغلق فيها الأبواب ولا الدروب ويغطسون في النيل". ويقول المقريزي أن بعض الخلفاء كانوا يضيقون على المسيحيين للاحتفال بهذا العيد، ولكن الشعب كان يذهب للاحتفال مسيحيين ومسلمين رغم هذا. عزيزي القارئ هذه هي مصر التاريخ والاستنارة فالحضارة دائماً ترتقي بمشاعر الشعوب، وكلما وارتقى الإنسان حضارياً كلما استطاع أن يتصالح مع نفسه ومع الآخرين. بتسامي وتثقيف العقل وارتفاع الروح تختلف نظرة الإنسان المتحضر عن الإنسان الهمجي، فيستطيع المتحضر أن يتذوق الموسيقى والفن بكل أشكاله، ويستطيع أن ينشر الحب والسعادة، ويستطيع أن يقدم أسباب الحياة لمن حوله. وهذا ما نراه في تراثنا القديم الحضاري من أعياد تمتزج فيها الفنون بالروحانية، ويمتزج بها الفرح بالحياة الاجتماعية. بينما الهمجي والغير متحضر هو الذي لا يشعر بوجوده إلا بالدم والكراهية فالإنسانية تتجلى في صور الحضارة، والوحشية تتجلى في صور الهمجية. وكانت مصر دائما لا تعرف التفريق في الأعياد بين مسلمون ومسيحيون فكانت في عيد الغطاس تعم الفرحة كل مصر وتمتلئ بيوت المصريون بالقصب والقلقاس، كما في شم النسيم الذي كان له خلفية مصرية قديمة بطقوسه المعروفة الآن من أكل الفسيخ والملانة والخس والتنزه في الحدائق ولكنه أيضاً أخذ طابعاً روحانياً بوضعه بعد عيد القيامة، ولكن يظل الاحتفال اجتماعياً لا يخص المسيحيون فقط بل هو عيد لمصر كلها. وهذا ما يحدث أيضاً في الأعياد الإسلامية فحين يأتي المولد النبوي وتزدان مصر كلها بعرائس المولد يذهب المسيحيون مع المسلمون لشراء الحلوى. وكما في شهر رمضان يحدث أيضاً الفرح اجتماعياً ويشارك المسيحيون حالة الفرح طيلة هذا الشهر. فالأعياد والمناسبات هي رمز الحضارة الإنسانية وعلامة هامة لعراقة تاريخنا فجميع اعتيادنا ومناسبتنا هي ثمرة لأشجار نبتت في أرضنا المقدسة. فكما أن العائلة الواحدة تأكل في طبق واحد هكذا كل المصريون يحتفلون بأعياد واحدة. فهويتنا المصرية هوية جامعة للحضارة والأديان، نقدم نموذجاً فريدا في عالم تمزقه الخلافات العرقية والدينية. عاشت مصر عالية بحضارتها وروحها. القمص أنجيلوس جرجس كاهن كنيسة المغارة -الشهيرة بأبي سرجة الأثرية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
ننتظرك لتُنير أعيادنا وأيامنا بمجد بهائك |
القيامة هي عيد أعيادنا |
هويتنا المصرية |
السعادة هي جزء من هويتنا |
لا تجبر نفسك على أحد ، ولا تجبر أحدآ عليك |