حكمة السمك
القدِّيس باسيليوس الكبير
"اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيمًا" (أم 6: 6).
توجد أسماك رُحَّل، كأنها تهاجر بقرارٍ جماعي، بإشارة خاصة إلى مناطق غريبة. فإذا جاء موعد تكاثرها، رحلت، هذه من خليج، وتلك من آخر، تدفعها سُنَّة طبيعية عامة، مسرعة إلى البحر الأسود. فتُرى هذه الأسماك إبّان رحيلها، كالسيل يتدفق في البوسفور نحو البحر الأسود.
من حرَّكها؟ وأين الملك الذي يرأسها؟ والأوامر التي عُلقت في الساحات العامة، وعيَّنت موعد السفر؟ وأين القادة؟ إنك لترى العناية الإلهية تتمم كل شيء، وتعتني بأدنى المخلوقات. فالسمك لا يقاوم سُنة الله، أما نحن البشر فإننا نخالف تعاليمه.
فلا تحتقر الأسماك لأنها خرساء وغير ناطقة، وخفْ أن تكون أقلّ تعقلاً منها حينما تخالف أوامر خالقك.
استمع إلى الأسماك! لا ينقصها غير النطق، وسلوكها يقول لك: إن حفظ الجنس يحملنا على مباشرة هذا السفر الطويل.
ليس عندها إدراك، بل شريعة طبيعية راسخة كل الرسوخ في غريزتها تدفعها إلى ما يجب أن تعمل. فتقول: هلم بنا إلى البحر الأسود... إن ماءه أعذب من ماء سواه، والشمس فوقه أقل حرارة فلا تمص ماءه الحلو كله، لهذا يصعد السمك في الأنهار ويبعد عن البحار، ويفضل البحر الأسود ليستقبل ويربي فيه صغاره، ومتى قضى هناك مأربه، عاد جميعًا أدراجه، لماذا؟ كأنه بمسلكه يقول لنا: "البحر الأسود قليل الأعماق، عرضة للعواصف العنيفة، قليل الملاجئ، وكثيرًا ما تقلبه الرياح الهوجاء رأسًا على عقب، وتعكره أكوام من الرمال. وهو فوق ذلك بارد شتاءً، لما يصب فيه من الأنهار العظيمة". فيهجره السمك، بعد ما أفاد منه صيفًا، ويعجل العودة إلى دفء المياه العميقة، والمناطق التي بها دفء الشمس، فيستريح في بحر هادئ بعيدًا عن ريح الشمال العاتية.
لقد رأيت هذا المشهد وأعجبت بحكمة الله الشاملة.
فإذا كانت البهائم فاقدة النطق تخضع لغرائز كامنة، وتعرف كيف تتدارك أمور معاشها. وإذا كان السمك يعرف ما يجب أن يختار، وما يجب أن يجتنب، فماذا نقول نحن، وقد تشرفنا بطبيعة عاقلة، وتثقفنا بالشريعة، ودُعينا بالمواعيد الإلهية وتشربنا الحكمة بالروح القدس، فهل ندبر شؤوننا تدبيرًا دون الأسماك تعقلاً؟
أتعلم هي أن تتدارك بعض الأمور قبل وقوعها، ونحن، بخلافها، نكاد لا نكترث، ونفني عمرنا في الملذات البهيمية.
تقطع السمكة البحار كلها بحثًا عن بعض منافعها، وأنت ماذا تقول، إذا كنت تعيش في التواني والكسل؟ فلا يحتج أحد بالجهل فإن فينا ذهنًا طبيعيًا يبين لنا لياقة الخير وينفِّرنا من الأفعال المضرَّة.
V v v
هب لي أن أتعلم من كل خليقتك.
أتعلم من السمك أنه لا راحة لي إلاَّ في حضنك.
مع السمك المهاجر،
أهجر بحر العالم، لأتمتع بنهر أورشليم العليا!
لأتعلم من النملة،
فلا يكون موضع للكسل في حياتي!
لأتعلم حتى من الوحوش المفترسة،
أن أتعاون مع اخوتي،
ولا أحسد اخوتي أو أغير منهم!