بين الدولة و«تنظيم الدولة» كيف أصبحت سيناء ساحة امتداد لـ« داعش »؟
إذا استنتج شيء من سياسة النظام المصري الجديد في الآونة الأخيرة فستكون أول الاستنتاجات هي أن النظام يضع على قائمة أجندته محاربة التطرف الديني -بمعناه السياسي لا المجتمعي- بدء من مظاهر الإسلام السياسي وحتى التنظيمات الجهادية. وبتدقيق النظر في السياسة الخارجية للنظام الجديد سنجد أن سياسته هذه تتمحور حول السابق، وبشكل أكثر فاعليه في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف إعلامياً بتنظيم “داعش”، فبداية من التحالفات الاقليمية التي بنيت في أعقاب الثلاثين من يونيو على تقليص ومجابهة نفوذ جماعة “الإخوان”، إلى الترتيبات الأمنية والسياسية سواء مع الولايات المتحدة أو الدول الخليجية الحليفة وإسرائيل لمواجهة “داعش”.
على الجهة المقابلة نرى أن أولويات التنظيم الإرهابي لم تكن تضم العمل على الساحة المصرية بشكل عاجل، فبطبيعة الحال شكلت الساحتين العراقية والسورية أولوية قصوى ، وتأتي مصر في المرتبة السادسة بعد السعودية والأردن ولبنان من حيث تراتبية “ساحات الجهاد” كما طرحها “أبو محمد العدناني” المتحدث بأسم التنظيم في تسجيل صوتي له قبل حوالي خمسة أشهر عشية إعلان “الخلافة”، وهو التسجيل نفسه الذي أطال “العدناني” فيه التحدث عن مصر وعن العمل الجهادي فيها وتطرق إلى نقد مسلك “الإخوان” إلى الحد الذي كَفر فيه المعزول “محمد مرسي”، ومشدداً على أن العمل الجهادي في مصر مساره طويل وشاق وعلى “إخواننا التبرؤ من السلمية”، وكأنه بذلك يقصد أن على جهاديين مصر حسم أمرهم المتردد بين الانضواء تحت جناح “الإخوان” منذ 2012 بمباركة وتوجيه زعيم “القاعدة” “أيمن الظواهري”، أو الانطلاق للعمل الجهادي فوراً على طريقة ومنهج “داعش”، وهو ما ثبت بعد اعترافات المتهم بتنفيذ مذبحة رفح الثانية، “عادل حبارة”، أن جريمته كانت “هدية للبغدادي” وما تلاها من أعمال إرهابية وحتى الإعلان رسمياً من قبل جماعة “أنصار بيت المقدس” مبايعتها للـ”البغدادي”خليفة لهم.
بالنظر إلى كل من موقف الدولة والتنظيم، نجد أنه هناك تغيرات فرضتها تطورات الظروف، داخليا، وإقليميا، ودوليا. فبداية من توفر البيئة الحاضنة للعمل الجهادي في مصر، وخاصة في فراغ سيناء الذي لم تحاول الدولة المصرية ملئه إلا أمنياً فقط، فمثلت سيناء أهم ثالث ساحة لتمدد “داعش” خارج سورية والعراق، سواء لجهوزية البيئة الجهادية بتواجد جماعات متطرفة عديدة -أبرزها أنصار بيت المقدس- على استعداد لتبني خط “داعش” الجهادي، والذي يختلف عن خط “القاعدة” مثلاً في مسألة وجوب البيعة للخلفية، وطريقة التعامل الأمني الذي حفز هذه البيئة على تفريخ جهاديين من أبناء سيناء، وكذلك ضعف التواجد العسكري المصري المقيد باتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية، وأخيرا أن سيناء تمثل مخرج سهل من أزمة داعش الصعبة حالياً التي تتمثل في توالي هزائمه العسكرية التي لحقت به في العراق وسوريا، وعدم وفاء البغدادي بتعهده بدخول بغداد وفشل فرصة التمدد إلى لبنان، بالإضافة إلى الصمود الأسطوري لكوباني/عين العرب، والتي وحدت الكورد على اختلاف مشاربهم السياسية واتفقوا على مواجهة التنظيم الإرهابي وعدم تحييده كما سبق عشية اجتياح الموصل، حيث تجنبت قوات “البيشمركة” التابعة لحكومة إقليم كردستان العراق الاشتباك مع عناصر التنظيم في هذا الوقت.
ومع استغلال سقوط” الإخوان المسلمين” في اثبات وجهة نظرهم الخاصة بالوصول للحكم والاحتفاظ به عن طريق الانتخابات والديمقراطية أمام ثبوت رؤية الجهاديين وعلى رأسهم “داعش” أن الطريق الوحيد للحكم/الخلافة هو العنف والسلاح. وتجدر الإشارة هنا إلى أن من أساسيات انتقاد “داعش” لتنظيم”القاعدة” أن الأخير دعم خيارات “الإخوان” في الوصول إلى السلطة عن طريق الديمقراطية وما تبعه من تأييد ضمني لدستور الجماعة، فتبقى أمام الإسلاميين عموما والجهاديين منهم خصوصاً أن النموذج الذي أنجز على أرض الواقع حلم “الخلافة الإسلامية” وتطبيق الشريعة هو نموذج “داعش”، وبالإضافة إلى ذلك يبقى العامل الأهم داخلياً وهو فشل الحلول الأمنية في لملمة فوضى ما بعد الثلاثين من يونيو واستثمار غضب الإسلاميين بتوجيههم أكثر إلى تقبل فكر داعش، وهو ما توقعه عدد من الخبراء والمحللين قبل شهور، فعلى سبيل المثال لا الحصر ذكرت الباحثة الأميركية المختصة بشأن المصري، “مارا ريفكين” في مقالة لها بمجلة “فورين أفيرز” أن “انتصار السيسي من المحتمل أن يتسبب باستدامة حلقة مفرغة من العنف بين الجيش والإسلاميين والذي يستخدم كل منهم الأخر كذريعة للتصعيد الغير مبرر، ففي سيناء يسعى الجيش لإطلاق هجمات طائرات بدون طيار بينما نشر المتشددين الإسلاميين صواريخ أرض- جو لأول مرة، في النهاية قرار الحكومة المصرية بإعلان الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا قد يتحول لنبوءة تتحقق ذاتيا، حيث يلجأ المزيد من أفرادها إلى العنف باعتباره المنفذ الوحيد المتبقي لمعارضة النظام”. أما اقليمياً فثمة تغيرات أسسها ما حدث في مصر بعد الثلاثين من يونيو 2013 في إعادة ترتيب محاور دول المنطقة، وعلى ما تبقى من مفاهيم جمعت “محور الاعتدال” أضيف عليها عامل رئيسي هو مجابهة الإسلام السياسي، والدول الداعمة له في المنطقة، وبداية من يوليو الماضي، ومع زلزال”داعش” في العراق، واجتياحها الموصل أضيف عامل توجيه جديد لبوصلة دول محور الاعتدال، وهو كيفية مواجهة خطر هذا التنظيم. ودولياً كان التحالف الأميركي لضرب داعش مدخل جديد لتحقيق أهداف كل دولة مشاركة فيه وخاصة الدول الإقليمية، وهو ما أفضى في الواقع إلى التعجيل بالصدام بين التنظيم والدول التي تضع مواجهته على أول قائمة أهدافها، ليتبقى سؤال أين وكيف سيرد التنظيم الإرهابي؟ وأتت الإجابة سريعاً على مدار الأسابيع الماضية في سيناء.
حالياً، وبعد شهور من تناظر موقف الدولة والتنظيم تجاه كل منهما الأخر، نجد أن سيناء مثلت مسرح مهيأ لتناظر موقف الطرفين عملياً، فالدولة أمام تحدي وقف ومكافحة عمليات من يتبنون المنهج “الداعشي” في سيناء. وغني عن القول هنا أن معظم التنظيمات الجهادية في العالم لا تتبع المركزية، فهي في أغلبها تنظيمات لا مركزية تحت مظلة فكرية من وتوجيه من التنظيم الأم، سواء كان “القاعدة” أو “داعش” ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجماعات المتطرفة في مصر حاولت استعجال ربطها ب”داعش”، لأمور لها علاقة بالصدى الإعلامي والحرب النفسية، إلا أن الإعلان عن مبايعة تنظيم بحجم “أنصار بيت المقدس”، المتورط في عشرات العمليات الإرهابية وأخرها مذبحة “كرم القواديس” التي راح ضحيتها 31 جندي وضابط مصري، جاء في سياق اعتراف متبادل بين التنظيم الأم في العراق وسوريا، وبين الجماعة الإرهابية في سيناء، تمثل في رسالتين متبادلتين، الأولى أعلن فيها تنظيم “أنصار بيت المقدس” بيعته لخليفة “داعش” وتغير أسم التنظيم إلى “الدولة الإسلامية-ولاية سيناء”، والثانية هي قبول “البغدادي” في تسجيل صوتي له بث منذ أيام عن قبوله لبيعة “نصار بيت المقدس” وتنظيمات أخرى ووعيده بتمدد “خلافته” إلى مصر والسعودية واليمن وليبيا والجزائر.
يمكن القول أن هناك مرحلة جديدة في الصراع بين الدولة المصرية والتنظيمات الإرهابية بدأت بإعلان تنظيم “أنصار بيت المقدس” مبايعته لخليفة “داعش”، مرحلة تتسم في مطالعة دلالاتها الأولى بأتساع ساحة الصراع من سيناء شرقاً وحتى ليبيا غرباً، وما يتبع ذلك الأتساع تطور كمي ونوعي في عمليات التنظيم الإرهابي الذي أصبح له بحكم الواقع ذراعاً في مصر، وحدودها المجاورة. على أن ذلك يعني أنه يجب أن يكون هناك تطور وقائي لدى الدولة المصرية لمجابهة هذا الخطر، يتجاوز أخطاء الفترة الماضية، وبالتالي يجب إعادة النظر في الترتيبات الأمنية داخلياً والتحالفات الإقليمية والدولية. ففي النهاية لا يمكن حصر تأثير ضربات التنظيم الإرهابي على مستوى دولة واحدة، فتمدد هذا التنظيم الإرهابي إلى مصر يعني فشل جزئي –بالحد الأدنى- لما سمي بـ”الحرب ضد داعش” التي يتزعمها دول وازنة مثل الولايات المتحدة وحلفاءها الرئيسيين في المنطقة، وبالأخص السعودية والإمارات، حلفاء النظام المصري الجديد.
نقلا عن البديل