منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين ١بط ١: ١٣- ١٦
تمر علينا الكثير من المواقف التي تحتاج إلى قرارات حاسمة في حياتنا. و هذه القرارات ليست فقط لكي نتخذها ونلتزم بها لفترة قصيرة، بل وأيضا على المدى البعيد. على سبيل المثال، قد يمر علينا وقت نشعر فيه بأهمية إتخاذ قرار للتخلص من عادة سيئة (كالتدخين مثلا) او لعمل نظام غذائي معين للتخلص من عادات غذائية سيئة (مثل الإفراط في تناول الطعام او تناوله في مواعيد غير مناسبة) مما يترتب عليها الكثير من المشكلات الصحية. نتخذ هذه القرارات بكل حماس وصرامة. بل وننجح في الحفاظ عليها لأيام، او لأسابيع، او حتى لبضعة شهور. ولكن سرعان ما يتلاشى هذا الحماس وهذا الإصرار على المدى البعيد. فنعود إلى ما كنا عليه (او ربما اسوأ مما كنا عليه) قبل إتخاذنا لمثل هذه القرارات.
وهذا أيضا يحدث على المستوى الروحي في الحياة المسيحية. في بعض الأوقات، نتعرض لمواقف تجعلنا نشعر بحماس الإيمان يجري في عروقنا. فنمتلئ برغبة صادقة أن نعيش بطريقة ترضي الله وتريح ضمائرنا. فنقترب من الله من خلال المواظبة على العبادة وقراءة الكلمة المقدسة. نعلن رغبتنا على ترك الخطايا والشرور، و نتوقف عن العادات السيئة والعلاقات الخاطئة التي تغضب الله والتي تبعدنا عنه.وليس هذا فحسب،
بل ونشعر ايضا أنه ينبغي ان نقوم بمسئولياتنا وادوارنا الروحية "كملح للأرض ونور للعالم" تجاه المجتمع الذي نعيش فيه والأفراد الذين نتعامل معهم، وتجاه أولادنا أيضا. و ان نعيش بأهداف روحية وبمبادئ الكتاب المقدس. فلا نقبل ان عيش على هامش الحياة الروحية كما يعيش أولاد العالم، بل نكون عاملين فعالين ومؤثرين.
لكن سرعان ما يتلاشى حماسنا وتتحطم أحلامنا امام رياح العالم الشديدة ومشاكله "لأن كل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة" (١يو ٢: ١٦). فكيف يمكن ان نتجاوب مع الإيمان ونعيش حياة مسيحية صحيحة بلا تراجع او إنسحاب.
يقدم لنا الرسول بطرس الحل في هذه الآيات فيقول:
"لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين، فألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح. كأولاد الطاعة، لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم، بل نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضا قديسين في كل سيرة. لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس." ١بط ١: ١٣ـ ١٦
وكلمة "منطقوا أحقاء ..." صورة مأخوذه من حضارة ذلك العصر. حيث كان من الطبيعي لمن يعيش في ذلك الوقت ان يلبس ثيابا طويلة، لدرجة قد تعيق من يلبسها عن المشي او الحركة. لذلك فكان على الشخص ان يضع حبلا او حزاما على وسطه و يربطه بإحكام حتى يتسنى له ان يتحكم في طول الثياب بالطريقة التي تتناسب معه اثناء الحركة، والمشي والعمل (ولا زالت هذه الطريقة معروفة ومستخدمة في قرى بلادنا العربية).
يستخدم الرسول بطرس هذه الصورة ولكن ليس عن الثياب وإنما عن الذهن فيقول: "لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين". و هنا يوضح الرسول انه يجب علينا ان نجعل اذهاننا دائما مستعدة للعمل، ونحن صاحين واعين ومدركين لما هو بحسب مشيئة الله.
كيف نمنطق أحقاء أذهاننا؟ كيف نجعل أذهاننا جاهزة للعمل؟
١- الصور الذهنية:
ان أذهاننا تعمل كنتيجة للصورة الذهنية الموجودة فيه. فالشئ المسيطر على الذهن، هوالذي يقود فكر الإنسان وأفعاله إليه. فإذا كان شخصا يسيطر على ذهنه، مثلا، خبرات فشل فما سيكون عمل الذهن؟ القلق والخوف من المستقبل، والذي قد يدفع الإنسان إلى العزلة والإنسحاب او إلى الإنتحار في بعض الأحيان. وإن كانت الصورة المسيطرة هي ان "المال يحقق السعادة"، فماذا سيكون عمل الذهن؟ سيقود الإنسان إلى العمل المستمر ولساعات أطول و الإنشغال بتجميع الأموال التي تجلب السعادة.
وإذا نظرنا إلى الأسباب الرئيسية التي تعرضنا للفشل في التغلب على بعض عاداتنا السئية، او تجعلنا نتوقف عن الإستمرارية في إتباع أنظمة غذائية سليمة على المدى البعيد، على الرغم من نجاحنا على المدى القصير، هو غياب الصورة الذهنية التي نرغب في تحقيقها في المستقبل. سيكون دائما الدافع الذي يقوي عزيمتك ويقود أفعالك للإستمرارية في النظام الغذائي السليم مثلا، هو صورة التي ترسمها في ذهنك عن شكل جسمك الذي تتمنى ان تراه و الحالة الصحية التي ترغب ان تكون عليها. فإذا كانت الصورة واضحة ومقنعة، ستجد أن ذهنك سيقودك إلى تحقيق هذا الأمر من خلال إلتزامك بطرق غذائية سليمة و إختيار الأطعمة الصحية والتي تقل بها نسب الدهون و النشويات والسكريات والتي تحتوي على سعرات حرارية اقل من غيرها.
أدرك الرسول بطرس اهمية هذه الصورة الذهنية على حياة المؤمن وعلى سلوكه وأفعاله. لذلك إهتم بأن يرسم صورة في الآية ١٣ تكون واضحة في أذهان المؤمنين. وهذه الصورة هي البركات التي سيختبرها المؤمنين عند مجئ المسيح "فألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح". أراد الرسول بطرس ان يعطيهم بعدا آخرا وهدفا أسمى لحياتهم الأرضية. فنحن لا نعيش فقط من أجل اليوم وإنما من أجل الحياة الأبدية. يريد الرسول بطرس من كل المؤمنين ان يضعوا في أذهانهم ونصب أعينهم اليوم الذي فيه سيرون الرب يسوع وجها إلى وجه: "لأننا جميعا سوف نقف أمام كرسي المسيح" (رو١٤: ١٠)، وأن نتذكر ان مكافأة الإيمان هي التمتع بالبركات الروحية التي أعدها الله للمؤمنين: "ما لم تر عين، ولم تسمع اذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه" (١كو ٢: ٩) . هذه الصورة لا بد وان تكون الدافع الذي يعطي للمؤمن ليس فقط الصبر لتحمل الألم والإضطهاد، بل والإقتراب من الله وتقديم الشكر و العبادة والخدمة اللائقة لجلاله. أهل العالم يعيشون في الحاضر، ويخشون من التفكير في المستقبل. لكن المؤمن لا يعيش من أجل الحاضر، بل من أجل المستقبل. سيكون أعمال الحاضر، بالنسبة للمؤمن، هي بذور لحياة المستقبل.
ماذا سيحدث عندما نمنطق أحقاء أذهاننا؟
٢- أمور لابد وان نتخلص منها:
عندما يتكون في ذهن الإنسان صورة واضحة للشكل الذي يرغب ان يكون عليه، سيبدأ الذهن في العمل من أجل تحقيق هذه الصورة. وأهم شئ هو ان ذهنك سيوجهك للتخلص من كل ما هو غير متناسب مع هذه الصورة. فالشخص الذي في ذهنه صورة عن جسم سليم وصحي، سيبدأ بكل تأكيد برفض تناول الأطعمة الغير صحية، كما سيرفض أيضا تناولها بكميات كثيرة، اوفي أوقات غير مناسبة.
يقول الرسول بولس "كأولاد للطاعة، لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم". فعندما يضع المؤمن صورة ذهنية لمجئ المسيح الثاني، او لمقابلة المسيح بعد الموت، وللبركات التي أعدها الله للذين يحبونه، سيبدأ الذهن برفض أي تصرف او عمل او فكرة تشوه هذه الصورة او تشكك في تحقيقها. سيقود الروح القدس ذهنك وقلبك لكي ترفض امورا وافعالا كنت تعملها سابقا، عندما كانت محبة العالم وشهواته تسيطر على ذهنك وتشغله. أما الآن وبعد ان تغير ذهنك وأصبح يمتلئ بمجئ المسيح والحياة الأبدية، فعليك ان تقبل و ان تخضع لعمل الروح القدس في حياتك. ستكون الرغبة للتخلص من كل ما هو لا يرضي الله ولا يتفق مع فكر الكتاب المقدس قوية جدا بسبب التفكير في بركات المستقبل الروحية.
٣- أمور لا بد وان تصبح عادة في حياتنا:
سيحاول الذهن ان يجعل من إختيار الغذاء الصحي و المواعيد المنتظمة للغذاء عادة يستمر عليها الجسم بإستمرار. وهذا الذي يوضحه الرسول بطرس فيقول: "بل نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضا قديسين في كل سيرة". وهذا يعني ان المؤمنين الذين وضعوا في أذهانهم وقلوبهم صورة مجئ المسيح وتقابلهم معه والبركات التي أعدها الله للذين يحبونه، سيجعل حياة القداسة والسلوك المسيحي للمؤمن تكون عادة.
"ولكن إن كان أحد يظهر أنه يحب الخصام، فليس لنا نحن عادة مثل هذه، ولا لكنائس الله." ١كو ١١: ١٦
ستصبح الصلاة والعبادة والخدمة والمحبة والتصالح والغفران والتسامح والفرح والشكر والعطاء والتضحية والتواضع والصبر وغيرها من عادات المؤمنين وسلوكهم الطبيعي.
من أكثر الأمور خطورة في أي عمل هي نقطة المنتصف. لأن نقطة البداية تكون مليئة بالحماس والإثارة. ونقطة النهاية هي نقطة المكافأة والنجاح. ولكن نقطة المنتصف هي نقطة الإختبار الحقيقي. وذلك لأنها تحتاج إلى المزيد من العطاء والإستمرارية بدون مكافأة او تشجيع. في هذه المرحلة ترفع العيون من على الهدف وتستقر على المشكلات والتحديات التي حولهم. وهذه الفكرة تنطبق على كل الأمور مثل العمل، والدراسة كما هو الحال ايضا على حياة الخدمة .
هل أنت في منتصف الطريق؟ هل تعيش في المنتصف بين فكر الله وبين فكر العالم؟ هل أنت في مرحلة متوسطة في محبتك لله فأنت لست باردا او حارا (رؤ ٣: ١٥)؟. هل تعيش بمدأ "ساعة لقلبك و ساعة لربك"؟ لا تقبل ان تقف عند هذه المرحلة المتوسطة او تتراجع. فثباتك عند هذه المرحلة او تقهقرك لن يعطيك حياة روحية سعيدة مليئة بالبركات الروحية والنصرة الحقيقية التي لك في المسيح، كما أن حياتك لن تكون بركة للآخرين ولن تترك تأثيرا على حياتهم "نور للعالم... ملح للأرض". لذلك إملاء ذهنك بالهدف والدافع. إملاء ذهنك بلحظة وقوفك امام كرسي المسيح. لا تجعل تركيزك على التحديات التي تعيقك وتسعى إلى تفشيلك. وإنما على أهمية نجاحك والبركات والنعم الروحية التي تنتظرك "عند إستعلان يسوع المسيح" . لذلك إستمر في التقدم في رحلتك تجاه معرفة فكر الله ومحبته.