13 - 09 - 2014, 02:29 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
الأب مارون مبارك – المرسل اللبناني كنيسة مار شربل أدونيس – عيلة مار شربل "رتبة المعموديّة وروحانيتها" مقدمة : عندما نشارك في رتبة المعموديّة قلّما نفهم رموزها ومعانيها، انما الفرحة تعمر القلوب بالمولود الجديد، ليس لأنه موجود معنا بالجسد، إنما واكثر لأنّه يدخل في الحياة المسيحيّة ويصبح عضواً في جسد المسيح السرّي أي الكنيسة. لو طالعنا جيداً أقسام الرتبة لفهمنا عمقها وأبعادها وصرنا أقوى في عيش ايماننا وتحقيق ارادة الله علينا. لأن من يعرف يحب ومن يحب يعمل. هذا هو هدفنا في تفصيل الرتبة ومن ثمّ في عرض أبعاد المعموديّة الروحيّة انطلاقاً من معطيات الكتاب المقدس وتعاليم آباء الكنيسة. تقسم رتبة المعموديّة، حسب الطقس الماروني، خمسة أقسام عادة، وهذه الأقسام نتبعها بحسب الترتيب الموضوع فيه، لأنها بتتاليها تضفي على العمل الذي نقوم به نمواً وتطوراً في مسيرة العبور إلى الميلاد الثاني. (ملاحظة: إن اللجنة الليتورجية التابعة للبطريركية المارونية، هي بعداد اعداد رتبة معموديّة جديدة تستعيد فيها عناصر عديدة كانت تتبع في الماضي وعند صدور هذا الكتاب نعود للشرح عن كل جديد يصدر فيه). القسم الأول : الصلاة على الأم والطفل. وهذا القسم يصير عند الباب للدخول. تقف الأم مع الطفل عند الباب، فيأتي الكاهن متّشحاً باللباس البيعي، يصلّي عليها وعلى الطفل ومن ثم يحمل الطفل إلى المذبح ويعود فيستدير نحو الأم التي تكون وصلت امام المذبح ويسلّمها الطفل. هذه العادة كانت متّبعة في العهد القديم حيث كان يتمّ تطبيق شريعة التطهير كما ينص كتاب التشريعات اليهوديّة اي تثنية الإشتراع، فالأم اذا ولدت ذكراً، بعد اربعين يوماً تصعد به إلى الهيكل وتقدّم عنه فرخي حمام أو يمام، اما إذا كانت المولودة فتاة فبعد ثمانين يوماً. يذكرنا هذا الأمر بعيد دخول المسيح إلى الهيكل، حيث قدمت مريم مع يوسف يسوع إلى الربّ على يد سمعان الشيخ. فالشريعة تكمن في تطهير المرأة وفي نذر الطفل للربّ الذي يفدى بقربان أي بتقدمة. (راجع لوقا 2/ 22-35). في عصرنا، لم نعد نتبع هذه الأمور، بل يكتفي الكاهن باستقبال الأهل والطفل، اما عند باب الكنيسة واما على المذبح. القسم الثاني : الصلوات ما قبل المعموديّة، وهي مجموعة صلوات تحضير وفيها يتم اعداد كل ما هو بحاجة إلى تجهيز من اشخاص وآنية. إنّه قسم الفرض الذي يحوي الأمور التالية: 1- صلاة البدء : تركز على اننا نقوم بخدمة العماد التي تسلّمها الرسل ونحن بدورنا نتسلّمها، والنفس الحاضرة هنا تتأهل لقبول المعموديّة. 2- مزمور 50 : إرحمني يا الله، يذكرنا اننا بالخطيئة ولدنا وهي امامنا كلّ حين. لكن رحمة الله اكبر من خطيئتنا هي التي ترفعنا. 3- صلاة الحساي : يعني صلاة الغفران وهي مؤلفة من مقدمة (فروميون) وصلب الموضوع (سِدُرا). ويرتكز فيها الموضوع على الأفكار التالية: o يسوع يعطينا المثل في التنقية، إن في معموديته على الأردن وإن في مجمل حياته على الأرض. o تعداد أعمال يسوع : مولود بدون زواج – يجدد صورة آدم بعد السقطة- المعموديّة على الأردن وكل ما رافقها من علامات الظهور الإلهي. o الطلب إلى يسوع : أن يبارك الشخص ويقدسه وهو يتقدم إلى المعمودية ان يؤهلنا بفعل تجددنا بالمعمودية لأن نرفع المجد للثالوث. 4- لحن ترتيلة من وحي المناسبة. 5- صلاة العطر : وهي صلاة البخور التي نرفعها مع البخور المتصاعد دخانه وعطره من المبخرة، نقدمها للربّ ونسأله أن يقدسنا بكليتنا: قلوبنا – عقولنا وافكارنا – آذاننا، لتكون كلها مؤهلة لسكناه وذلك بحلول الروح القدس. 6- مزمور القراءات: فيه آيات من المزامير تحكي عن خضوع المياه للربّ. 7- القراءات : تيطس 3/ 4-7 ويوحنا 3/ 1-9. فيها تشديد على الولادة الثانية من الماء والروح. 8- العظة : تتضمّن شروحات وتعاليم حول مفاهيم المعموديّة ومفاعيلها وحضّ الحاضرين على تذكّرها بالإضافة إلى مرافقة النفس في مسيرتها الجديدة. القسم الثالث : صلوات الموعوظين، وهي صلوات تتلى على المتقدّم للمعموديّة وإعلان الإيمان بإسمه. تدخل هذه المجموعة في إطار تحضير الأشخاص واثبات اهليتهم لنيل السرّ. تتألف من العناصر التالية : 1- لحن أيها الربّ إلهنا: وفيه تتمحور الصلاة حول إعلان المعموديّة كأم جديدة، وإعلان انّ يسوع بعماده على نهر الأردن طهّر كلّ المياه، كلّ من ينزل فيها يجهز للوصول إلى الحياة الأبديّة. 2- صلاة : لتأهيل المتقدّم من المعموديّة. 3- صلاة : التقسيم بإسم الثالوث الأقدس على المتقدّم من المعموديّة من أجل تخليصه من كل ما يشوب نفسه. 4- صلوات الإيمان: وهي ثلاث صلوات يُعلَن فيها الإيمان المسيحي بكلّ عناصره. يبدأ اولاً بالكفر بالشيطان، يلتفت العرّابان إلى الغرب حيث تغيب الشمس رمز الظلمة التي تدل على ظلمة الشيطان، ويتم تكرار إعلان الكفر بالشيطان وبكل أبّهته وقوّته. ثمّ يلتفت العرّابان إلى الشرق حيث تشرق الشمس رمز نور المسيح ويعلنان بإسم المعمّد الإيمان بيسوع بكنيسته وتعاليمها. ومن بعد ذلكَ يتلو الجميع قانون الإيمان. 5- صلاة : بعد إعلان الإيمان يتلو الكاهن صلاة تحوي على ذكر ما ندعو به يسوع ( الراعي، المعمِّد، المعلِّم)، بالإضافة إلى ذكر دخوله في مياه الأردن حيث جهَّزَ لنا المياه لتصير مقدّسة.
القسم الرابع: نافور تكريس مياه المعموديّة، وهي مجموعة صلوات وتبريكات حتى يتم تكريس المياه للمعموديّة. من الممكن أن يقوم الكاهن بهذه التبريكات قبل المعموديّة، أو اثناء الحفلة، يتم تكريس المياه كالآتي: 1- يرسم إشارة الصليب فوق حوض المياه ثلاث مرّات. 2- ينفخ فوق الماء بشكل صليب، علامة حلول الروح القدس، الذي يطرد كل ما يخالف الربّ. ويصلّي لكي تصير هذه المياه في الحوض أحشاء روحيّة تلد بنين روحييّن لله. ثم يدعو الروح القدس ثلاث مرّات ويصلّي على المياه لتصير مثل المياه التى جرت من جنب المسيح لكي تُنَقّي وتُطَهّر. 3- يمزج بالميرون المياه ثلاث مرّات بشكل صليب وذلك لكي تتنقّى بإسم الثالوث وتتقدّس.
القسم الخامس : صلوات العماد، وهو القسم الأخير الذي يأتي بعد كل التحضيرات، فيه تتم عمليّة المعموديّة. يتألّف هذا القسم من الصلوات التالية: 1- صلاة الوسم بزيت المعموديّة وفيها يتمّ قبول الشخص كحمل لله في كنيسته. 2- التعميد بالمياه الذي كان يتم بالتغطيس 3 مرّات مع ذكر الثالوث بالتتالي. ثم أصبح اليوم يتم بسكب المياه على جبين الطفل ورأسه 3 مرّات على إسم الثالوث ليُعمّد حملاً في بيعة الله. وتم الإنتقال إلى هذه الطريقة لأسباب صحيّة. 3- تلبيس الطفل الثياب البيضاء التي ترمز إلى نقاوة النفس التي تعمّدت ولبست الثياب الجديدة. 4- التثبيت بزيت الميرون: وهنا يُمنح هذا السرّ مع المعموديّة بناءً على ما علّمه المجمع الفاتيكاني الثاني. سوف نشرح هذا السرّ مطوَّلاً في لقاء لاحق. 5- تلبيس الولد طرحة على رأسه وزناراً على وسطه وذلكَ علامة لتثبيته أي قبول حلة المجد بالثالوث. 6- الزياح ويعني فرح الجماعة بحلول شخص جديد في قلبها. ويعني أيضاًَ قبول الجماعة لهذا الشخص الجديد في حلّته الجديدة أي أصبح ابناً لها وفيها ولبٍسَ الحياة الجديدة. تقبله في حياته الجديدة هذه. فتطوف في قلب الكنيسة وهيَ تُرتّل وتحمل الشموع رمزاً لنور المسيح الذي يُضيء لها الطريق نحوَ الملكوت. وكان قديماً الزياح يتم من عند جرن المعموديّة أو حوض المعمودية نحو المذبح ليتم إعطاء المعمود الجديد القربان، لأن القربان مع المعمودية وسر التثبيت، تشكل كلها مجموعة، اسرار التنشئة. وتم فصلها فيما بعد لأسباب راعوية.. 7- صلاة الختام : تدور حول فكرة أن يبقى هذا المعمَّد ثابتاً في إيمانه، أميناً لإلتزامه لكي يستحق الوصول إلى المجد السماوي. بعد عرض رتبة المعموديّة بالتفصيل، ننتقل إلى الحديث عن روحانيّة المعموديّة بشكل عام، وذلكَ كما يحدّدها الإنجيل وآباء الكنيسة وكما تُعلّمنا اياها أمنا الكنيسة. تتركّز روحانيّة المعموديّة على ثلاثة مفاهيم: الإيمان، الموت والقيامة، وعمل الروح القدس.
المعموديّة تحمل حقيقة الإيمان، المعموديّة تقتضي الإيمان هناك علاقة وطيدة بين المعموديّة والإيمان، أشار إليها اولاً يسوع في حديثه مع التلاميذ بعد قيامته إذ قال لهم: "إذهبوا في العالم كلّه، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين. فمَن آمَنَ واعتمد يخلص، ومَن لم يؤمن يُحكم عليه." (مر 16/ 15-16). فالإيمان ضروري للعماد، إذ انّه من الممكن ان يؤمن الإنسان بدون أن يعتمد ويحصل على الخلاص. أمّا أن يعتمد بدون أن يؤمن فهذا يقوده إلى الهلاك.
لذا اكّد يسوع في إنجيل يوحنا 3/ 16 و 18 "فإنّ الله أحبّ العالم حتى انّه جاد بإبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة... مَن آمن به لا يُدان ومن لم يؤمن به فقد دين منذ الآن." ثم تمرّست الكنيسة الأولى في الجمع بين الإيمان والمعموديّة كما يخبرنا حدث معموديّة خادم ملكة الحبشة (أعمال 8/ 26-40). فبعد أن تحدّث فيليبّس وآمن الرجل طلب المعموديّة: "هذا ماء، فما يمنع أن أعتمد". (أعمال 8/ 36). ثم توالت شروحات آباء الكنيسة لكلام يسوع الذي سمعنا في إرساله التلاميذ بعد قيامته.
يقول اثناسيوس: "لم يأمر فقط الربّ بالمعموديّة، انّما قال اولاً: علّموا، ومن ثم: عمّدوا باسم الآب والإبن والروح القدس، لكي من التعليم يأتي الإيمان القويم ومع الإيمان تكتمل التنشئة للمعموديّة." اما القديس ايرونيموس فيقول بأن الرسل "بدأوا بتعليم كل الأمم، ومن بعد أن علّموهم، عمّدوهم بالماء. إنّه لمن الممكن أن يحصل الجسد على سرّ المعموديّة، إذا كانت النفس اولاً قد حصلت على حقيقة الإيمان".
ومن بعد الآباء نفسهم شدّد التعليم الكنسي مع المجتمع التريدنتيني على ضرورة الإيمان للخلاص وذلكَ في الفصل السابع من الدورة السادسة فيحدد ان "العماد هو سرّ الإيمان، إذ بدون الإيمان لا يمكن للإنسان أن يخلص". ويزيد القديس توما الأكويني بدوره "ان الإتصال الأول مع الله يتم بواسطة الإيمان". وهذا ما يعود ليؤكده القديس يوحنا الصليبي في كتاباته الروحية إذ يقول في كتابه الصعود إلى جبل الكرمل 2/ 9 "الإيمان وحده هو الوسيلة الأقرب والأصلح لإتحاد النفس مع الله... فبقدر ما تؤمن النفس تتحد بالله". ويقول في كتاب الليل المظلم 1/ 11 "الإيمان النقي هو الوسيلة الفريدة التي بواسطتها تتّحد به". كما انّ المعموديّة تفترض الإيمان وتقتضيه، فهي بالوقت نفسه فعل التزام بالإيمان، لذلكَ تتطلّب من المعمّد إعلان الإيمان والبرهان عنه. وإيماننا ليس تعداد آيات وتحديدات مكتوبة ومعلّبة، أي نردّد عبارات فارغة. "الإيمان هو قبول كلام الله، هو الإنصياع لسلطان الله، إنّه فعل خضوع لحقيقة الله وبالتالي لشخص يسوع المسيح الذي هو كلمة الله". ففي تعليقة على إنجيل يوحنا يوضح القديس اغوسطينس معنى الحرف "باء" القوي ويقول "ما معنى أن نؤمن به؟ إنّه يعني أن نحبّه، ونحن نؤمن، أن نجاريه ونحن نؤمن به، أن ندخل فيه، أن نندمج في اعضائه". ولقد بدأت الكنيسة اليوم باتخاذ بعض التدابير مثل خلق رتبة صغيرة يعاد فيها تجديد مفاعيل المعموديّة، أو ما يُسمّى في الكنيسة اللاتينيّة "إعلان الإيمان" profession de foi بحيث يعود الولد بعدما يبلغ سنّ التمييز فيعلن باحتفال إيمانه الذي يكون العرّابان قد اعلناه عنه اثناء المعموديّة وهو طفل. هذا الخاتم الذي يختمنا بالمسيح، يحملنا على عمليّة "التشبّه بالمسيح والإقتداء به". ولذلك طلب القديس اغناطيوس الإنطاكي أهل فيلادلفيا وكنيستها "كونوا متشبّهين بيسوع المسيح كما تشبّه بالآب". وفي حديثه مع كنيسة روما اثناء اقتياده إلى الإستشهاد طالب أعناطيوس الأنطاكي بشدّة "اسمحوا لي أن اقتدي بآلام إلهي". هكذا فإن التزام الإيمان بالمعموديّة يصبح أن نحمل صليبنا وأن نتبع يسوع حتى الوصول إلى الإستشهاد إذا اقتضى الأمر. هذا ما يقصده في الإيمان والأمانة، انهما واقعان مترابطان. وفي الأخير عندما يفترض منّا العماد الإيمان ويلزمنا به، فإنّهُ يتَحِدُنا بالمسيح. وكنّا شرحنا انّ "فعل عمّد" يعني غطس في المسيح واصبح عضواً في جسده. وجسد المسيح السرّي هو الكنيسة، فالمعموديّة تدخلنا في قلب جسم الكنيسة، جسد المسيح السرّي. فالكنيسة هي هيكل الإيمان، "عمود وأساس الحقيقة" (1طيم 3/ 7). الإيمان والكنيسة، والمعموديّة، حقائق ثلاث مرتبطة ببعضها البعض. نحن ندخل في الكنيسة لنعتنق تعاليمها ونسلك في سبل حياتها ونشترك في صلاتها وبالأخص في اسرارها. معنى آخر يضفيه العماد على الإيمان وهو معنى "النور". وكان العماد يسمى بكل بساطة "التنوير illumination" وبالأصل اليوناني phôtismos. إنّه سرّ النور. يقول اكليمنضوس الإسكندري في القرن الثالث، (التعليم 1 و 4/ 26-32) : "متى نعتمِد نستنر، ومتى نستنر نُضحِ أبناء. ومتى نُضحِ ابناء نُضحِ كاملين. ومتى نُضحِ كاملين نأخذ عدَم الموت: " قد قلتُ إنّكم آلهة وبنو العليّ كلّكم" (مز 81/ 6).
إلى هذا العماد نُنسب أسماءٌ مختلفة: العماد نعمة. استنارة. غُسل. إكمال. "غُسلٌ" لأنّنا به نتنقّى من آثامنا. وَ "نعمة" لأنّ القصاص المترتّب على خطايانا قد أبطل. وَ "استنارة" لأننا نتأمل نور خلاصنا المقدّس. وننفذ بالبصيرة إلى الأشياء الإلهيّة. وَ "إكمالٌ" لأنّنا لا ينقصنا معه شيء... والإنسان فورَ اعتماده، يُدعى "مستنيراً": لقد تحرّر فعلاً من الظلمات، ونَعِمَ بالنور. فحينَ ننفض عنّا الرقاد، ندخل توّاً في حالة اليقظة. وحين نمسح الضباب عن عيوننا، نكتشف البصر. والنظر لا يأتي من الخارج، بل قد أزلنا ما كان يحجب العين، فحرّرنا حدقة العين. فالأمر عينه يحدث في العماد: لقد تحررنا من خطايانا التي كانت سحابة تحجب عنّا الروح الإلهي. فإذا بعينِ روحنا قد تحررت هيَ ايضاً، فانقشع ضبابها واستنارت. وهذه العين وحدها تجعلنا نتأمل الأمور الإلهية. وهكذا يتغلغل فينا الروح القدس الهابط من السماء، وهوَ شذا الضياءِ السرمدي، ويمكِّننا من تأمل النور الأبدي... وفور ارتدادنا إلى الله، ننبُذ تحمُّل نتائج خطايانا، ونَشفُّ بالعماد، ونسرع نحو النور الأبديّ أبناء يركضون إلى ابيهم السماوي". هذا النور كان قد ذكر في العهد الجديد وبالأخص في الرسالة إلى العبرانيين 10/ 32 إذ يقول "اذكروا الماضي الذي فيه تلقّيتم النور". وكانت قد ذكرت الرسالة ذاتها في 6/ 4 "فالذين تلقّوا النور مرّة وذاقوا الهبة السماويّة وصاروا مشاركين في الروح القدس وذاقوا كلمة الله الطيبّة وقوى العالم المقبل".
نجد في هذه الآية مقومات المعموديّة بكل مراحلها الأستعداديّة بالتعليم ومراحلها الأساسيّة مثل قبول الروح والكلمة التي تنير. وهذا يعود ليذكرنا بقول بولس الذي ينبّه المعمّد الجديد "تنبّه إيها النائم وقم من بين الأموات يُضئ لك المسيح" (أفس 5/ 14). هكذا فالمعموديّة تنزع الإنسان من مخالب الظلمة والشرير ملك الظلمة. وتفتح له العيون الباطنية ليصبح قادراً ان يشهد نور الربّ. فبقوّة الله يرى الإنسان الله "يصعب على الإنسان أن يعرف الله بدون الله" يقول القديس ايريناوس. هكذا فإن التنوير يصل بالإنسان إلى المعرفة الروحيّة. هذا ما يوضحه لنا القديس اغوسطينس في شرح شفاء الأعمى عند بركة سلوام: لقد حوّله يسوع من جاهل إلى عارف، فالعمى هو الخيانة، والبصر هو النور أي الإيمان؛ هكذا لمّا اغتسل الأعمى بالبركة المسمّاة "سلوام" ويمكن ترجمتها وشرحها بالمرسل. لقد تعمّد بيسوع لأن يسوع هو المرسل من عند الآب وبالتالي كان يسوع يفتّش عمّن يؤمن لكي يجعله عارفاً “De quelqu' un qui croit à quelqu' un qui comprend” ، أي يفهم الأسرار. هكذا يصبح للتنوير معنى آخر وهو معنى نقاوة القلب التي بواسطتها يصبح الإنسان فيها قديراً على مشاهدة الربّ. فالعماد يصنع في النفس غسلاً، إنّه حمّام النقاوة والنور. يقول القديس قبريانوس بهذا الصدد: "عندما المياه الموّلدة الجديدة تمحو كل لطخات ماضيَّ ويصبح عندها قلبي نقياً طاهراً مملوءًا من النور العلوي، عندما روح الماء يعطيني حياة جديدة ويجعل منّي انساناً جديداً، يحدث تغيّراً رائعاً: محل الشك يأتي التأكيد، محل الغموض يأتي الوضوح، النور محل الظلمات، وتزول كل الصعوبات..." هكذا نحن أيضاً يمكننا معه أن نردد الخبرة نفسها وبالأخص إذا كان قلبنا بريئاً براءة الأطفال وصفاءهم. فنؤكّد ما يقول يسوع في متى 6/ 22 "العين سراج الجسد، فإذا كانت عينك نيّرة كان جسدك كلّه نيّراً". ونختم الحديث عن النور الذي هو الإيمان بما تقول الرسالة إلى العبرانين عن موسى الذي كان موقفه في وجه الصعاب صلباً وثابتاً
و "بالإيمان ترك مصر ولم يخشَ غضب الملك، وثبت على أمره ثبوت من يرى ما لا يُرى". (عبران 11/ 27). بالإيمان إننا نرى ما لا يُرى، أي الله. المعموديّة تدخلنا في موت المسيح وقيامته. المعموديّة هي أيضاً سرّ الموت والقيامة. "من يؤمن ويعتمد يخلص" (متى 16/ 16). فلا خلاص إلاّ بالمسيح " فلا خلاص بإحد غيره، لأنه ما من اسم آخر تحت السماء أُطلِق على أحد من الناس ننال به الخلاص". (أعمال 4/ 12). إذاً حتى نخلص نحن نشترك بعمل المسيح الذي مات ثم قام وانتصر على الموت والخطيئة. تتم عمليّة الشراكة هذه بالإيمان وهذا هو عمل باطني ومسلك داخلي وبالمحبة التي تشبه الإيمان في وجهها المعنوي. وتقوم ترجمة هذا الإيمان وهذا المحبّة عن طريق الأسرار. فنحن، كما يعلّم القديس توما الأكويني في خلاصته اللاهوتية 3/ أ، "إذا اشتركنا بآلامه عن طريق الإيمان والمحبة، وبواسطة اسرار الإيمان، فإن فضيلة آلام المسيح تصل إلينا بواسطة الإيمان والأسرار". فالمعموديّة توحّدنا بموت المسيح وقيامته. وطريقة تغطيس الإنسان بالمياه بفعل العماد هو رمز لهذه العمليّة المزدوجة، الغطس بجرن المعموديّة يعني الموت والقبر عن كل ما هو خطيئة، والنهوض منه هو رمز إلى القيامة والحياة الجديدة. هذا ما يؤكّده بولس الرسول في روما 6/ 3-5 "أوتجهلون أننا، وقد اعتمدنا بيسوع المسيح، إنما اعتمدنا في موته فدفنّا معه في موته بالمعموديّة لنحيا نحن أيضاً حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب؟ فإذا اتحدنا به فصرنا على مثاله في الموت، فنكون على مثاله في القيامة أيضاً" ويعود ويقول مجدداً في قولسي 2/ 12 "ذلك أنكم دفنتم معه بالمعموديّة وبها أيضاً أُقمتم معه، لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات". يشرح الأفكار نفسها القديس كيرلس الأورشليمي (+387) تحت عنوان "المعموديّة قبركم وأمكم" "بعد ذلك اقتادوكم إلى الحوض المقدّس للمعموديّة الإلهية، كما حُملَ المسيح من الصليب حتّى القبر الذي كان قريباً، وهو أمامكم. وسُئِل كلٌ منكم: هل يؤمن باسم الأب والإبن والروح القدس, فأدليتم بهذا الإعتراف الخلاصي. ثم غطستُم في الماء ثلاث مرّات وخرجتم منه، ممَثِّلين بذلك دفن المسيح الذي استغرق ثلاثة ايام. لأنه كما انّ المخلّص بقي في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك أنتم خرجتم من الماء أول مرّة، لكي تُمَثِّلوا اليوم الأول الذي قضاه المسيح في الأرض.
وغطستُم فيه لتُمثّلوا الليل: لأنّه كما أنّ مَن في الليل لا يرى شيئاً، وبعكسه، مَن في النهار يحيا في النّور، كذلك انتم غطستم في الماءِ كأنكم دخلتم الليل المظلم لا ترون شيئاً. ولمّا خرجتم منه، اصبحتم كمن هو في وضح النهار. وفي اللحظة عينها مُتُّم وولِدتُم. وأصبح هذا الماء الخلاصي قبركم وأمَّكم في وقت معا. وما قاله سليمان في موضعٍ آخر يمكن تطبيقه عليكم، إذ هو قال: للولادة وقتٌ وللموتِ وقتٌ. ولكنّ الأمرَ انعكس بالنظر إليكم: وقتٌ للموتِ ووقتٌ للولادة. أو بالحري: آنٌ واحدٌ حقّقَ الاثنين معا: حين مُتُّم وُلِدتُم." كما ان يوحنا فم الذهب في تعليقه وشرحه للرسالة إلى أهل روما يقول "ما كان الصليب والقبر بالنسبة إلى يسوع، حمله العماد لنا، ولكن ليس بالصيغة نفسها: اما هو فلقد مات ودُفن فيما يخص الجسد، أما نحن فلقد تلقينا الموت والدفن بالنسبة إلى الخطيئة". هكذا فإن كل روحانيتنا ترتكز على هذا المبدأ المزدوج الوجه: الموت والقيامة، كما تشرح الرسالة إلى اهل روما 6/ 11 "فكذلك احسبوا انتم أنكم أموات عن الخطيئة أحياءً لله في يسوع المسيح".
المعموديّة هي عمل الروح القدس: يحدّثنا كتاب أعمال الرسل 19/ 1-3 عن لقاء بولس بأهالي أفسس بعدما تنقّل ما بين فرجينيا وغلاطيه، "فقال لهم هل نلتم الروح القدس حين آمنتم؟ فقالوا له: لا، بل لم نسمع أن هناك روح قدس. فقال: فأيّة معموديّة اعتمدتم؟ قالوا: معموديّة يوحنا". نعم إذا كانت هذه الحادثة حصلت مع بولس حوالي سنة 54 فيكون ان هؤلاء كانوا قد التقوا يوحنا منذ 25 سنة، ويوحنا كان يعمّد بالماء داعياً إلى التوبة ولربّما قد سمعوا يوحنا يتحدث عن الروح القدس. لأنه وهو كان يعمّد كان يعلن عن مجيء من هو أقوى منه فيقول: "انا عمّدتكم بالماء، وامّا هو فيعّمدكم بالروح القدس" "(مر 1/ 8).
امّا الإنجيلي يوحنا فإنه يتوسّع في هذا الإعلان ويشرح مفصّلاً الأمر على لسان يوحنا المعمدان الذي يؤكّد وهو يشهد: "رأيت الروح ينزل من السماء كأنه حمامة فيستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه، ولكن الذي ارسلني أُعمّد في الماء هو قال لي إن الذي ترى الروح ينزل فيستقر عليه، هو ذاك الذي يعمّد في الروح القدس." (يو 1/ 32-33). فما معنى "العماد في الروح القدس؟" إذا راجعنا الكتاب المقدّس، نجد انه منذ السفر الأول حاول الكتّاب المُلهمون إظهار المياه وكأنها خصبة وفيها حياة، بالإضافة إلى انها ترمز إلى الروح القدس. "وروح الربّ يرف على وجه المياه" (تك 1/ 2)، حتى ان المياه تفجّرت من الصخر اثناء رحلة الخروج (خروج 17/ 5-6), وهذه الصورة هي دليل على المياه التي سوف تفاض بغزارة في أيام المسيح، وهي ترمز إلى بثّ الحياة الجديدة وإلى الخصب الروحي الذي لا ينضب، لذلك قال أشعيا: "فقد انفجرت المياه في البرّية والأنهار في البادية (35/ 6)، لأني أجعل مياهاً في البرّية وأنهارا في القفر لأسقي شعبي" (43/ 7). أمّا النبي حزقيال فإنه يظهر جلياً علاقة المياه بالروح حين يقول "أرش عليكم ماءً طاهراً، فتطهرون من كل نجاستكم واطهركم من كل قذارتكم. واعطيكم قلباً جديداً وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً... واجعل روحي في احشائكم" (36/ 25-27). إذاً، إذا كانت المياه ترمز إلى الروح وهي تعني الروح أيضاً، تصبح عبارة "معموديّة" حاملة هذين المعنيين. عمّد تعني غطس، نزل في مياه نهر أو بحر، كما أنها تعني الغطس والنزول في حقيقة روحيّة اي حقيقة الموت والقيامة. فالنزول في مياة النهر تعني بكل بساطة او بالأحرى تحمل بكل معنى طبيعي الإشارة إلى النزول "في الروح"، أي في حياة جديدة مبدأها الروح، هذا ما يعود ليؤكده القديس كيرلس الأورشليمي بقوله "تجرى المياه على الجسد من خارج، ولكن الروح يعمّد كلياً النفس في الباطن". (التعليم 17/ 14). فالروح القدس يحضر في المعموديّة ويعمل فيها، انه هو الذي يعمّد. "انت يا من تستعد للنزول في هذه المياه لا تنظر إليها وكأنها مياه عادية، انّما اقبل الخلاص من عمل الروح القدس". هذه المياه تطهّر الجسد، والروح يطبع النفس، هكذا فإن القلب يكون قد اغتسل بالروح والجسد بمياه نقيّة، عندها نصبح قادرين على القرب من الله. (راجع عبران 10/ 22). إذا كان الروح القدس حاضراً في المعموديّة وفاعلاً فيها، فالمعموديّة تعطينا الروح القدس، وهي "عطية الروح" (أعمال 2/ 38). قبل موته، وعد يسوع التلاميذ بأنّه سيرسل لهم الروح المعزّي (يو 14، 16-17)، وعندما قام من الموت أعطاهم الروح القدس بعد أن نفخ فيهم (يو20/ 22) ولقد حصلوا عليه في العنصرة عندما اعتمدوا بالروح عينه. (أعمال 1/ 5). ثم بدأ الرسل تبشيرهم بعد صعود يسوع إلى السماء وكانوا يعمّدون الناس ويعطونهم الروح. فلمّا حلّ الروح على الرسل في العليّة أخد بطرس يعلّم الأخوة "فلمّا سمعوا ذلك الكلام تفطرت قلوبهم، فقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نعمل أيها الأخوة؟ فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل منكم باسم يسوع، لغفران خطاياكم، فتنالوا عطيّة الروح القدس" (أعمال 2/ 37-38) إذاً المسيحي يحصل بالمعموديّة على عطيّة الروح القدس شخصياً (روما 5، 5)، فيسكن فيه الروح القدس (2طيم 1، 4) وكأنه يسكن في هيكله ( 1كور 3، 16). والقديس كيرلس الإسكندري يشدد على هذا الحضور ويشرحه بأنه حضور حقيقي ليس كحضور "الاستنارة" في أذهان الأنبياء، بل حضور فعلي "فالذين يؤمنون بالمسيح، يجعل الروح القدس فيهم مقامه لكي يسكن، وبكل حق يمكننا أن نناديهم هياكل الله". هذا هو الروح القدس. يجمعنا في "المحبة الأخوية" بقلب الكنيسة التي يحييها. يقول مار بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس "فإننا اعتمدنا جميعاً في روح واحد لنكون جسداً واحداً، أيهود كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وشربنا من روح واحد". (1 كور 12، 13). وهذا الروح يعطي فينا حياته، فنحيا به. فكل ما يشكل حياة المعمّد ليس إلا ما يسميه مار بولس "ثمر الروح" أي "المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان" (غلا 2/ 22). فهذه "الحياة في الروح" يعترضها خطران: خطر "الجسد" وخطر "الحرف". الجسد هو خليقة الله وهو محترم، إلا انه بفعل الخطيئة أصبح هو "جسد الخطيئة" (روما 6/ 6) و "جسد الموت" (روما 7/ 24). فالمعموديّة هي تطهير للجسد ليس بأيدي بشر، بل بالشركة في موت يسوع وانتصاره على الخطيئة بالقيامة، يصبح هذا الجسد يعيش في حياة جديدة "بحسب الروح". ولكن هذا الجسد لا يزال عرضة للشهوات التى تعاكس الروح. من هنا الدعوة الى "صلب الجسد وما فيه من أهواء وشهوات" (غلا 5/ 24). المطلوب "الموت كل يوم" (1 كور 15/ 31) حتى نحيا في حريّة الروح، "لأن الرب هو الروح، وحيث يكون روح الربّ، تكون الحريّة". (2قور 3/ 17). أما الحرف، أي التمسّك بحرفية الشريعة، والرسول بولس بشّر "بعثار الصليب لليهود" (غلا 2/ 4).
لأن الحرف يقتل أما الروح فيحيي. لذلك يحرّضنا كما حرّض أهل روما "اما الآن، وقد متنا عما كان يأسرنا، فقد حُلِلنا من الشريعة واصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم". (7/ 6). فالروح القدس هو إذاً مبدأ الحريّة لأنه مبدأ الحياة الداخليّة، انه يعمل في داخلنا، في قلوبنا (روم 5/ 5). فالقلب هو مركز الحياة في الإنسان، انه مركز كل العواطف وكل الأفكار والمعرفة. ومتى جاءت شريعة الروح لتعمل فيه من داخل فتدفعه إلى عيش الحياة في الروح. فما هي هذه الشريعة، انها الشريعة التي "لم تكتب بالحبر بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح من حجر، بل في ألواح هي قلوب من لحم" (2قور 3/ 13).
هكذا عندما نعيش كمؤمنين الشريعة، لا تعود بالنسبه إلينا ثقلاً وحملاً، بل نتبعها بكل بساطة وسلامة. لا نسير وراء الشريعة بخوف العبيد، بل بالعكس نعتنقها بحرية الأبناء الذين حصلوا على النعمة. هكذا فالروح القدس يعلّمنا كيف نكون أبناء على مثال الإبن البكر يسوع المسيح. فإذا كنا نشكل كلنا جسد المسيح السرّي، فإن هذا الجسد عليه أن يعيش من روح المسيح. هذه الحقيقة التي يعلّم القديس توما الأكويني، تنطبق على الكنيسة كلها لأنها جسد المسيح وتنطبق على كل مؤمن فيها لأنه عضو في هذا الجسد. هكذا نصل في النهاية إلى تحديد حياتنا في الروح بأنها العيش بحسب الإنجيل. في الختام، إذا اردنا أن نجمع كل المعطيات في لائحة أو لوحة موحّدة نصوّرها كما يلي: عمل الروح القدس الموت والقيامة الإيمان المسح بزيت المعموديّة وزيت الميرون المياه ورمزيتها الكفر بالشيطان تبريك المياه التغطيس او السكب إعلان الإيمان بيسوع وكنيسته صلوات حلول الروح القدس النور والشموع قانون الإيمان
الثياب البيضاء التعليم
الزياح والفرح دور العرابين
التقسيم على الطفل
وفي النهاية نطرح على ذاتنا السؤال لكي يرافقنا في مسيرة نموّنا الروحي: - كيف أجعل من معموديتي حياة جديدة؟ أي كيف أحيا إيماني كل يوم، ما هي عمليّة موتي وقيامتي كل يوم، وكيف أكون هيكلاً ليعمل فيه الروح القدس كل يوم؟ آميـن
|