أبانا الذي في السموات
إنّ الصلاة الربانيّة معروفة بـ أبانا. ندعوها الصلاة الربانيّة، لأنّ المسيح نفسه علّمنا إيّاها ولهذا، تشدّد الكنيسة عليها في الخدم اليوميّة، و في سرّ الشكر الإلهي.
إنّ هذه الصلاة هي جزء من العظة على الجبل التي كوّنت القانون المسيحي. وقد أحبّ آباء الكنيسة هذه الصلاة كثيرًا، لأنّ المسيح كما ذكرنا هو الذي علّمنا إيّاها، وصارت وصيّة منه لأنّها تحمل قوّة كبيرة. وسنستند في التفسير على تقليد الكنيسة، وعلى آباء الكنيسة ومفسرين آخرين.
في البدء، وهذا التوضيح من المفسرين: أنّ الدعاء شيء، والصلاة شيء آخر. فالدعاء وعدٌ، نذرٌ إلى اللّه، بينما الصلاة هي التماس الصالحات، هذا في حالة صلاة أبانا. وفي نفس الوقت اصطلاح الدعاء هو وعودٌ نعبّر بها عن الآخرين، كمثال لذلك أن يكونوا بخير، أن يكونوا بصحة جيدة. الخ. بينما الصلاة هي ابتهال إلى اللّه.
العبارة الأولى للصلاة هي استدعاء الله: أبانا الذي في السموات. في هاتين العلامتين ستتمركز صلاتنا.
أولاً: بالاستدعاء أبانا. وبهذه الافتتاحيّة نسمي الله أباً، وهكذا نعبّر إيمانيًا أنّه لدينا أبٌ ولسنا أيتامًا. والله أبانا سيلبي كلّ مطالب الصلاة بإيمان غير متزعزع به، لأنه ولا أيّ أب يحرم أبناءه من خيراته عندما يطلبونها منه. ونسمي الله أبـًا معترفين بالتبني، أي مستحقين ان نكون أبناءً بنعمة الله. كلّ خيرات الله التي سنحصل عليها بكوننا بعلاقة أخوية مع ابن الله الوحيد ونحصل موهبة الروح القدس. وبالتالي لنا شركة مع الثالوث القدّوس.
بالحقيقة عندما نسمي الله أبًا فهذا يعني أنه يجب أن يكون لدينا انتماء وحياة، حتى لا نبدو غير مستحقين لهذا النسب الشريف.
والصلاة بدأت بالعدد الجمع، أي نقول أبانا، لهذا فمع هذه العبارة ندّل أننا والآخرين إخوةٌ، ولسنا وحدنا فقط على الأرض، ولسنا نحن من لدينا الله أبًا، أي لسنا نحن وحدنا أبناء. هكذا، وبالأخص في الكنيسة، هناك قرابة روحية بين كلّ البشر مستقلة عن تقسيمات متنوعة، من جهة الامتيازات والخيرات المادية. ولهذا وبوجود هذه القرابة الروحيّة لا يستطيع الإنسان أن يؤذي ذوي القرابة والاختلافات الأرضية بين البشر. وبالتالي فإنّ العبارةَ الأولى لهذه الصلاة تركّزُ على التساوي والأخوية بين كلّ البشر.
أما العبارة الثانية في السموات معها ندّل على أن أبانا قاطنٌ في السموات. وباعترافنا أنّ الله يسكن في السموات لا نعني أنه يجب أن نجعل اللّه في السموات، بل علينا في ساعة صلاتنا أن نبعد أذهاننا عن الأرض وأن نحدّق في السموات. يجب أن تتمركز الصلاة في الذهن لنتشارك مع اللّه. وبهذه الطريقة أرانا المسيح وطننا الحقيقي الذي هو السماء حيث نجد بيتنا الأبوي فيه. فنحن على هذه الأرض غرباء، نزلاء.الخ. ويجب أن نشعر أن هدفنا هو السماء. فمن منّا لا يريد أن يعود إلى وطنه بعد نفيه؟ ولهذا تحدّثت عن السماء، ولا أعني بها المسافة الفارغة بينها وبين الأرض، وإنّما الحياة المتألهة والمقدَّسة المعتقَة من الخطيئة والأهواء والموت.
فالعبارة الأولى للصلاة الربانيّة، ترفع أذهاننا إلى أبينا وبها نهتدي إلى وطننا الحقيقي. لكن الأفضل أن نصلّي باستمرار. أمّا نحن فنقول هذه الصلاة كأننا أيتام ونريد بها أن نخلد على الأرض، فجاذبية الأرض وسحرها وقتية، ونصلّي أيضًا لأن نكون أبناء الله الوحيدين. افتتاحية الصلاة، توّجه ذهننا وترشده إلى وطننا وتجعلنا نرغب بالآب والوطن السماوي، وأيضاً نكتسب عمق تأثيرها بالأخ المسيح من جهة وبقرابتنا الروحيّة مع القدّيسين وكلّ أعضاء الكنيسة من جهة ثانية.