هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على سقوط الشيوعية على يد "ميخائيل جوربتشوف"؟
س63: هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على سقوط الشيوعية على يد " ميخائيل جوربتشوف "؟
ج: وُلد " ميخائل سرجيفتش جورباتشوف " في 2 مارس 1932م بعد إعلان الثورة السوفيتية سنة 1917م بنحو خمسة عشر عامًا، وكان والده يعمل ميكانيكي زراعة في مزرعة جماعية تابعة للدولة، وكان يحكم البلاد حينذاك " ستالين " خليفة " لينين " والذي أتبَّع نفس سياسة القمع واضطهاد المؤمنين وأضاف عليها أضعاف أضعاف، وعندما كان " ميخائيل " في نحو السادسة من عمره سنة 1938م تعرَّض للقبض عليه من السلطات بحجة أنه عضو في منظمة معادية للثورة، وبالرغم أنه نفى هذه التهمة عنه بشدة، وكان يؤكد لهم براءته من هذا الاتهام، إلاَّ أنه تعرَّض للضرب الشديد بلا رحمة، حتى أنهم كسروا ذراعه من خلال الضغط عليه في الباب، وأجلسوه على موقد ساخن، ووضعوا عليه معطف الغنم المبلل، وبعد أنه نال عذابات شديدة أُفرج عنه عندما تأكدوا من براءته. وعندما شبَّت نيران الحرب العالمية الثانية كان " ميخائيل " في التاسعة من عمره، شاهد الحروب التي دارت بين القوات الألمانية الغازية وبين القوات السوفيتية المدافعة وعاين الجنود الروس وهم ينسحبون في خزي وكآبة، وقد ارتسم الحزن مع الشعور بالذنب على وجوه هؤلاء الجنود، وسمع صوت الانفجارات الصادرة من المدافع الثقيلة ورأى السهام النارية تعبر في السماء مع صوت الصفير المخيف وحرب الشوارع التي دارت رحاها، ومعركة ستالنجراد، وموت ملايين من الإتحاد السوفيتي، كل هذا ترك ذكريات أليمة لدى " ميخائيل جورباتشوف " الذي أدرك وهو في عمره هذا أهوال الحروب.
وفي سنة 1953 مات "ستالين" وكان عمر "جورباتشوف" حينئذ واحد وعشرين عامًا، وقد درس القانون في جامعة موسكو، فالتحق بالحزب الشيوعي، وكان يمثل الجيل التالي للثورة، وظل " ميخائيل " يتدرج سريعًا في مستويات الحزب، ولاسيما أنه عُرف بنشاطه وهمته في العمل، فصار موضع ثقة القيادات المركزية في موسكو في عصر " بريجنيف"، وكان يتولى رئيس جهاز المخابرات السوفيتية في ذلك الوقت " أندروبوف " الذي كان مطلعًا بكافة الأمور، ويدرك حقيقة الوضع داخليًا وخارجيًا، ومدى تردي الأوضاع وتفشي الفساد بين القيادات الحزبية السوفيتية، ومدى التفوق الأمريكي الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري.
وأراد " أندروبوف " إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فجمع حوله القيادات الشابة المخلصة لوطنها، والتي لم يصبها العفن على حد تعبيره، فكان في طليعة هذه القيادات " ميخائيل جوباتشوف " ونجح " أندروبوف " في معاونة هذه القيادات ومساندتها، حتى تولت مناصب قيادية هامة،ودفع " أندروبوف " بميخائيل جورباتشوف إلى " اللجنة المركزية للحزب " ثم إلى " المكتب السياسي للحزب"، فصار جورباتشوف واحد من أثنى عشر رجلًا يحكمون الإتحاد السوفيتي، وقبل أن يتمكن " أندروبوف " من تطبيق سياسته في إصلاح الأوضاع السائدة، وافته المنية فجأة سنة 1984م، فخلفه " تشميننكو " رئيسًا لجهاز المخابرات السوفيتية، ومات سنة 1985م، فأصبح " ميخائيل جورباتشوف " في الصدارة، فتم اختياره أمينًا عامًا للحزب الشيوعي في مارس سنة 1985، ثم رئيسًا للإتحاد السوفيتي سنة 1988م.
وتولى " ميخائيل جورباتشوف " السلطة وكانت نفسه عطشى للقضاء على الفساد، فطرح على العالم اصطلاح " الجلاسونست " أي شعار " المصالحة والمكاشفة"، فأطلق حرية التعبير لكشف الفساد والقضاء عليه، والأفواه التي كُمّمت على مدار نحو سبعين عامًا نطقت وصاح صوتها مسموعًا في الإتحاد السوفيتي الذي طالما قمع الحريات، وسفك دماء الملايين، وسريعًا ما طرح هذا البطل الهمام اصطلاحا آخر وهو " البيروسترويكا " التي ترجمها الكثيرون إلى " إعادة البناء " فانتشرت انتشار النار في الهشيم، وأخذ الكثيرون يرددونها حتى وإن لم يدركوا معناها، ولكن الجميع في الإتحاد السوفيتي كانوا سعداء بهذا الاصطلاح لأنه يحمل لهم بشرى الإصلاح والتجديد والبحث عن الأفضل.
أما الوضع الأمريكي فقد أعلن " رونالد ريجان " بأن أمريكا لن تسمح لأي دولة أخرى في العالم بالتحوُّل إلى النظام الاشتراكي، وأنها ستبذل قصارى جهدها للقضاء على هذه الإمبراطورية الشريرة، ووجد " ميخائيل جورباتشوف " تشجيعًا كبيرًا من الغرب وأمريكا، وعندما زار " ميخائيل جورباتشوف " بريطانيا، والتقت به " مسيز تاتشر " رئيسة الوزراء امتدحته كثيرًا على فكره المتسع وعلى مجهوده في حركة إعادة البناء، وسرت موجة حماس عالمية لشعار " البيروسترويكا".
وفي الداخل أنطلق " ميخائيل جورباتشوف " بروحه الخفاقة يزور البلاد، ويجتمع ببساطة مع الفلاحين والعمال، ويقول لهم " تعالوا نتجدد.. فالتجديد يبدأ منا نحن.. وعلينا أن نغير ما في أنفسنا بكل حزم وإصرار" (173). وفي اتضاعه كان " ميخائيل جورباتشوف " يتحدث باسم المكتب السياسي متفاديًا الحديث أو الإشارة إلى نفسه، وكأن المكتب السياسي هو صاحب قرار التغيير وإعادة البناء وليس هو، بل وتنازل للمستوى الشعبي للفلاحين والعمال حتى سمح لهم أن يخاطبونه باسمه مجردًا بعيدًا عن أية ألقاب من الرئيس أو الرفيق أو غيرهما، فسحر الناس بتواضعه وصدقه، وقد افتقدهم بعد عشرات السنين من الذل والمهانة.
وفي 17 يناير 1987م في الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب تكلم الرجل الشجاع " ميخائيل جورباتشوف " عن إهمال الرقابة، حتى صارت الملكية العامة كأنها بلا مالك، وهو ما تردَّد فيما بعد في مصر بأن القطاع العام ليس له صاحب، وفي شجاعة نادرة غير مسبوقة أنتقد ما أصاب أعضاء الحزب على جميع المستويات من فساد، ورشاوي، ودخول طفيلية، وتعاطي الخمور، والإسراف، مما أثقل كاهل الشعب الذي يئن تحت ثقل هذا الفساد، فلابد من التغيير، ولا بديل له، وقال " نحن الآن نتحدث محدقين أحدنا في عين الآخر.. لكن بودي أن أقول مرة أخرى: لا تردد أبدًا.. علينا أن نغير ما بأنفسنا بكل حزم وإصرار.. على الكل أن يفعلوا" (174) واستجاب الشعب السوفيتي لهذا النداء استجابة مدهشة، وأحس أن عملية التغيير هذه هي بمثابة الأكسجين الذي يتيح إنقاذ الإنسان الذي يتعرَّض للاختناق.
وفي 25 ديسمبر سنة 1991م انتهت " البيروسترويكا " إلى حل الإتحاد السوفيتي بعد أن أقنع " جورباتشوف " الشعب السوفيتي بأن الديمقراطية هي الحل الوحيد، والوسيلة الوحيدة للتغيير، وبعد أن فتح قنوات للحوار بين السوفيت والغرب، وبعد أن سقطت المحرمات والمقدَّسات الشيوعية وتم التغيير بطريقة ثورية، وبدون إراقة قطرة واحدة من الدماء، وبدأت التعددية السياسية، وحرية الأديان، وسياسة الاقتصاد الحر والمنافسة، وسُمح بالملكية الخاصة، وكان من المفروض استكمال " البيروسترويكا " ولكن بسبب محاولة الانقلاب التي قام بها المعارضون للإصلاح سنة 1991م مما أضعف سلطة " ميخائيل جورباتشوف " كرئيس للإتحاد السوفيتي، كما أتفق قادة روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا على حل الإتحاد السوفيتي، فتم الحل بدون استكمال " البيروسترويكا". وفي هذا اليوم سجل التاريخ تهاوي الشيوعية وسقوطها بعد أن فشلت في منح الإنسان النجاح والسعادة. وصاحب حل الإتحاد السوفيتي مشاكل اقتصادية جمة، فانخفض إحتياطي الذهب من 2500 طن إلى 240 طن، وأرتفع ثمن كيلو اللحم من 2 روبل إلى مائة روبل، وارتفعت البطالة من صفر إلى 15 مليون، وبعد أن كان سعر الدولار 6ر0 من الروبل أصبح يساوي 1200 روبل، وصار أكبر جيش في العالم يبلغ 5ر3 مليون شخص يعاني من ضيق اليد، فبدأت عمليات بيع السلاح، وتداعت البحوث الفضائية بعد أن كان الإتحاد السوفيتي على قدم وساق مع الولايات المتحدة في أبحاث القضاء، وبدأت فترة احتضار النظام السوفيتي (راجع عبد الستار الطويلة - سقوط الحلم الشيوعي ص 129 - 136) وهذا لم يكن في قصد " ميخائيل جورباتشوف " على الإطلاق، ولم يكن قصده الاستسلام أمام النموذج الأمريكي، إنما كان قصده أن يستكمل منح المزيد من الحرية للشعب، وأن يستكمل التغيير المنشود. كما صرَّح بأن الصرب أيضًا وأمريكا يحتاجون إلى " البيروسترويكا " بالطريقة التي تناسبهم. أما مفكروا الغرب فقد ظنوا أنهم في منأى عن المشكلات التي واجهها الإتحاد السوفيتي. ولكن عندما جاءت الأزمة الاقتصادية سنة 2008، 2009م أتضح أن النموذج الغربي كان مجرد وهم، وأنه أفاد بالأكثر الأغنياء، ونال " ميخائيل جورباتشوف " جائزة نوبل للسلام.