هل هناك أمور معصومة وأخرى غير معصومة في الكتاب المقدس؟
س9: هل يمكن أن تكون هناك أمورًا معصومة في الكتاب المقدَّس مثل الأمور اللاهوتية، وأخري غير معصومة مثل الأمور العلمية؟
ج: هذا ما نادي به أصحاب النقد الأعلى، فقالوا أن العصمة في الكتاب المقدَّس تخص الأمور اللاهوتية والعقائدية والروحية والأدبية، أما الأمور التاريخية والجغرافية والعلمية فمشكوك فيها، لأن الكاتب ابن عصره، فهو يكتب من معارف عصره البدائية، بما ساد فيها من أساطير وخرافات، وأين موسي الذي كتب قصيدة شعرية في أيام الخلق من علماء الفلك والطبيعة والجيولوجيا في العصر الحديث، وقالوا أن الأخطاء المتوقعة في هذه المواضع ترجع لضعف الطبيعة البشرية ولا تمس سلامة ولا قدسية الوحي، ومن ثمَّ يجب الاعتراف بها وشبهوا ذلك بالشعاع النقي الذي ينفذ من زجاج نافذة تعلق به ذرات التراب، فإن الشعاع النافذ لن يكون في نقاوته الأولي وضيائه الأول (راجع كتابنا: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها ج2 ص121 - 132).
ونحن في الرد علي هذا الفكر المنحرف، وفي عجالة، نود أن نؤكد على الحقائق الآتية:
1 - وحي الكتاب المقدَّس وحُي مطلق: فكل ما جاء في الكتاب المقدَّس سواء أمور لاهوتية أو تاريخية، روحية أو جغرافية، أدبية أو علمية، جميعها موُحى بها من الله (2 تي 3: 16، 2 بط 1:21)، وبالتالي فإن جميعها معصومة من أي خطأ يظنه الإنسان ويقول "جوش مكدويل": "العصمة تعني أنه عندما تتكشف كل الحقائق وتُترجم الكتب من أصولها، وتُفسَّر بشكل صحيح، فإنها حينذاك ستكون كلية الصدق في كل ما يكتب به، سواء كان الكلام عن المعتقدات، أو الأخلاقيات، أو العلوم والمبادئ الاجتماعية، أو الطبيعية للحياة " (29).
2 - من ينسب الخطأ لجزء من الكتاب فإنه في الحقيقة ينسب هذا الخطأ لصاحب الكتاب: فإن سلمنا بضعف الكاتب ومعارفه المحدودة، فأين هنا دور الروح القدس المرافق للكاتب يعلمه ويرشده ويعصمه؟!! هل عجز الله عن إنتاج كتابًا خاليًا من الأخطاء؟!! وهل عجز أن يحفظ للأداة البشرية نقاوتها حتى تنطق بكلماته دون أن توهنها أو تصيبها بالضعف؟!!
ويقول "د. ادوار ج. يونج": "النص الأصلي لكلمة الله والذي صدر من فم الله، معصوم، وأن أي تهاون، في قبول هذه النتيجة، لا يضع الكتاب نفسه في خطر، بل أكثر من ذلك يضع الله ذاته في كرامته وصدقه ومجده في أدق المواضع.. إن تصوَّر أن النص الأصلي لكلمة الله خاطئ، وغير معصوم يعني أن الكلمة التي خرجت من فم الله ليست كاملة، وأن إله الحق نفسه مُدان بالذنب، وإذا كانت كلمة الله باطلة، وهو مُدان بالبعد عن الحق، فإنه يُبتنيَ علي تلك النتيجة التي لا مهرب منها، وهي أن الديانة المسيحية ديانة باطلة" (30).
ويقول "جوش مكدويل": "الكتاب المقدَّس هو كلمة الله.. والله لا يخطئ أبدًا (عب 6: 19، تي 1: 2) وأن ننكر عصمة الكتب المقدَّسة، فإننا بذلك نطعن في كمال الله، أو نشك في كون الكتاب المقدَّس هو كلمة الله.
تستلزم صفات الله العصمة، وإذا كانت كل عبارة في الكتاب المقدَّس هي من الله، والله هو الحق، كما أعلن عنه الكتاب، لذا يجب أن يكون الكتاب المقدَّس كله حقيقي وصحيح، وهو معصوم من الخطأ، قال يسوع عن كلام الله " كلامك هو حق" (يو 17: 17).. إذًا فالتحليل النهائي يخلص إلي أن أي هجوم علي الكتاب المقدَّس هو هجوم علي صفات الله" (31).
3 - الله قادر أن يحفظ كلمته نقية رغم الأداة البشرية الضعيفة: وقد أكد الكتاب هذه الحقيقة " كل كلمة من الله نقية" (أم 30: 5) ويصحح "وورفيلد" تشبيه الشعاع والزجاج فيقول "كما أن الضوء الذي يمر في الزجاج الملون لنافذة الكاتدرائية يتأثر بألوان الزجاج الذي يمر فيه، هكذا كلام الله يمر بعقل ونفس الإنسان، فيخرج وهو يحمل طابع الشخصية التي مرَّ بها، وانه عند هذه الدرجة يكف عن أن يكون كلمة الله النقية الصافية -كقول النُقَّاد- ولكن ماذا لو أن هذه الشخصية قد شكلتها وصاغتها يد الله، بحيث تصبح منسجمة تمامًا مع كلمته، وبحيث يخرج الضوء منها محتفظًا بخواصه الأصلية، وبحيث يتحقق بذلك قصد الله في توصيل كلمته صافية للناس" (32).
ويؤكد " الأب جورج فلورسكي " علي أن الإنسان الذي جُبل علي صورة الله قادر علي أن ينطق بكلمات الله دون أن يصيبها الوهن فيقول "إن الكتاب ينقل إلينا كلمة الله في لغة بشريَّة. فالله كلَّم الإنسان بالفعل، وهذا يفترض وجود من يسمع الكلمة ويعيها.. لا مجال هنا للانزلاق نحو الضعف البشري، لأن اللسان البشري لا يفقد خصائصه الطبيعية عندما يصير عربة للإعلان الإلهي.. إن الإلهام الإلهي لا يمحو العنصر البشري.. ومادام الإنسان مخلوقًا علي صورة الله ومثاله فهو يقدر أن يعبّر عن كلمة الله بكلماته البشرية بشكل كاف وصحيح، لان كلمة الله لا تخفت عندما ينطق بها لسان بشري.. وعندما ينفخ الروح القدس في نظام اللغة البشرية يقدر الإنسان، أن ينطق بكلام الله" (33).
4 - لو سلمنا بضعف الطبيعة البشرية مما ترتب عليه بعض الأخطاء التاريخية والجغرافية والعلمية، فمن الذي يضمن لنا أن الأمور اللاهوتية والعقائدية والأدبية لم يشبها الخطأ أيضًا..؟! أليس الكاتب واحد..؟! وكيف يكون الكتاب الواحد معصوم وغير معصوم في آن واحد..؟! وأي كتاب تشوبه الأخطاء هل يمكن الثقة فيه..؟! أليس القضية التي تفقد مصداقيتها في جزئية منها هي قضية خاسرة أمام القضاء العادل؟!
ويقول "د. اميل ماهر " عن عصمة الكتاب الكاملة " لا يكفي فقط أن نقرر أن الكتاب موحي به وله سلطان، إنما لابد أن نعترف أيضًا بأنه مُنزَّه عن الخطأ (Inarrancy) ومعصوم (Infallibility ) ونعني بذلك أنه بدون أخطاء في مخطوطاته الأصلية. فهو مُنزَّه عن الخطأ في كل ما يؤكده، سواء كانت هذه أمور تاريخية أو علمية أو أخلاقية أو عقائدية والتنزَّه عن الخطأ يمتد إلى الكتاب كله، ولا يقتصر علي تعاليم معينة في الكتاب".
5 - لا يمكن فصل الأمور الإيمانية عن الأمور التاريخية : من يستطيع أن يفصل الأمور الإيمانية عن الأمور التاريخية إن كان الاثنان ممتزجان معًا..؟! أليس التجسد وحياة السيد المسيح على الأرض وصلبه وموته وقبره وقيامته وصعوده وكرازة الرسل ومجيئه الثاني، كل هذه حقائق إيمانية، وفي نفس الوقت هي حقائق تاريخية..؟! الإصحاح الأول في الكتاب المقدَّس الذي يتكلم عن الله الخالق وهذه حقيقة إيمانية، ويتكلم عن أيام وترتيب الخلقة وهذه أمور زمنية، من يقدر أن يفصل هذه عن تلك..؟! متى ينتهي الإيمان ويبدأ التاريخ؟! ولو كان هذا الإصحاح غير معصوم فلماذا لم يأخذ موسي من معارف عصره من أساطير الخلق السومرية، والمصرية، والبابلية (الاينوما إيليش) وعندما كتب عن الطوفان وهو موضوع تاريخي، وبالتالي فهو في نظرهم غير معصوم، فلماذا لم يأخذ موسي من أسطورة جلجاش؟! (راجع كتابنا: هل اخذ سفر التكوين من الأساطير؟).
حقًا إن محوتَ التاريخ فقد أزلتَ الإيمان، والإيمان لم يصل إلينا إلاَّ علي أجنحة التاريخ، والله هو العامل في التاريخ وجاء في معجم اللاهوت الكتابي عن الوحي " يقوم الدين الذي يُقدّمه لنا الكتاب المقدَّس على أساس من الوحي التاريخي.. يبدو الوحي من الكتاب المقدَّس أنه حقيقة تاريخية يمكننا التحقق منها.. فالإيمان إذًا بالنسبة إلى المسيحي يعني قبول هذا الوحي الذي يصل إلى البشر محمولًا علي أجنحة التاريخ" (34).
وردًا على القائلين بأن الكتاب المقدَّس يحوي أخطاء تاريخية يقول "جوش مكدويل": "أما روبرت ديك ويلسون المُلم بأكثر من خمس وأربعين لغة، فبعد أن أمضي حياته في دراسة العهد القديم خلص إلي ما يلي: يمكنني أكثر فأكثر إلى تعميق إيماني بأن لدينا من خلال العهد القديم سجلًا تاريخيًا صحيحًا لتاريخ الشعب الإسرائيلي" (Wilson: WB.42 )